خلال ساعات معدودات، أثبت الرئيس الروسي فلاديمير بوتن أنه يتلاعب بالثوار السوريين بل بالرئيس التركي نفسه، ليكتشفوا أنهم وقَّعوا على اتفاق مختلف جذرياً عن النسخة التي وقعها النظام الأسدي والتي اعتمدها مجلس الأمن باستخفاف وكأنها فاتورة لمصروفات الشاي في المجلس!!
فهل وقع أردوغان في الفخ الروسي أم أنه تغابى لانعدام البدائل؟
مهزلة مكشوفة
أحصى الناشطون 77 خرقاً لوقف إطلاق النار في سوريا خلال ثلاثة أيام فقط من دخول الاتفاق حيز التنفيذ، وقد صدرت تلك الانتهاكات جميعاً عن عصابات الأسد وشركائها المجوس الجدد!!
وهذا مؤشر جلي على هزلية الاتفاق الذي أبرمه الروس مع عدد من فصائل الثوار بالتنسيق مع تركيا؛لكنه ليس سوى انعكاس طبيعي للخديعة الروسية الرخيصة التي انطلت على أردوغان الذي مارس ضغوطاً كبيرة على الفصائل السورية لكي تقبل باتفاق مليء بالثغرات والعيوب الفادحة الفاضحة. لم تمر الخدعة البائسة نتيجة ذكاء الروس وإنما بسبب غباء الطرف الآخر، بل تغابيه المتعمد لأنه فاوض وليس بعد أن بدد ما لديه من أوراق ضغط..بل إن الكرملين نجح في تفريغ الموقف التركي من محتواه وجعله ورقة ضاغطة على الثوار، الذين ابتلعوا مهانة مكشوفة لـ"يربحوا" توازناً على الورق ليس له أدنى أثر في أرض الواقع.
وليس أدل على هذه الهزيمة الـمُقَنَّعة من استكانتهم لخروقات العدو للاتفاق، وتعامي روسيا التي "ضمنت" إلزامهم به عن تلك الخروقات المنهجية.
خسائر إستراتيجية
حتى الموضوع الكردي لم ينجح فيه أردوغان: تجميد جيشه عند حدود الباب وبينما تزيد أمريكا من الأسلحة التي تزود بها ملاحدة الكرد نوعاً وحجماً، فإن روسيا تتخذ منها ورقة لابتزاز تركيا لا أكثر..
في مقابل هذا المكسب الوهمي –كبح السرطان الكردي- قبلت تركيا تسوية مذلةتقبل صراحة ببقاء الطاغية ونظامه وتغض الطرف عن العدالة، وعن خروج الميليشيات الأجنبية وإيران، وتتناسى عودة المهجرين … كما أجبرت المعارضة السورية التي تقع تحت النفوذ التركي على القبول بهدنة جزئية من طرف واحد، مبررة ذلك بمحاولة وقف المزيد من الخسائر التي تتعرض لها المعارضة، وهي تدعي بقاء كل القضايا معلقة للتفاوض (بخلاف إعلان موسكو الصريح) وترفق ذلك بإطلاق سلسلة طويلة من الإشاعات الكاذبة عن رحيل الأسد وخروج الميليشيات (التي لا أساس لها من الصحة) لإسكات الرفض الشعبي وخيبة الأمل التي تسببت بها بهزيمتها المزدوجة عسكريا ثم سياسيا …
ورضخت معظم الفصائل "الإسلامية" للتفاوض مع النظام المستبد برعاية العدو الروسي على أساس إعلان موسكو الذي يعتبر سوريا دولة علمانية، وأن اسقاط الأسد ممنوع!
وأجدني أبصم بالعشر –كما يقال- للكاتب السوري حكم البابا عندما لخَّص الوضع الجديد بقوله: السوريون بدون ذاكرة، وأغبى مافي الأمر أنهم يصدقون أن روسيا التي تقصفهم وتقتلهم منذ أكثر من عام مهتمة بوقف إطلاق النار أو أنها ستضغط على حلفائها الأسد وإيران وحزب الله من أجل حمايتهم، أو أنها تقيم وزناً لتركيا وتريد أن تجاملها على حساب حلفائها، أو أن أسامة أبو زيد وحسن الدغيم وباقي الذين فاوضوها استطاعوا أن يلعبوا بعقلها ويغيًروا مواقفها، أو أنها مزنوقة عسكرياً واقتصادياً وتبحث عن مخرج ووجدته في اتفاق وقف إطلاق النار.
يجب أن نفرق بين حاجة المدنيين السوريين للعيش بدون قصف يومي، وبين أن روسيا حليفة نظام الأسد الصدوقة، والتي لم تتراجع عن قتلها للمدنيين أمام اعتراضات المجتمع الدولي كله، وينبغي أن نتساءل ما الذي منحه لها المفاوضون وتركيا حتى قبلت بوقف إطلاق النار وهي الخارجة منتصرة من معركة حلب.
خففوا من تصديق البطولات الوهمية التي تُطلق في المؤتمرات الصحفية التلفزيونية، فروسيا ومن خلفها إيران ونظام الأسد لن يعطوا السوريين بالمفاوضات ماحاربوا من أجله، ولو كان هؤلاء مهتمين بالتفاوض لما أفشلوا مؤتمرات جنيف، لمجرد أنها تمنح السوريين جزءاً ذليلاً من حقهم.
وتسويق وهم المفاوضين الأشاوس وتركيا الند لروسيا وهمٌ يباع للسوريين ليس أكثر!
الإجرام الأمريكي المتعمد
عبَّر الإستراتيجي الأميركي الصهيوني ريتشارد لوتواك، في وقت مبكر (25 أغسطس/آب 2013) عن الإستراتيجية الأمريكية الخبيثة إزاء مأساة السوريين، من خلال مقال بصحيفة نيويورك تايمز بعنوان: "في سوريا ستخسر أميركا إذا فاز أي طرف". فقد كتب لوتواك في المقال: "إن فوز أي من الأطراف سيكون غير مرغوب فيه بالنسبة للولايات المتحدة.. لذا يجب أن تكون حرب الاستنزاف هي هدف أميركا. والطريقة الوحيدة لإنجاز هذا هي تسليح المتمردين كلما بدا أن قوات الأسد في صعود، ووقف إمدادهم إذا ظهر أنهم سيفوزون في الواقع". ثم بيَّن لوتواك -دون مواربة- أن ما يقترحه ليس أكثر من وصف لواقع عملي، هو سياسة باراك أوباما تجاه الثورة السورية.
ثم جاء التدخل الروسي، فمنح الأميركيين ذريعة كافية للتسليم بسقوط الثورة بعد أن تحقق لهم غرض التهشيم. وليس بمستغرَب أن تقف أميركا هذا الموقف، إنما الغريب أن تلتزم الدول الداعمة للثورة السورية بالسقف الأميركي المتبني لهذا الموقف، فتحْرِم الثوار السوريين من السلاح النوعي الذي يحقق النصر، تقيُّدا بالرؤية الجهنمية التي صاغها صهاينة أميركا لمآلات الثورة السورية.
فتركيا –كما قال الدكتور محمد المختار الشنقيطي-تعاملت مع الملف السوري في البداية بمنطق إنساني تُشكر عليه وتُذكر، لكنها لم تتعامل معه بمنطق إستراتيجي شامل مدرك لما يجري في الإقليم بشكل عام. ولا يزال منطق المصلحة الوطنية الضيقة هو السائد في التعامل التركي مع الثورة السورية؛ فتركيا كانت -ولا تزال- هي الدولة الوحيدة في المنطقة المؤهلة لنصرة الشعب السوري عسكريا، لكنها أضاعت فرصا كثيرة حتى تراكمت التحديات وخرجت من يدها.
ويبقى من الإنصاف الاعتراف بأن وضع تركيا الداخلي والخارجي معقد للغاية، فهي دولة وفَّر لها موقعها الجغرافي فرصا عظيمة، لكنه قيدها بقيود كثيرة.. وتتسم السياسة الخارجية التركية -على عكس الإيرانية- بالحذر الشديد، والبعد عن المخاطرة والمغامرة، فهي سياسة تراعي القيود أكثر مما تستثمر الفرص.
والحقيقة أن الخازوق الروسي الأخير الذي سددته إلى صدر تركيا، ليس ثمرة عبقرية لديهم-وهم المتهمون تاريخياً بالغلظة والبلادة!!- وإنما قامت بصنعه واشنطن على مدى سنوات واختتمت خستها بتمرير الاتفاق الروسي التركي في مجلس الأمن بلا أدنى مناقشة.. وأما صاحب المنفعة الأول في الترتيب كله فهو الكيان الصهيوني، ولذلك
بحث رئيس الوزراء "الإسرائيلي" بنيامين نتنياهو والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في اتصال هاتفي، استمرار التنسيق العسكري بين البلدين في سوريا، بحسب ما أعلن مكتب نتنياهو. وجاءت هذه المشاورات الهاتفية قبل أن يصدر مجلس الأمن الدولي قرارا بالإجماع يدعم جهود روسيا وتركيا لوقف العنف في سوريا وعقد مفاوضات "سلام"!!
الإملاءات اليهودية
كشف معلق عسكري"إسرائيلي" بارز طبيعة الصفقة “المثلى” التي تتمنى تل أبيب أن يتوصل إليها كل من الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، والرئيس الروسي فلادمير بوتين، بشأن سوريا ومصر وتركيا والمنطقة بشكل عام.
وقال ألون بن دافيد: إن "إسرائيل" تفضل أن يتوافق كل من ترامب وبوتين على بقاء نظام الأسد في سوريا، بشرط أن يتم المسّ بمكانة إيران وحزب الله هناك.
وقال بن دافيد في مقال نشره موقع صحيفة “معاريف” صباح الأحد (1/1/2017): إن "إسرائيل" تتطلع أيضا إلى توافق أمريكي روسي على دعم نظام السيسي في مصر.
وفي ما يتعلق بتركيا، أشار بن دافيد إلى أن إسرائيل معنية بأن تقوم أنقرة بدور “إيجابي”، وأن يقتصر دورها على مواجهة تنظيم “الدولة الإسلامية” فقط، في إشارة إلى إلزامها بعدم التعرض للأكراد.
وسبق لصحيفة معاريف الصهيونية أن نشرت بتاريخ 21/12/2016 مقالاً عن الخيارات الممكنة لإنهاء الأوضاع في سوريا، انتهت بصراحة كانت ممنوعة لحماية عميلهم، فأكدت أن بقاء بشار هو أفضل خيار للكيان الصهيوني يفوق خيار التقسيم المتداول في الكواليس الإقليمية والدولية!
وقبل بضعة أيام من مقال معاريف المذكور، نشرت يديعوت أحرنوت مقالاً للكاتب رون بيرغمان تحت عنوان: لو أرادت "إسرائيل" لأوقفت المذبحة في سوريا (If it wanted to، Israel could have stopped the massacre in Syria)
ومع أن الكاتب تحدث من منطلق "أخلاقي وإنساني" فإن ما ساقه من سلوك قومه إزاء محنة الشعب السوري، أفضى إلى اعتراف غير مباشر بأن ساستهم يبذلون كل طاقاتهم للمضي في إبادة الشعب السوري، والمحافظة على عميلهم وابن عميلهم في السلطة!!
وسبق لرئيس الوزراء الروسي ديمتري مدفيدف، أن أعلن في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الماضيأن "إسرائيل" أبلغت روسيا أنها تعتبر الرئيس السوري بشار الأسد أفضل لها من سواه، رغم أنها لا تؤيده!!
وذكر مدفيديف أنه خلال أحد لقاءاته مع كبار المسؤولين "الإسرائيليين" -دون أن يذكر أسماءهم- أبلغوه بصورة واضحة أنهم لا يؤيدون الأسد بصورة كاملة، لكنهم عبروا عن رغبتهم في وجود من يستطيع السيطرة على الوضع الميداني في سوريا، وأن ذلك أفضل من سيطرة من وصفهم بالإرهابيين، وهو نفس الموقف الروسي!