إنها ظهيرة يوم 28 من يونيو عام 1914 حيث أطلق الصربي غافريلو برينسيب عضو التنظيم القومي الصربي اليد السوداء النار على فرانس فردناند وريث عرش الامبراطورية النمساوية/الهنغارية في سراييفو، لتعلن من بعدها النمسا الحرب على صربيا، وتتداعي الدول لنظم تحالفاتها التي أدت إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى، والتي كان أبرز نتائجها إسقاط الدولة العثمانية التي ورطها حزب الاتحاد والترقي في الحرب.
في الشهر ذاته، لكن في العام 1982 ، نفذت منظمة غامضة أيضاً محاولة لاغتيال السفير الصهيوني في بريطانيا، منظمة أبو نضال التي كانت على عداء مع منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات أقدمت على تنفيذ هذه العملية التي أسفرت لا عن استهداف أبي نضال وجماعته الغامضة، وإنما عن ترحيل مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان إلى تونس وتغييب المقاومة السنية إلى الآن من الجنوب اللبناني.. كان من أبرز نتائج اجتياح بيروت الذي اتخذ هذه العملية ذريعة له أن تشكل حزام شيعي يحرس الكيان الصهيوني في الجنوب اللبناني.
لم يكن غافريلو عثمانياً، كما لم يكن أبو نضال مجاهداً ولا مناضلاً ينشط بالجنوب اللبناني، لكن كانت تلك هي نتائج هذه المحاولتين، الناجحة والفاشلة.
تاريخ الاغتيالات حافل بعبثية لم تغير كثيراً من قواعد اللعبة أو الخرائط السياسية، لكن بعضها كان قاتلاً.. بعضها غير مجرى التاريخ.
عملية اغتيال السفير الروسي في العاصمة التركية أنقرة بدا كما لو كانت واحدة من تلك الأخيرة، ربما لن يغير التاريخ لكنه قادر على بعثرة كل الأوراق؛ فقبل أسابيع تحدثت يني شفق التركية عن اتفاق تركي/روسي مزمع لتحديد مصير حلب، ورسمت سيناريو مشابهاً لما جرى في المدينة السنية الأكبر في سوريا، وعلى الإثر تقاطرت مقاربات تحليلية عن مقايضة بين الأتراك والروس.. البعض كان أكثر تحديداً: حلب مقابل الباب، أو حلب بطريقة إدارية جديدة في مقابل الباب وإدلب آمنة، تقسيم الأمر الواقع، هكذا قيل.
لكن مهما يكن من تفسير؛ فإن التوقيت الذي اختيرت فيه العملية، وهدفها، وميدانها، موجع كثيراً للدبلوماسية التركية. ليس فقط، للاطمئنان إلى استخبارات تركيا وأجهزتها الأمنية، وقدرتها على حفظ الأمن؛ فالخروقات اتسعت على الراتق الأمني فيها. ليس فقط، لأجواء الاستثمار والسياحة أيضاً. ليس فقط، لمسار حافلات "الإخراج الآمن" من حلب (أو التغريبة الحلبية مثلما أطلق عليها).
"نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبداً"، هكذا كان يجيب المهاجرون والأنصار النبي صلى الله عليه وسلم حين كان يخاطبهم النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة"، كما في كتاب السير والجهاد، صحيح البخاري.. هكذا هتف قاتل السفير الروسي: "نحن الذين.."، وهكذا كان يقول بلسان الحال: "لست من البي كا كا اليساري.. أنا إسلامي، كمثل مقاتلي حلب.. كمثل الحزب الحاكم في تركيا.. هنا تجدون الانتقام.. لا تغركم المفاوضات".
اتخذت أنقرة إجراءات مشددة في أعقاب محاولة انقلاب 15 يوليو الماضي، وسرحت الآلاف من أتباع فتح الله غولن المتهم بالضلوع في تنفيذ المحاولة، حتى إنها استغنت عن عشرات الآلاف من المدرسين، وكان هذا الشرطي الشاب على ما يبدو ممن شملتهم يد التطهير الأردوغانية، أعلنت الشرطة في أنقرة أن مولود التنطاش قاتل السفير قد كان أحد أعضائها. أصابع الاتهام اتجهت على الفور إلى جماعة فتح الله غولن، هكذا توقع ياسين أقطاي الناطق باسم حزب العدالة والتنمية التركي، وعمدة أنقرة.. وأيضاً شاطرهما كثيرون الرأي.
وغولن يعني تلقائياً أن الولايات المتحدة غير بعيدة عن هذه العملية، وإذا كان غولن يأتمر بتعليمات السي آي إيه الأمريكية؛ فإن عملية بهذا الحجم لن تمر دون علمها وإقرارها كذلك. ويبدو أن موسكو استشعرت خلفيات العملية؛ فأصدرت إشارات إيجابية تجاه أنقرة عبر الدوما في خضم غضبها وثورتها على العملية التي قيل إنها وقعت في قاعة يؤمنها الروس أنفسهم!
كثير من السوريين والعرب عموماً عبر مواقع التواصل أبدوا سعادتهم بالعملية رغم كون القتيل سفيراً، وهي سعادة متفهمة في ضوء الإجرام الروسي، وعملياته الدموية الرعيبة في مدن سوريا المهدمة، فالجرح السوري أعمق من أن يفلح أحد بحثهم على ضبط مشاعرهم، لكن تفهم هذه "المشاعر" لا يؤثر كثيراً على حسابات تداعياتها المقلقة؛ إذ لربما سيبدي الروس مرونة حيال تمرير هذه الأزمة لكن بالتأكيد لن يكون دون ثمن، ولقد فدحت الأثمان على السوريين والأتراك معاً.
الملف فتح، ولن يغلق قريباً على ما يبدو، حيث هذا الاغتيال كان بنكهة الحرب، ليس في دوافعه فقط، لكن في تداعياته أيضاً.