إذا كانت استطلاعات الرأي الأخيرة، سواء ذاك الذي أجرته رويترز-إبسوس أو مؤسسة إن بي سي نيوز، وغيرهما قد أظهرت تزايد الفارق بين المرشحين لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، هيلاري كلينتون ودونالد ترامب بنسب تتراوح ما بين 5 – 14% من النقاط لصالح الأولى، وإذا كان معظم المحللين ووسائل الإعلام الأمريكية يتوقعون فوز كلينتون؛ فإن ما يسترعي الانتباه في هذه الانتخابات الأمريكية بالذات ليس حظوظ كلا المرشحين، ولا الركض خلف التوقعات والاستطلاعات، وإنما هو طبيعة الديمقراطية نفسها كوسيلة لتداول السلطة ومدى تعبيرها عن المزاج الشعبي حقيقة وتمثيلها لإرادات الشعوب.
نزعم أن ليس فوز ترامب، الشخصية التي تتجمل وسائل الإعلام عادة في تعبيرها حين تصفه بأنه "مثير للجدل" فحسب، في الانتخابات الرئاسية القادمة المقرر إجراؤها في 8 نوفمبر القادم، هو المؤشر الأوحد في هذه الانتخابات على غروب الديمقراطية الأمريكية، ودخولها في نفق الانفصام عن الواقع الجماهيري، وازدياد تعبيرها عن مصالح من يلعبون بالحزبين الأمريكيين العتيقين لعبة الكراسي الموسيقية، فسواء فاز ترامب، أو خسر؛ فإن الديمقراطية الأمريكية تشرع في مغادرة العصر الذهبي لها، وتجاوز إلى مرحلة الإفلاس والتردي.
مجرد وجود ترامب في صدارة المشهد الانتخابي كأحد المرشحين هو دليل دامغ على أن الديمقراطية الأمريكية قد أصابها عوار شديد، بغض النظر عن كل ما يقال عن مراكز القوى المؤثرة في الانتخابات الأمريكية، في تقديم المرشحين وترجيحهم، من شركات أسلحة، ونفط، وأدوية، وإعلام.. الخ.
إن وجود شخص أقرب ما يكون إلى الحماقة في سجال نهائي كهذا في الولايات المتحدة لهو عنوان على التردي الذي ارتكست فيه الديمقراطية في هذه البلاد؛ فإذ لا يمكن إهمال تأثير المال في وصول المرشحين إلى نهاية ماراثون الانتخابات، إلا أنه مع هذا كان بالسابق يتوفر لدى المرشح – مع الدعم المالي - مسحة من إدراك وخبرة سياسية أو معرفية تؤهله إلى أن يتبوأ هذا المنصب الرفيع أو على الأقل أن يقترب منه؛ فهل أفلست أمريكا إلى هذا الحد، أو أن النموذج الديمقراطي الأمريكي لم يعد ببريقه السابق، ولا قوته في ترشيح الأكفاء ولو نسبياً إلى صدارة مرشحي أحزابهم؟! الإجابة واضحة جداً مع وجود الآلاف – وربما أكثر - من الأمريكيين يتمتعون بكفاءة أكبر بكثير من مرشحهم هذا.. ما يعني أن الديمقراطية الأمريكية لم تعد تمثل إفرازاً حقيقياً للكفاءات، وإن كان هذا قد ظهر منذ مدة طويلة إلا أنه مع ترامب لم يعد الأمر محل جدل أو نقاش من أحد.
من زاوية أخرى؛ فإن أصحاب نظرية وجود تأثير لمركز قوى أوحد في الولايات المتحدة يرسم الاستراتيجيات ويعمل على توجيه المشهد كله باتجاه رئيس ديمقراطي أو جمهوري بحسب الحاجة الاستراتيجية الأمريكية العليا، يمكنهم تفسير وجود مرشح يتم تصعيده بغرض سقوطه لإفساح المجال لمرشح الحزب الآخر، لكنهم مع هذا لا يذهب بهم الخيال لتصور وجود مرشح يجاء به للسقوط على شاكلة ترامب؛ فقد يدللون على هذا بجون ماكين مثلاً كمرشح لم يكن له أن ينجح في وجود أوباما، لكن هذا التردي الذي قذف بترامب للمقدمة، وهو الأخرق بدرجة كبيرة، المتطرف بدرجة أكبر لا يمكن تفهمه أبداً، وهذا أيضاً يعني أن الديمقراطية الأمريكية في طريقها للإفلاس كون لعبتها في هذه الحالة قد انكشفت وبدا واضحاً أن تصعيد ترامب ليس إلا لضمان إنجاح كلينتون وإرغام الناخب الأمريكي على اختيارها رغم اعتراض كثيرين على رئاسة امرأة ضعيفة لبلد قوي كالولايات المتحدة الأمريكية ينجذب ناخبوها نحو الأقوياء دوماً. مع هذا؛ فالأمر شديد الفجاجة، وكاشف لهزال النموذج الديمقراطي الأمريكي، ودخوله مرحلة التفسخ والانهيار.
وجود عنصري واضح في تطرفه، أخرق ظاهر في حماقته، هو أبرز دليل على أن الديمقراطية في هذه الدولة/القارة/"أم الحريات" لا تعكس إرادة الناخبين، للحد الذي جعل هذه الانتخابات الأكثر إعراضاً من قبل "عقلاء الناخبين"، أو هكذا تقود المعطيات الأولية منذ بداية نهاية الماراثون الانتخابي، فكثير من العقلاء في الولايات المتحدة الأمريكية اليوم يعلنون أنهم لا يريدون لا هذا المرشح ولا تلك، حتى في داخل أحزابهما. هذا الأمر يختلف كثيراً عن حالات أخرى تبين للناخب بعد سنوات أنه لم يكن موفقاً في اختياره؛ فنحو ثلث الأمريكيين اليوم قد حسموا خيارهم قبل الانتخابات أصلاً، "لا نريد ترامب، لا نريد كلينتون.. أمريكا تستحق أفضل من هذا بكثير".