يتعرض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى موجة نقد قاسية من ناشطين سوريين، اعتبروا أنه بزيارته الأخيرة إلى موسكو، تخلى عن دعم الثورة السورية ضد نيرون العصر بشار الأسد.
بينما يقرأ بعض الخبراء في التصعيد المفاجئ في إنجازات المقاتلين السوريين ضد النظام في مدينة حلب، على أنها مبادرة استباقية للصفقات الممكنة بين روسيا وتركيا على حسابهم.
فهل باع أردوغان مواقفه التي ضاعفت من شعبيته في الشارع الإسلامي، ورضخ لتعنت بوتن الراعي الرسمي العلني لإجرام حلف الروافض الممتد من قم إلى دمشق وبيروت مروراً ببغداد الأسيرة؟
الاتهام ونقيضه!!
لا شك في أن أردوغان خسر كثيراً من التأييد الواسع له في أوساط السوريين منذ إبدائه الأسف لإسقاط الطائرة الروسية، بمن فيهم خصوم مؤدلجون كانوا قد تجاوزوا مواقفهم السابقة عشية الانقلاب واعتبروا فشله انتصاراً لثورتهم.
عاد فريق كبير من هؤلاء إلى القراءة الداعشية المتطرفة- بالرغم من عدائهم العقدي والعسكري لداعش-، فراحوا يفسرون تصرفات الرجل الأخيرة بانتمائه العلماني، وهنا تتجلى المفارقة بين نبزهم له بالعلمنة، ووقوف الغرب كله ضده إذ تتهمه واشنطن والأوربيون بأنه أصولي ماكر، يخفي أجندة تهدد "إنجازهم" التاريخي بفرض العلمنة القسرية على الشعب التركي قبل 100 سنة!!
وانتشرت في حسابات بعض السوريين الساخطين، صورةٌ مُرَكَّبةٌ في مواقع التواصل الاجتماعي، تقرن تصريحين لأردوغان، أحدهما في ذروة التوتر مع روسيا أشار فيه إلى عدائها المزمن للإسلام؛والآخر في أثناء زيارته لها قبل أيام يعلن فيه استعداد بلاده للتنسيق العسكري مع روسيا ضد داعش!
في المقابل، ارتفعت أصوات أخرى تبرر قرارات تركيا الأخيرة، بأنها اضطرارية وليست اختيارية، مشيرين إلى تكشير الغرب عن أنيابه للتخلص منه، ولو بانقلاب عسكري ينتهي باغتياله!
السياسة فن الممكن
لا يمكن اتهام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالغباء ولا بالارتجال والرعونة، فأشد أعدائه يصفونه بالدهاء ومؤيدوه يرونه قائداً محنكاً وحصيفاً.
لذلك ينبغي للمحلل الموضوعي استصحاب هذه النقطة المهمة، عندما يسعى إلى قراءة الانعطافات الحادَّة التي أقدم عليها أردوغان مؤخراً.. و"مؤخراً" هنا:تعني منذ شهرين وليس مما بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة قبل أربعة أسابيع، حيث بادرت أنقرا إلى استرضاء روسيا، وعجَّلت سرعة المفاوضات التي كانت تجري بين تركيا والكيان الصهيوني، إلى أن أسفرت عن اتفاق ما.
فهل يجهل الرجل أن روسيا ليست لاعباً مستقلاً لكي يراهن عليها؟
ألم تتخاذل موسكو-في أيام عزها وتصلبها الفكري في العهد السوفياتي- عن نصرة حلفائها في كل مكان؟ فكيف بموسكو الدعارة والمخدرات؟
إن الكرملين لم ينتظر أياماً ليصعق حسابات أردوغان، إذ أعلن بعد ساعات من مغادرته عن اتفاق روسيا وأمريكا على تنسيق ضرباتهما للـ"التنظيمات الإرهابية" في حلب، والروس الصفيقون لا يخفون تصنيفهم لكل من يعارض دميتهم في دمشق بأنه إرهابي!!
وكيف يستغرق رجل ذكي ولماح خمس سنوات عجاف لكي يدرك أن الغرب لن يضحي بأشد عملائه إخلاصاً في حماية أمن "إسرائيل"؟
ألا يعلم أنه سيجني من وراء ترميم جسوره مع الصهاينة خسائر كثيرة وكبيرة، من دون أي فائدة؟ وهل يضحي اليهود بأفضل حارس لاحتلالهم؟ ألم تشمت تل أبيب بالانقلاب الفاشل، ولم تكتم أنها كانت تتمنى نجاحه؟
حسابات خاطئة لا نيات سيئة
إن من يعرف تركيا جيداً وطبيعة التآمر الغربي عليها منذ العهد العثماني، ويعلم تاريخ الكفاح العسير الذي خاضه الشعب المسلم للتحرر من الأتاتوركية المفروضة بحراب العسكر ورعاية الغزاة الصليبيين، ويرصد تاريخ حزب العدالة والتنمية؛إن من يفعل كل ذلك بأمانة، لا يمكنه اتهام أردوغان في نياته، فهو يتمنى تخليص بلاده من الإرث الثقيل والبغيض، لكن المؤامرة أضخم مما نتصور، ويشارك فيها جميع أعداء الثورة السورية !!
وربما تنجح تكتيكات أردوغان الأخيرة في كبح الورقة الكردية، التي تلعبها واشنطن بصفاقة ووقاحة لا سابقة لهما في العلاقات بين البلدين!!
صحيح أنه ما زالت في يد تركيا أوراق للضغط يتصدرها اتفاق وقف تدفق اللاجئين السوريين على أوربا، ومصير قاعدة أنجرليك، وعضوية الناتو؛لكنها جميعاً أوراق ذات سقف منخفض في المحصلة النهائية، لأن بناء الجيش التركي ما زال تغريبياً بالرغم من الإصلاحات المتتالية، والتي بلغت مداها الأقصى عقب الانقلاب الفاشل في شهر يوليو/تموز الماضي.
قد يظن بعض المتحمسين أنه في وسع أردوغان أخذ تركيا إلى مواجهة مفتوحة مع الغرب، على طريقة الهالك هوغو تشافيز الفنزويلي، إلا أن هؤلاء ينسون أنه ليس لدى الغرب الصليبي ضغائن ضد فنزويلا أو كوبا أو أي بلد آخر، تضاهي ركام كراهيتهم لكل بلد مسلم، مع تركيز خاص على تركيا، لأنهم لن ينسوا أن العثمانيين أذلوا أجدادهم، وكانوا على وشك السيطرة على القارة العجوز كلها، لولا عمالة إسماعيل الصفوي، الذي كان يضرب مؤخرة الجيوش العثمانية المتوجهة إلى فتح أوربا الوسطى بعد فتح البلقان.