قد لا يستحوذ الجدل حول بقاء تركيا ضمن حلف الأطلسي (الناتو) العسكري على وقت طويل إذا مددنا خط العلاقة بين تركيا وأوروبا في طريقها السائرة فيه اليوم على استقامته؛ فالحالة التي وصلت إليها هذه العلاقات الآن تقود إلى الاعتقاد بأن أوروبا قد ضاقت ذرعاً بسياسات تركيا الاستقلالية، ونزوعها نحو العودة إلى هويتها الإسلامية التي كانت على الدوام محل إزعاج لأوروبا على مدى قرون ستة ماضية.
معلوم أن أوروبا لا تقبل بوجود تركيا لا إسلامية ولا علمانية ضمن إطار الاتحاد الأوروبي لأسباب تعود إلى ديانة شعبها بالأساس (الإسلام) بغض النظر عن أيديولوجية حكامها، وإلى تاريخ سادت فيه تركيا أوروبا، وصارت فيه صاحبة الكلمة الأعلى في هذه القارة "المسيحية"، غير أن هذا المزاج لا ينسحب على وجود تركيا في منظومة حلف الأطلسي، إذ لطالما نظر الغرب إلى كثير من الجيوش في الدول الإسلامية على أنها امتداد لسطوته، وكتائب تخضع لإمرته، لأسباب تتعلق بنشأتها وهيكلتها وتدريبات قادتها الانتقائية وعقيدتها وولاءاتها وتسليحها، ولم يكن الجيش التركي الذي خضع لاختراق هائل في نهايات القرن قبل الماضي من القوى "الاستعمارية"، أفضت إلى انقلاب 1909 على السلطان عبدالحميد ثم نظامه لعدة سنوات، وإحلال نظام عسكري علماني جمهوري مكانه بدعاً من هذه الجيوش، وهذا مربط الفرس في نظرة الغرب إلى تركيا من زاوية شعبية وأخرى عسكرية.
والزاوية الأخيرة هي التي أفضت إلى علاقة وثيقة بين الغرب وعسكر تركيا "الكماليين"، إذ نظر الغرب دوماً لتركيا على اعتبار أنها ملف عسكري يتفرع عنه "مشكلات وتحديات مدنية يمكن لجمها عسكرياً"، ولقد كانت الحقبة التي أمسكت فيها القوى الغربية بتلابيب تركيا وغيرها عبر جيشها هي تلك الفترة التي تحولت فيها صورة الصراع من العداء المباشر بين الغرب والدول التي حاربها ثم احتلها خلال القرنين الماضيين، إلى "الاحتواء العسكري" وإقامة "تحالفات" يكون للغرب فيها يد التوجيه والتدريب والتنظيم والإدارة والقيادة واختيار القادة العسكريين المحليين وترفيعهم وهيكلة الجيوش وتنظيمها وإدارة توجهاتها وترسيخ عقائدها الجديدة (الموالية للغرب). خلص الغرب إذن إلى أن ضمان عدم تعافي الرجل المريض/ تركيا ليس هو مزيد من مشاريع الحرب العسكرية ضدها، والتي أحصاها دجوفارا في كتابه القيم "مائة مشروع لتقسيم الدولة العثمانية"، وإنما في احتوائها عسكرياً عبر استقطاب قادة جيشها، ودمجها بتحالفات عسكرية لا تكون لها يد القيادة فيها.
بيد أن هذه القاعدة المستقرة قد اعتراها تغيير مفاجئ عقب محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، واطلاق الحكومة التركية يدها في مباشرة عملية تطهير واسعة النطاق لم تتبين حجم نجاحاتها بعد، لكن رجع صداها في الغرب يشي بأن تغييراً كبيراً في تلك المعادلة القديمة قد حصل بالفعل، نستطيع استكناه تأثيراته في ردود أفعال صهيونية وأوروبية وأمريكية عديدة، منها على سبيل المثال:
- مقال الكاتبة الصهيونية كارولين جليك في صحيفة معاريف طالبت فيه الدول الأعضاء بحلف الأطلسي باتخاذ قرار حاسم بطرد تركيا من الحلف بسبب أنه "تحت حكم أردوغان احتشدت المؤسسات الإعلامية والثقافية في حملة لغرس الآراء المعادية للسامية والمعادية لأمريكا في المجتمع التركي، إلى جانب السياسة الخارجية الودية تجاه الجهاد الإرهابي، حيث لا يتردد أردوغان في دعمه"، زاعمة أن سياسة أردوغان بتطهير الجيش ستفضي وصول يد داعش إلى السلاح النووي في قاعدة إنجرليك!، داعية إلى "عدم قبول الوضع الذي لا يطاق في تركيا والذي يزداد سوءا"، معتبرة أن الحلف تأخر في طرد تركيا "لأن الولايات المتحدة وحلفاءها في الناتو قد تهربوا من الواقع منذ 14 عاما حين وصل رجب طيب أردوغان إلى السلطة"، وبتطابق لافت مع أوصاف تطلقها النظم الشمولية الموالية للكيان الصهيوني في المنطقة، قالت جليك: "من خرجوا إلى الشوارع حاملين الأعلام التركية استجابة لدعوة أردوغان يوم الجمعة الماضي لم يكونوا مواطنين عاديين، بل جهاديين يشكلون درع دفاع عن النظام"، فمتظاهرو الشرعية لدى المعلقة الصهيونية هم ليسوا "نشطاء سلميين" بل "جهاديين يشكلون درعاً" أو ميليشيات بالتوصيف العربي!
- وعلى ذات اللحن عزف المحلل الصهيوني الشهير ألون بن مئير، إذ قال إن "الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أثبت مرارا وتكرارا عدم ولائه والتزامه بعضوية حلف شمال الأطلسي، فهو يستخدم الحلف غالبا بطريقة ساخرة بوصفه أداة تخدم أغراضه"، داعياً "الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على إعادة تقييم علاقتهما مع تركيا في الوقت الحالي" لاعتبار أن "تصرفات أردوغان لها تأثير مباشر وغير مباشر على المصالح الغربية على الصعيد المحلي وفي منطقة الشرق الأوسط".
- المحلل السياسي المتخصص في الشؤون الأوروبية أليساندرو دي مايو قال في تعليق لراديو سوا الأمريكي "أن تمادي الحكومة التركية في السيطرة على البلاد قد يؤثر على العملية الديموقراطية وهو الأمر الذي ربما لن يرضى عنه حلف الناتو".
- صحيفة نيويورك تايمز إحدى كبريات الصحف الأمريكية والقريبة من مراكز صنع القرار بالولايات المتحدة الأمريكية، والتي تأخذ على عاتقها منذ سنوات انتقاد حكومة أردوغان، تساءلت من ناحيتها : "ماذا ستفعل أمريكا مع عضو حيوي في الناتو ينحرف بعيدًا عن المعايير الديمقراطية"، موضحة أن المسؤولين في واشنطن بدأوا يطرحون خيارات أخرى، ذكرت صراحة أن من بينها أن تكون تركيا خارج الحلف بسبب احتضانها "مبادئ تشذ عن مبادئ الدول الغربية التي تجتمع معها تحت مظلة الحلف"، مدعية أن الحلف هو الداعم الأساسي لتنمية تركيا!
- الأمر بالطبع لم يقتصر على الإعلام الغربي والصهيوني؛ فطرح هذه المسألة بدأ خافتاً ويعلو تدريجياً منذ افتتح المستشار النمساوي كريستيان كيرن مواقف الأوروبيين بوقف مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بحجة عدم استيفائها المعايير الديمقراطية والاقتصادية، وبدأ الإعلام الأوروبي يتحدث عن فائدة بقاء تركيا ضمن حلف الأطلسي من عدمها.
على أن هذا الصوت الذي قد بدأ يعلو في الغرب مطالباً بإخراج تركيا من منظومة الناتو ليس بالضرورة مانعاً لمناقشة جدوى بقاء تركيا حتى الآن في هذا الحلف، أعني من جانب تركيا ذاتها، لاسيما بعدما تأكد دور كبير للحلف وتحديداً من قائدته الحقيقية/الولايات المتحدة في التخطيط لهذا الانقلاب الفاشل ومساندته لوجيستيا وإعلامياً.
انضمت، أو ضُمت – بالأحرى – تركيا إلى الحلف الأطلسي في العام 1952، بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب العالمية الثانية، وازدياد القلق الأوروبي خصوصاً والغربي عموماً من تعاظم قوة الاتحاد السوفييتي، وسيق مبرراً منذ ذلك الوقت أن دخول تركيا كأكبر قوة عسكرية في أوروبا، وثاني جيش في الحلف بعد الولايات المتحدة يعد ضمانة لأمن أوروبا إزاء المطامع السوفيتية التي تبلورت فيما بعد في حلف وارسو الذي أنشيء في العام 1955 كرد فعل على إنشاء حلف الناتو من جهة، ومن جهة أخرى لدعم قوة الدول الشيوعية في أوروبا ومنها ألبانيا، ويوغسلافيا (إلا أن الأخيرة لم تنضم للحلف). وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي وانهيار تحالفاته وحلف وارسو تراجع الاهتمام قليلاً بتركيا كحليف قوي وحائط عسكري يفصل بين أوروبا ودول الكومنولث الروسي، لكن الهدف الرئيس من وجود تركيا في الحلف لم يكن هذا – على أهميته – بل في الإبقاء على الجيش التركي تحت السيطرة الأمريكية، ونشر قواعد للحلف في أراضيه.
وبرغم التحولات التي طرأت على تركيا منذ أن تولت حكومة العدالة والتنمية الحكم في البلاد إلا أن الجيش التركي ظل "صمام أمان وضمانة للعلمانية" ومن ثم استمرت الحاجة إلى الإبقاء على تركيا ضمن الحلف الأطلسي لأسباب تتعلق بتقييدها لا بالدفاع عنها.
بالتأكيد، كانت إحدى الشروخ التي أصابت قناعة الأتراك كحكومة وشعب، هي سحب بطاريات باتريوت من تركيا وتخلي الحلف عن تركيا أثناء أزمتها مع روسيا في أعقاب إسقاط الطائرة الروسية قبل تسعة أشهر، ما خلف لشهور أزمة كادت أن تتطور بين البلدين الكبيرين.
يتجمع هذا السبب مع أُخر لإثارة جدل من جانب الأتراك حول بقائهم في حلف الأطلسي.. موقف أطلسي متخاذل أثناء الأزمة التركية الروسية، تجاهل تام للهدف الأبرز المعلن للحلف، وهو نصاً: "دعم حلف شمال الأطلسي القيم الديمقراطية"، وهي القيم التي داسها الحلف بدعمه للانقلابيين في تركيا، ومن داخل قواعده وفوق الأراضي التركية، وتزويد طائرات الانقلابيين بالوقود، والعمل على تقديم الحماية لهم، وفق ما رشح في الإعلام التركي (لاسيما صحيفة يني شفق القريبة من الحكومة التركية). كذلك؛ فإن ثمة امتعاضاً من المتدينين الأتراك إزاء بقاء تركيا الماضية نحو "الأسلمة" اجتماعياً – على الأقل – والداعمة لقضايا المسلمين في أكثر من بؤرة صراعية، ضمن حلف، هو بالقطع "حلف مسيحي" يتخذ من الصليب شعاراً له.
للغرب أسبابه أيضاً التي يدرسها مبكراً، وأهمها، يدور حول تساؤل لافت: هل بقي للغرب من نصيب في القوات المسلحة التركية وأجهزتها الأمنية تحتم بقاء تركيا تحت مظلة الحلف، أم أن تركيا قد شبت عن الطوق الغربي، ومكانها لابد أن يصير بوضوح في خانة الأعداء أو على الأقل "غير الأصدقاء"؟
قد بات الغرب قلقاً مراراً، وهو يسمع الرئيس التركي في احتفالات ذكرى فتح القسطنطينية وغيرها، يردد شعارات إسلامية، لكن قلقه هذا لا يقارن أبداً بذاك الذي تفجر مع مغادرة كثير من جنرالاته الأتراك الموالين له للخدمة في حظيرة الغرب - الجيش التركي - إلى التقاعد والمحاكمة.. هذا محل القلق الأكبر، وهذا الأكثر إلحاحاً في مناقشة وضع تركيا ما بعد الانقلاب الفاشل، الذي يبدو أن عواصم الغرب لم تكن تتوقع له الفشل أبداً، لذا فهي تمر بحالة عدم اتزان سياسية واضحة، لاسيما بعد أن طالت يد أردوغان الباطشة بجنرالات الحلف حدوداً غير متوقعة.
القرار الغربي بالتخلي عن تركيا في الحلف سيكون صعباً بكل تأكيد إذا ما وُضع بالاعتبار اتجاه تركيا نحو روسيا، وما يتردد عن علاقة قد تكون عسكرية مع روسيا على حساب الناتو.. أيضاً لدى أنقرة أفكارها حول آسيا الوسطى التي تتقارب مع دولها وشعوبها ذات العرق التركي، وهو إذ لا يمثل بديلاً معقولاً لحلف الناتو، لكن مع تراجع مساندة الحلف لتركيا في قضاياها الخارجية والداخلية؛ فإن أهمية الحلف لدى تركيا تتدنى، والتفكير في بدائل يتصاعد. مع هذا؛ فإن فكرة التخلي ليست مستبعدة تماماً لا من جهة الغرب ولا من جهة تركيا. وقد لا تكون المؤشرات من الجانبين على احتمال هذا أكثر من مجرد ضغوط يمارسها هذا الطرف على ذاك أو العكس.
قد كان لافتاً تصدر بيان الانقلابيين بالتعهد لحلف الناتو بالإبقاء على علاقة كان العسكريون دوماً أوفياء فيها للغرب حيث قال: "سيعمل مجلس الصلح في البلاد على أخذ كل التدابير اللازمة من أجل تطبيق كل المعاهدات والمسؤوليات التابعة للأمم المتحدة ولحلف الناتو، والتي تقع على عاتق تركيا"، وهو ما يعني الكثير في بيان أول حول الانقلاب وحول علاقة جنرالاته بأقطاب الحلف، فقبل أي حديث عن رفاهية الشعب التركي كانت رسالة الولاء واضحة من قادة الانقلاب.. لكن أنقرة (الديموقراطية) رغبت في سد هذا الباب أيضاً في وجه الانقلابيين؛ فقال وزير دفاع تركيا فكري إيشيق إن الخطوات التي تنفذ حاليا (بإطاحة الانقلابيين) "تتلاءم تماما مع هيكل وروح حلف شمال الأطلسي".
لا ترغب أنقرة على ما يبدو في الخروج من الحلف، على الأقل الآن، برغم إدراكها التام أن مستقبلها في النهاية سيكون خارج الحلف، سعت أم قاومت ذلك، ولكنها تظل محافظة ولو على شعرة معاوية بينها وبين الحلف، وهي تعلم يقيناً أن تقاربها المتصاعد مع موسكو سيصب في خانة تمسك الغرب بوجودها أكثر، في جانب، وفي الجانب الآخر لا يسد أمامها كل السبل، ويفتح في الحاجز أمامها كوة يمكن تكبيرها لكسر الحصار الذي شرع الغرب في ضربه عليها. وزعماء أنقرة المحترفون يدركون أن عليهم التفكير بكل الخيارات المتاحة، وعلمتهم خبرتهم السياسية على مدى عقدين كاملين ألا يذهبوا بكل صداقة حتى النهاية ولا عداء حتى النهاية أيضاً، ومن ثم؛ فإن مناقشة بقاء دولتهم داخل إطار منظومة حلف الأطلسي أو خروجها منها لابد أنه قد وضع على طاولة النقاش الممتد.
لقد زار أردوغان موسكو وعقد مباحثات مهمة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبعضها بشأن تفاهمات عسكرية.. يفهم أردوغان لغة الغرب جيداً، وقد خاطبه بها؛ فلم يتأخر الرد من حلف الأطلسي في اليوم التالي للزيارة، بياناً موجزاً وحاسماً للحلف: "عضوية تركيا ليست موضع نقاش إطلاقاً"