لعلعة الرصاص تسمع هنا وهناك.. إنه الاحتفال النصيري السوري بأولى أنباء الانقلاب في تركيا، كانت الخطة تقضي بتقديم دعم إعلامي قوي للانقلاب؛ فلم يتأخر إعلام المارينز في المنطقة لكن الانقلاب ذاته تعثر.
ليس من قبيل المصادفة أن معظم النصيريين "العلويين" في الجيش التركي هم من "الكيان الموازي"، ومن قبل هم من "الكماليين" الذين تدثروا برداء جماعة الخدمة أو نسقوا معها، ليس من قبيل المصادفة أيضاً أن النصيريين هم من يسيطرون على الجيش السوري بشكل أكثر وضوحاً.
على جانبي الحدود، ثمة تنسيق جيد بين نصيريي تركيا وسوريا، وحينما كانت طائرات الانقلاب تقلع وتقصف، كان "الأشقاء" في سوريا يحتفلون ويوزعون الحلوى التي سرعان ما انحشرت في حلوقهم بعد بزوغ أنباء فشل الانقلاب.
هذا التنسيق كان تبدى في معركة الاستيلاء على طريق الكاستيلو التي أحكم نظام بشار الأسد حصاره على حلب بعد استيلائه عليه، وفي عقبها كان الانتصار الثاني للطائفة في الجانب الآخر من الحدود، انقلاب سيفضي تلقائياً إلى دفن الثورة السورية، فلقد تعرضت الثورة لانتكاسة شديدة بعد خروج مصر من خانة أصدقاء الثورة في صيف 2013، وسوف يكون الانقلاب حين ينجح الضربة القاضية لتلك الثورة، هكذا ظنت الطائفة في تركيا وسوريا.
لكن ما حصل كان عكس هذا السيناريو تماماً؛ فلقد انتصرت إرادة الأتراك، وبدا أن المساندة التي يلقاها الثوار لن يصيبها الضرر.. لا بل ربما تحولت المساندة إلى دعم قوي بعد أن استشعر الأتراك أن النار قد شبت بالفعل في حديقتهم الخلفية الجنوبية.
تلقائياً، يصبح إبعاد جنرالات من الطائفة، وآخرين نسجوا علاقات وثيقة مع حزب العمال الكردستاني الموالي لقوات سوريا الديمقراطية (اليد السورية للحزب) إلى حد هروبهم إليها إثر فشل الانقلاب، وصنف ثالث معادٍ طبيعياً للفصائل الثورية في سوريا، يصبح إبعاد كل هؤلاء، تحييداً مباشراً لقسم كبير مناوئ للثورة السورية داخل الجيش التركي، وبالتالي إضافة لهذه الثورة ودعماً زائداً لها..
إلى ذلك، ما قد طرأ من بعد الانقلاب على الداخل في تركيا يفرض على صناع القرار فيها الالتفات أكثر إلى الثورة السورية، وإرواءها بماء الإباء والتحدي التركيين الناجمين عن خيبة أمل الأتراك بالقوى الغربية تجاه الانقلاب الفاشل، وهو ما قد بدا أنه سيكون لاحقاً.
لوحظ من فور انتصار الإرادة الشعبية التركية، والبدء بإزاحة قادة عسكريين موالين للنظام السوري في تركيا، انعكاسٌ فوريٌ على الميدان السوري؛ فبعد أن أحكمت ميليشيات بشار الأسد الداخلية والخارجية حصارها على حلب بعد استيلائها على طريق الكاستيلو، المنفذ الوحيد الذي كان متبقياً في يد الثوار السوريين من ريف حلب إلى الأحياء المحررة فيها، بدأ العد العكسي لهذه السيطرة بعد خمسة أيام فقط من هذه الهزيمة التي منيت بها الثورة السورية، كان الإحكام في 10 يوليو والانقلاب بعده بخمسة أيام، فيما يشير إلى ترابط بينهما.
كذلك، كان ثمة ترابط بين الهجوم الكاسح الذي قام به الثوار في حلب لفك الحصار عنها في أربع مراحل يراد بختامها تحرير المدينة الأهم في الشمال السوري ومحور ارتكاز كبير، والعاصمة الثانية لسوريا ومركزها التجاري الأهم، وبين الانتصار التركي على الانقلابيين.
بتنسيق غير مسبوق بين فصائل من الجيش السوري الحر وأحرار الشام وجبهة فتح الشام تحركت كتائب التحرير في حلب، ثم بدأ جيش الإسلام ينشط في معركة أطلق عليها ذات الرقاع في غوطة دمشق، بنفس هذا الترتيب كانت تجري لقاءات تركية/قطرية، ثم سعودية/قطرية بالتوازي مع معركتي الشمال وريف العاصمة غير بعيدة عن علاقات بين تلك الدول وفصائل الثورة السورية هذه.
خرجت تركيا من معركتها مع الانقلابيين، مدركة أن لا خيار أمامها سوى دعم الثوار في سوريا، وفي السياق تدرك السعودية وهي تراوح في اليمن بانتظار الحل السياسي أن الحل في اليمن لا يجاوز الحل في سوريا أيضاً، أما قطر فقد حسمت خيارها منذ فترة طويلة بحلفها الوثيق مع تركيا.
تضررت علاقة الأتراك كثيراً بالغرب، الولايات المتحدة وأوروبا، بسبب دعم الأولى لفتح الله غولن المتهم بالوقوف خلف محاولة الانقلاب الفاشلة، والمقيم في الولايات المتحدة، ومساندتها العسكرية والاستخبارية غير المعلنتين، والإعلامية للانقلابيين، وانكشاف الثانية في عدائها المتنامي للحكم التركي، تحت غطاءي الملف الحقوقي الذي أبرزته عواصم أوروبا في وجه تركيا مخفية إغفالها عن الملف ذاته فيما يتعلق بالانقلابيين، الذين قتلوا مدنيين واحتجزوا وهددوا إعلاميين..
شاحت أنقرة بوجهها بعيداً عن واشنطن وبروكسل، محتفظة بعلاقة متدنية معهما، وبحدها الأدنى، والتفتت إلى الروس، وإذ توقن أن الحل في سوريا لا يمكنه تجاهل موسكو؛ فإن استباق زيارة أردوغان إلى موسكو بورقة سورية مهمة ممهورة بانتصار مدوٍ في حلب، يضع ترتيباً جديداً لأوراق تركيا على المائدة الروسية. ليست الفصائل السورية قطع شطرنج تحركها القوى الإقليمية والدولية، وهي انتصرت بفضل الله أولاً ثم بإيمان مسلحيها وتضحياتهم وشجاعتهم وخططتهم المبرمجة جيداً، ثم بدعم إقليمي ما كان يرى أثره ما لم يزرع في أرض خصبة، وهذا ما لا ينبغي إهماله..
بمثل هذه التركيبة ستنتصر الثورة السورية، تتقدمها دعوات المستضعفين، أرامل ويتامى ومساكين، وتدعمها مساندة إقليمية لابد أن تكون في ظل حرب عالمية ضروس تشن على الشعب السوري للحؤول دون أن يحظى باستقلاله ويحتفظ بهويته.
والنموذج كان في حلب، وسيرى الصابرون المصابرون النصر بوحدة والتقاء ووعي كالذي اتسموا به في معركة تحرير حلب.. {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.