قاعدة إنجرليك .. وكر الجواسيس
29 شوال 1437
أمير سعيد

بعد تقريع موجع من الرئيس التركي للدول الغربية بسبب تشجيعها للانقلابيين، والدفاع عنهم، وتبكيتهم بأن تلك الدول امتنعت عن قيام مسؤوليها بزيارة لتركيا لتقديم العزاء في شهداء محاولة الانقلاب على المؤسسات الديمقراطية المنتخبة في تركيا، والذين ارتقوا أثناء تصديهم للآليات العسكرية للانقلابيين، وتصريحه بأن الغرب يدعم الانقلابات والإرهاب، جاء أول الغيث قطرة، لكن للأسف كانت قطرة مسممة!

 

 

 

رئيس هيئة الأركان الأمريكية قام بزيارة مفاجئة لتركيا، تحمل أكثر من معنى ومغزى، ليس بينها ما هو بريء أو جيد. وكأن الولايات المتحدة تقر من خلف الزيارة بأن ملف تركيا لديها هو عسكري بالأساس، وأنه إذا كان يتعين أن يصل مسؤول بعد محاولة الانقلاب فليكن قائد الجيوش الأمريكية، وليس سياسياً يتداول مع المسؤولين السياسيين الأتراك سبل إنهاء أزمة غولن، وإزالة الشكوك حول دور أمريكي في دعم انقلابه الفاشل.

 

 

 

 

 

أبدلت واشنطن السياسي في موضع السياسة بالعسكري، لكن لا غرابة؛ فالقاعدة الذهبية معروفة، أن الجاني يحوم دوماً حول مكان جريمته، وإذا كان جنرالات المارينز الأتراك قد بدؤوا بالتساقط في أعقاب جريمة الانقلاب الفاشل؛ فإن على "القائد" أن يحضر بنفسه، ويقترب أكثر من الأحداث، ويعاين عن كثب وكر الجواسيس الأمريكيين، قاعدة إنجرليك الشهيرة.

 

 

 

 

نشرق أو نغرب في تفسير أسباب الزيارة التي لم يرشح عنها شيء على غير العادة حتى كتابة هذه السطور، لا فارق كبيراً؛ فليس المسؤول العسكري هو الرجل المناسب لزيارة البرلمان التركي، ولا الحديث عن الديموقراطيات وضرورة صونها في بلد كتركيا، فقد يكون يأتي لتبديد شكوك أنقرة (أو يقينها) بشأن ضلوع واشنطن في الانقلاب، أو لتقديم اعتذار مبطن، أو لاستجلاء وضع القوات التركية بعد عملية التطهير الواسعة، أو للتحدث صراحة عن ضرورة "الرأفة" مع الانقلابيين، ومنهم ذوو علاقة وثيقة جداً بالبنتاجون – كما أوضح أكثر من مسؤول أمريكي كقائد عمليات المنطقة الوسطى الجنرال، جوزيف فوتيل، ومدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية (سي آي أيه)، جيمس كلابر، اللذين أعربا في ندوة بمنتدى أسبن الأمني، بولاية كولورادو، عن قلقهما من "إبعاد وإقالة عدد كبير من المسؤولين العسكريين الأتراك"، ممن تورطوا في محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو الماضي، بدعوى أن ذلك "قد يعرقل التعاون التركي-الأمريكي في مكافحة تنظيم داعش الإرهابي"، أو لوضع أنقرة أمام "مسؤوليتها" فيما يتعلق بقاعدة إنجرليك والقواعد المساندة لها، بعد أن حاصرتها قوات أمنية وقطعت عنها الكهرباء لساعات.. أو.. أو، لكن ما يهمنا أكثر من الزيارة هو دور تلك القاعدة ليس في الانقلاب الفاشل فقط، ولكن في صناعة أدواته، واضطلاعها بدور في تأهيل قادة عسكريين أتراك ليكونوا أكثر ولاءً للغرب من أوطانهم وقيمهم.
الخميني قبل أكثر من ربع قرن كان قد وصف السفارة الأمريكية في طهران بأنها "وكر الجواسيس"، وبرغم ما يتمتع به الخميني وأتباعه من قدرة على التلون والتشكل ودغدغة مشاعر الجماهير المسلمة، إلا أن وصف الرجل للسفارة الأمريكية ونظائرها كان دقيقاً للغاية، توافقه عليه عبارة منسوبة لأحد رؤساء أمريكا الجنوبية الذي قال يوماً إن البلد الذي لا يمكن حدوث انقلاب عسكري هو الولايات المتحدة لأنه لا يوجد بها سفارة أمريكية!

 

 

 

هذا معلوم للقاصي والداني، وجهاز الاستخبارات الأمريكية يكاد يكون مسؤولاً عن معظم الانقلابات العسكرية حول العالم، إلا أن الوضع بتركيا مختلف قليلاً عن بعض تلك الدول التي شهدت انقلابات عسكرية؛ حيث استخدمت قاعدة تضم نحو 1200 عسكري أمريكي في تقديم الدعم للعناصر الانقلابية، وساهمت قبل هذا في التحضير لهذا الانقلاب وتغطيته عسكرياً وإبعاد عيون المخلصين من الأجهزة الاستخبارية والأمنية التركية عن تخطيطاته.

 

 

 

وما يقال هنا ليس سراً وقد باحت به وسائل إعلام تركية وغيرها؛ بما جعل الشكوك حول دور أمريكي شبه مباشر في الانقلاب من خلال القاعدة وأخواتها الأربع في مختلف أنحاء تركيا ترقى إلى درجة اليقين، ويشي بأن حظ أمريكا من الانقلاب لم يكن تشجيعياً فقط أو يدور في الإطار التقليدي لعمل سفارتها في أنقرة، أو ينحصر في الإطار الاستخباري وحده.

 

 

 

 

واشنطن في الحقيقة وجدت نفسها مضطرة إلى ترفيع مستوى مشاركتها في الانقلاب بخلاف غيره من الانقلابات في المنطقة، والتي لم تحتَجْ فيه لأكثر من توجيه مباشرة للقادة العملاء التابعين لها في بلدانهم الذين هم في الحقيقة رهن إشارتها، ولم تجد نفسها مضطرة للمساندة العسكرية التي لم تقتصر على حد تزويد طائرات الانقلابيين بالوقود (فرق الشرطة التركية فتشت قيادة "إمداد الوقود العاشرة" بالقاعدة، في إطار التحقيقات) هذا الاضطرار مرده يعود إلى أن واشنطن لم تتحرك مطلقة اليد في تركيا مثلما حصل في بلدان أخرى كانت فيها الانقلابات شبه علنية ومعلومة من قبل حدوثها، بل ومؤقتة في بعض الأحيان بتحذيرات واضحة للنظم التي انقلبت عليها!

 

 

 

 

تحركت واشنطن من خلال القاعدة وغيرها لإدراكها أن أدواتها بحاجة لمساعدة كبيرة كونهم لا يتحركون في فضاء عسكري واستخباري عميل بالكلية ومتواطئ تماماً؛ فزل في الانقلاب قدمها، وصارت أكثر فجاجة في دعمه بما منح حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان معلومات وثيقة عن هذا التورط لم تشأ إعلانه في الوقت الراهن لأسباب سياسية تكتيكية.

 

 

 

 

الآن قد صارت اللعبة مكشوفة تماماً، لكن إذا كانت كذلك، وبدت السلطات التركية عازمة على تكسير عظام قادة "المارينز الأتراك"؛ فإن أنظار أنقرة لن تخطئ فعالية القاعدة في الانقلاب الفاشل وإمكانية تكرار المحاولة بمساندة أمريكية أيضاً، وإذ ذاك؛ فإن يد التطهير يتعين أن تمتد إلى داخل القاعدة برغم كل التعقيدات التي تكتنف اتفاقاتها العسكرية وتفاهماتها سواء مع الجانب الأمريكي أو حلف الأطلسي. لقد أنشئت القاعدة قبل ستة عقود لا ليكون لها الإشراف على خمس مناطق عسكرية داخل تركيا، وأربعة وعشرين منطقة تمركز لأسلحة وقوات عسكرية في المنطقة (الخليج وغيره)، وهي تقدم الحماية لأكبر مخزن عتاد عسكري أمريكي في العالم، وبها قوات ألمانية وغيرها من قوات حلف الأطلسي.. وهي بهذه الخطورة والأهمية للاستراتيجية الأمريكية لا يمكن بسهولة وضع إطار تركي وطني لها، لاسيما أن أحد أهم مسؤولياتها ضبط العقيدة العسكرية للقادة الأتراك المتعاملين معها بشكل مباشر أو غير مباشر، وهم أولئك الذين "افتقدهم" الجنرال فوتيل، وكلابر، بما يتلاءم والرغبة الأمريكية في منع استقلال تركيا وإفقادها هويتها الإسلامية.

 

 

 

إن القاعدة هو واحدة من أخطر أدوات السيطرة التي زرعت قبل أكثر من نصف قرن في تركيا لتضمن ولاء القادة العسكريين لهذا البلد العريق في تاريخه وحضارته والمؤثر على العالم الإسلامي بأسره، هذا الوكر، وكر الجواسيس سيظل يعمل لإجهاض كل آمال الأتراك في خروج بلادهم عن هيمنة الغرب وتأثيره، ومباشرة دورها الحضاري والسياسي في المحيط الإقليمي.. والدولي أيضاً، لاسيما أن الغرب وأمريكا خصوصاً سيظلان حريصين على بقائهم بهذا الوكر، وواشنطن على لسان قائدة القوة الجوية الأمريكية ديبورا جيمس، قطعت الجدل بقولها في ندوة عقدها موقع ديفنس وان، في العاصمة الأمريكية: "ليست هنالك خطة من أي نوع للتحرك خارج إنجرليك".. وستظل العين التركية الثاقبة ترقب تحركات وكر إنجرليك، من دون تدخل حاسم، برغم حسمها لملفات مشابهة، فلقد قال رئيس الحكومة التركي بن علي يلدريم: "سنغلق آكنجي (القاعدة الجوية التي استخدمها الانقلابيين في العاصمة أنقرة)، مركز المحاولة الانقلابية الخائنة، والثكنات المتواجدة داخل المدن، التي فيها الدبابات وآليات مدرعة، وسننقلها إلى خارجها".. أنقرة ماضية في طريق التطهير لكن بتعقل شديد، ومن يدري؛ فلعل وكر الجواسيس يكون بالنهاية هو "الجائزة الكبرى" لنضال التحرير والاستقلال التام.