سريعاً ما تذكرت وأنا أتابع مشهد سحل الطيارين الروس في سراقب مشاهد سحل الطيارين الأميركيين الذين أسقطت طائرتهم البلاك هوك في مقديشو، والتي طغت يومها على شاشات التلفزة عام 1993، وهو ما أرغم القوات الأميركية حينها على الانسحاب من الصومال وهي التي تدخلت تحت شعار عمليات إعادة الأمل، بعدها بسنوات تم سحل وتعليق الجنود الأميركيين عام 2004 على أسوار الفلوجة وهو ما أجبر الأميركيين أيضاً على إخلائها، وربما أسست لمرحلة التفكير الأميركي الجدي بالانسحاب من العراق وإن كان لصالح المليشيات الطائفية ومن خلفهم إيران، لكن تلك قصة أخرى لم يتعامل معها المقاومون العراقيون بذكاء...
اليوم تتكرر المشاهد فالطائرات العسكرية الروسية تتهاوى و هذه هي الطائرة الخامسة التي تسقط منذ التدخل الروسي في سوريا، ويُقتل على متنها خمسة ضباط وطيارين، بالإضافة إلى طائرة أخرى أسقطت في ريف حلب الجنوبي، يحدث هذا بينما معركة ما أطلق عليها الثوار ملحمة حلب الكبرى تواصل انتصاراتها السريعة والحاسمة والتي قد تؤسس لتحرير حلب بالكامل كما وعد الثوار ..
قد يقول البعض إن روسيا ليست أميركا من حيث تلاعب تلك المشاهد بالرأي العام، وهذا صحيح ولكن أيضاً روسيا اليوم ليست روسيا الغد، ولا تستطيع روسيا تجاهل الرأي العام الروسي، ولا مواقع التواصل الاجتماعي التي عجت بهذه المشاهد، واليوم الإنسان الروسي وغيره يشكل رأيه بالغالب من خلال هذه المواقع، لا سيما وأن شرعية ووجود بوتين قائم على عبادة شخصيته، وحين تتعرض هذه الشخصية إلى جرح كرامة حقيقي كما حصل في سراقب فهذا يعني أن شرعيته أمام شعبه ومؤيديه على المحك، ولذلك نرى الحنق الروسي بالأمس من خلال قصف همجي على ريف إدلب وتهديد بحرقها وتحويلها إلى صحراء ما لم يتم تسليم الجثث، ولكن المضحك في الأمر أن تواصل دولة بحجم روسيا سياسة الكذب المفضوح بهذه الطريقة حين أعلنت أن الطائرة الروسية كانت في مهمة لأهداف إنسانية..
لقد رأى أهل سراقب التي أسقطت الطائرة في أراضيهم قبل يومين فقط حملتها الإنسانية حين دمرت بنك الدم الوحيد في المنطقة ولربما على أيدي الطيار نفسه، كما أن الناشطين الظرفاء على الفور صوروا تذخير الطائرة والأماكن التي توضع فيها الصواريخ بعد إسقاطها، وقالوا هذا قاذف مانغو والآخر قاذف خبز ونحوه..
المشهد السوري الداخلي لم يعد كما هو في السابق بعد فك جبهة النصرة ارتباطها مع القاعدة وتسمية نفسها بجبهة فتح الشام، وهو أمر يصعب على القوى الدولية ضربها الآن بعد أن رحبت كل القوى السورية بهذه الخطوة، وبالتالي المبرر الأخلاقي لم يعد موجودا لهذه القوى، يضاف إليه التنسيق بين الفصائل كلها في معركة حلب وقد يؤسس لعمل توحدي كبير في الشام، بالإضافة إلى أن تركيا ما بعد الانقلاب ليست تركيا كما قبله..
كل هذه الحسابات لا بد من أخذها بعين الاعتبار لصانع القرار الروسي، إلاّ إذا ركب رأسه وأصر وهو يعرف تماماً إصرار الشام على التحرير أولاً ويعرف هزالة وضعف وضعه الاقتصادي في الداخل ..