ما لم يقله أردوغان في خطابه..
12 شوال 1437
أمير سعيد

مثلما كان متوقعاً، ألقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خطاباً حماسياً، يحوي طلباً حاسماً بتسليم واجهة الانقلابات الحديثة، فتح الله غولن للقضاء التركي لقاء جرائمه وتسببه بمقتل وإصابة المئات من الأتراك بسبب مغامراته المتوالية التي ينفذها رجاله نيابة عن الولايات المتحدة وبعض الدول المتحالفة معها، ويذكر بضرورة كسر عظم الكيان الموازي الذي يريد العودة بتركيا إلى عصر السلطة العسكرية المستبدة.

 

وما كان متوقعاً أيضاً ألا يتحدث أردوغان بصراحة عن جميع ما يعتمل في نفسه وإدارته عن الانقلاب الفاشل والمتسببين به، فالحصافة السياسية تقضي بأن ليس كل ما يعرف يقال!

 

ولسنا بالضرورة مضطرين للالتزام بهذه "الحصافة"، وبوسعنا أن نتخيل استنتاجات كان يمكن لأردوغان أن يخرج بها من محاولة الانقلاب الفاشل لكنه أحجم عن البوح بها الآن لاعتبارات سياسية داخلية وخارجية:

 

أولها: أن الولايات المتحدة تحديداً لم تتأخر فحسب في إدانة محاولة التمرد، وإنما كانت ضالعة فيه منذ التحضير له، والتمهيد لقبوله عبر تسريبات سابقة، وعبر أدواتها الإعلامية والبحثية قبل ذلك بشهور – على الأقل – وأثناء المحاولة، وأنها تورطت فعلياً بذاك الخبر الذي نقلته سكاي نيوز عن مصادر عسكرية أمريكية ويفيد بأن أردوغان قد طلب حق اللجوء السياسي لألمانيا، وأن طائرته لم يسمح لها بالهبوط في مطار أتاتورك بإسطنبول، وهو خبر كان يتوجب على البنتاجون أن ينفيه أو يلاحق مختلقيه، كذا، وصف سفارتها في أنقرة للانقلاب في دقائقه الأولى بـ"الانتفاضة"، فيما يعد دعماً معنوياً سخياً واضحاً منها لمنفذيه في لحظة دقيقة جداً. وكذا تأخر وزير خارجيتها - ونظيره الروسي أثناء اجتماعهما – عن إدانة محاولة الانقلاب انتظاراً لنجاحها. لم يتحدث أردوغان بالفعل عن هذا لكنه ودوائره الاستخبارية القريبة يدركان بالتأكيد هذا، مثلما يدركان حرص الولايات المتحدة على الإبقاء على الخائن غولن تحت الحماية الصهيوأمريكية، لكن الرئيس التركي يكتفي فقط بلمز الولايات المتحدة بالمسؤولية ضمناً حين يقرن دوماً بين أفعال غولن ومكان لجوئه، حيث لا يفتر عن الحديث عن الرجل الذي يتخذ من ولاية بنسلفانيا الأمريكية مقراً لنشاطه التخريبي والإرهابي. وهو قد نجح في استنطاق الأمريكيين مبكراً بنقل وزير خارجية حكومته عن الساسة الأمريكيين دعمهم للمؤسسات الديمقراطية المنتخبة قبل أن يصدر عن الأمريكيين موقفاً إيجابياً منها.

 

ثانيها: أن أحد أهم دوافع محاولة الانقلاب العسكري على المؤسسات المنتخبة، هو النفوذ الكبير للضباط "العلويين" في قمة الهرم العسكري للجيش التركي، وأن هذا الزرع الذي تم استنباته فيه منذ نحو قرن ويحرص الغرب على استمراره في الهيمنة على مفاصل في الجيش التركي، بقدر تشبثه بثبات التركيبة الطائفية للجيش السوري، هو ما يمثل تهديداً مزمناً لحياة ديمقراطية مستقرة وممارسة سياسية صحية، إذ ليس سراً أن قسما نافذاً في الجيش من الطائفة كان في قلب هذا الانقلاب والمتحمسين له، والأسماء التي رشحت للمتورطين – على قلتها – تشي بهذا، لكن إدارة أردوغان – بطبيعة الحال – تلجأ إلى تجيير هذا التمرد باتجاه "الكيان الموازي"، بقيادة غولن، الذي لا يمثل أكثر من غطاء لعمل جهاز استخباري غربي وآخر صهيوني، يقفان خلف بعض انقلابات تركيا ومحاولاتها السابقة، وتستخدم أدواتها الطائفية داخل الجيش التركي، "الأمينة" – أكثر من غيرها من الرتب الرفيعة الأخرى – على "علمانية" تركيا. (وهذا من المسكوت عنه في تركيا دوماً، وإلا أكان غولن "الداعية الصوفي السابق" هو المسؤول عن انقلابات تركيا منذ أن قام أولها أتاتورك به؟!).

 

ثالثها: أن الانقلاب الفاشل لم يكن محدوداً، وإنما كان كبيراً وخطيراً، وأن نسبة ليست بالقليلة من القيادات الرفيعة في الجيش قد تورطت في تنفيذه أو في الصمت عنه وفي عدم مجابهته على نحو مرضٍ، وأن إعلام أردوغان وحكومته اتخذوا طريق الاستخفاف بقوته في سويعاته القليلة عمداً لضرب الروح المعنوية لجنرالاته وكبار قادته وحلفائه.

 

رابعها: أنه غير صحيح أن الأحزاب المعارضة جميعها قد وقفت بصلابة ضد الانقلاب، وهي للحق، وإن اتخذت موقفاً ليس سيئاً إلا أن بعضها قد تأخر كالشعوب الديمقراطي، وحاول ابتزاز السلطة لاحقاً في كلمة نائب رئيسه بالبرلمان في اليوم التالي، وبعضها قد اتخذ منحى جيداً كحزب الحركة القومية، إلا أن الجسد الشعبي المناهض للانقلاب قد كان من كوادر وقطاعات الحزب الحاكم التي تحركت بديناميكية لافتة وفقاً لما تبدو أنها خطة مسبقة معدة لمثل هذه التمردات، كما أنه بالجملة فيما يتعلق بالعامل الشعبي برمته، لم يكن له عنصر الحسم وإنما المساندة القوية للأجهزة التي ظلت وفية للمؤسسات المنتخبة، والتي حسمت بالفعل الجانب الأكبر من عملية استرداد المفقود من السلطة، لكن تعين على أردوغان أن يضرب الذكر عن كل هذا صفحاً، طلباً للحمة الشعبية، والدعم السياسي الشامل في رفض الانقلاب، وفي تشجيع الأطراف المتباطئة، والإفادة القصوى من الموقفين الشعبي والحزبي.

 

خامسها: أن الرئيس التركي، وهو يرد ضارباً بقدمه تحت حزام المتآمرين ضده، بتذكيرهم بأفعالهم في الإقليم، لم يرد أن يظهر للعلن الاستنتاج البدهي بتورط أنظمة في المنطقة في محاولة تقويض نظامه، وتبنيها للانقلاب المضاد، وتمويلها له – على ما يبدو بسخاء منقطع النظير – سواء لكبار الضباط المنقلبين أو للحملة الإعلامية الإقليمية التي بدت مرتبة على نحو مسبق دعماً للانقلاب، على نحو تجاوز الجهد الإعلامي المحلي للانقلابيين ذاتهم، وهو ما أرجأ أردوغان الحديث عنه، أو تجاوزه إلى مرحلة التكتيك المضاد المزمع أن يقوم به.

 

لا غرو أن ثمة استنتاجات كثيرة قد خرجت بها الإدارة التركية ومؤسساتها، وبعضها قد يحمل مفاجآت صاعقة، وقد يكون ما تقدم منها أو لا يكون، سواء أكان دقيقاً أم يستأهل إعادة النقاش حوله، لكن – كما تقدم – فإن أردوغان وحكومته وأجهزتها ليسوا مضطرين للبوح بكل ما خلصوا إليه أو تشككوا في حصوله.. والأيام كاشفة.