بالرغم من انقضاء ما يزيد على خمس سنوات على ثورة الياسمين، ما زال الشعب التونسي يعاني من متاعب كبيرة وكثيرة، على رأسها استمرار الفقر والفساد وتفشي البطالة وعودة ممارسات أجهزة الأمن القمعية، وكأن البلاد لم تطلق شرارة الربيع العربي قبل أكثر من خمس سنوات، فقد سبقت الجميع في خلع طاغيتها زين العابدين بن علي.
في خضم هذه المعاناة القاسية، فوجئ التونسيون بأن رئيسهم الباجي قائد السبسي، يريد معالجة جميع تلك الأزمات بنشر أصنام"تماثيل" الرئيس الهالك الحبيب بو رقيبة.
استغل السبسي الذكرى السادسة عشرة لوفاة بو رقيبة، لإشغال الرأي العام الغاضب عن آلامه بنصب أصنام بو رقيبة في الساحات المهمة في عدد من المدن، وحرص على تضخيمها فحضر نصب صنم بمدخل مدينة المنستير بنفسه، وجلب معه رئيس وزرائه ورئيس البرلمان ونصف دستة من أبرز أعضاء الحكومة!!
وأثارت هذه المبالغة الفجة موجة تعليقات ناقدة وساخرة؛لأن هذا الحشد من كبار المسؤولين لم يظهر من قبل في أي بقعة تونسية رفعت صوتها بالشكوى من الأوضاع المزرية!
شعر الناس بأن رأس الهرم في السلطة مفلس كما يتهمه خصومه، فإقامة التماثيل حتى في البلاد غير المسلمة، لا يتم باعتباره حلاً لمشكلات الدولة، فكيف تكون الصورة في بلد ينتمي 99% من أهله إلى الإسلام الذي يمنع هذه الأصنام مهما كانت الذرائع والأسباب؟
"إنجازات" بو رقيبة و"مآثره"
استنكر ناشطون تونسيون من مختلف الأطياف هذه المهزلة المبكية، لأن التماثيل تقام في الغرب لأشخاص ليسوا موضع جدل في المجتمع، بل إنهم موضع إجماع لأنهم عادة يكونون من أبطال الحروب أو المفكرين الكبار أو رجالات الدولة الذين لعبوا دوراً حاسماً في تأسيسها! فما هي مآثر بو رقيبة حتى يستحق هذا الاهتمام غير المشروع أصلاً وتفريعاً؟
المهووسون بالهالك من أمثال السبسي يصفونه بـ"المجاهد الأكبر"، فيزعمون أنه صانع استقلال تونس ومؤسس نظامها الجمهوري!
وتلك هي الصورة التي أرادها الغزاة الفرنسيون لوكيلهم بو رقيبة، عندما قرروا إنهاء احتلالهم لتونس سنة 1956م.
فما نصيب هذه الصورة من الواقع؟ وهل كان الرجل مجاهداً أصلاً لكي نناقش استحقاقه لقب المجاهد الأكبر من عدمه؟
حرصاً على الدقة وتحرياً للإنصاف، سنقرأ خلاصة لما سطَّره عنه أتباعه لا خصومه.
تقول سيرة حياته بحسب مريديه أنفسهم:
انضم إلى الحزب الحر الدستوري سنة 1933 واستقال منه في نفس السنة ليؤسس 1934 الحزب الحر الدستوري الجديد.
تم اعتقاله في 3 سبتمبر 1934 لنشاطه "النضالي" وأُبعد إلى أقصى الجنوب التونسي ولم يفرج عنه إلا في مايو 1936.
سافر إلى فرنسا وبعد سُقوط حكومة الجبهة الشعبية فيها اعتقل في 10 أبريل 1938 إثر تظاهرة شعبية قمعتها الشرطة الفرنسية بوحشية ونقل بورقيبة إلى مرسيليا وبقي فيها حتى 10 ديسمبر 1942 عندما نقل إلى سجن في ليون ثم إلى حصن "سان نيكولا" حيث اكتشفته القوات الألمانية التي غزت فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، فنقلته إلى نيس ثم إلى روما، ومن هناك أعيد إلى تونس حراً طليقاً في 7 أبريل 1943 ؟
قرر السفر إلى المنفى الاختياري في القاهرة في مارس 1945، وزار من هناك الولايات المتحدة قبل أن يعود إلى تونس في 8 سبتمبر 1948 وسافر من جديد إلى فرنسا سنة 1950 ليُقدم مشروع إصلاحات للحكومة الفرنسية قبل أن يتنقل بين القاهرة والهند واندونيسيا وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة والمغرب قبل أن يرجع إلى تونس في مطلع سنة 1952 معلناً انعدام ثقة التونسيين بفرنسا ولما اندلعت الثورة المسلحة التونسية في السنة نفسها، اعتُقل الحبيب بورقيبة وزملاؤه في الحزب وتنقل بين السجون في تونس وفرنسا ثم شرعت فرنسا في التفاوض معه -؟؟- فعاد إلى تونس في 1 /6/ 1955 ليستقبله الشعب استقبال "الأبطال" ويتمكن من تحريك الجماهير، لتوقع فرنسا في 3 /6/ 1955 المعاهدة التي تمنح تونس استقلالها الداخلي. وهي الاتفاقية التي عارضها الزعيم صالح بن يوسف واصفاً إياها بأنها خطوة إلى الوراء مما أدى إلى الصراع مع بو رقيبة الذي اتهمه خصومه السياسيون بالتهاون والتخاذل.
في 20 مارس 1956، تم توقيع وثيقة الاستقلال وألف بورقيبة أول حكومة بعد الاستقلال، وفي 25 يوليو 1957 أعلن إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية بخلع الملك محمد الأمين باي وتم تنصيب الحبيب بورقيبة أول رئيس للجمهورية.
وفي أغسطس 1961 تم اغتيال صالح بن يوسف في ألمانيا بتدبير من وزارة الداخلية التونسية.
"الجاحد" الأكبر
بو رقيبة باعتراف أشياعه لم يرفع سلاحاً في وجه المحتل الفرنسي، وغاية نشاطه السياسي تتمثل في الوصول إلى حكم البلاد ولو في نطاق استقلال شكلي منقوص، وهو ما أدى إلى صراعه مع زميله صالح بن يوسف، الذي كان يصر على استقلال ناجز وتام.وبعد سنوات من نفي ابن صالح لاحقه زبانية بو رقيبة فاغتالوه في منفاه!!
وأمثال بو رقيبة كثر في البلدان الإسلامية التي كانت مستعمرات للغزاة الأوربيين، ممن يصنعهم المحتل على عينه، ويحرص على تلميعهم ليكونوا أمناء على مصالحه بعد الرحيل، والشرط الأول لقبول هؤلاء أن يكونوا مناوئين لشريعة الإسلام، فيرفعون شعارات وطنية مائعة وبعضها هدام: الدين لله والوطن للجميع.
هذه "النخبة" المختارة بعناية تشمل طاغية تركيا: أتاتورك ، وسعد زغلول ثم جمال عبد الناصر في مصر، وسوكارنو في إندونيسيا....
وبو رقيبة عطّل الشريعة الإسلامية في تونس واجترأ على التبديل في أحكام الأحوال الشخصية، فحظر تعدد الزوجات وأباح تعدد الخليلات... ووصلت به السفاهة إلى الإفطار علانية على التلفزة في نهار أحد أيام رمضان، بذريعة زيادة الإنتاج!! وضغط على العلماء لكي يوافقوه على زندقته، فتصدى له الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله بحمية أهل العلم العاملين، وصدع بجملته الشهيرة:صدق الله، وكذب بو رقيبة!!
واستبد بو رقيبة بالسلطة وحَكَم تونس بقبضة بوليسية شديدة الوطأة، إلى أن خلعه وزير داخليته الأشد منه سوءاً: زين العابدين بن علي.
النموذج البائس
السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح:لماذا بو رقيبة وليس ابن علي؟ ولماذا الآن؟
السبب نفسي محض وإلا فالمدير الغربي لجميع هؤلاء واحد، فبو رقيبة هلك منذ 16 سنة، بعد سنوات من خلعه وفرض إقامة جبرية عليه، فأكثر شباب اليوم لا يعرفون مثالبه وتاريخه الأسود، وبخاصة في ظل هيمنة التغريبيين على التعليم والإعلام والتي تتيح لهم تزوير التاريخ بيسر.
أما ابن علي فآثار سياطه ما زالت على جلود ضحاياه، ورائحة فساده تتفاقم يوماً بعد يوم.
وإلا فإن ابن علي ليس سوى امتداد لبو رقيبة أتى به الغرب عندما طعن بو رقيبة في السن وبدأت قدراته العقلية تتضاءل، وبلغت الحركة الإسلامية في حينها ذروة نشاطها، فخشي الصليبيون الجدد من زوال النظام، وجاؤوا برجلهم الآخر ابن علي ليكمل تغريب تونس بالقوة.
والحاكمون اليوم في تونس هم امتداد رديء لبو رقيبة وبن علي معاً، فالحرب على الإسلام وقحة من خلال التضييق حتى على الصلاة في المساجد، بحجة محاربة الإرهاب، والتعذيب مستمر في أقبية الأجهزة القمعية بحسب تقارير غربية ودولية لا تُكِنُّ للإسلاميين أي مودة!
وها هي المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب تؤكد في تقريرها الشهري لشهر مارس الماضي أنّ الاعتداءات الأمنية وانتهاكات حقوق الإنسان بالإضافة إلى التعذيب لا تزال متواصلة، مشيرة في الوقت نفسه إلى أنّها تلقت 15 ملفاً خلال الشهر تراوحت بين التعذيب والعنف وسوء المعاملة.
وقالت المنظمة الحقوقية المستقلّة إنّ هناك حالات يصعب على الضحايا التعريف بهوية عناصر الأمن الذين اعتدوا عليهم، ولا يجدون أي مساعدة من أجهزة البحث والتحقيق، وهذا فيه مخالفة لالتزامات الدولة التونسية التي صادقت على الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب والتي تتضمن في بنودها واجب الدولة في مساعدة ضحايا التعذيب في مجال إثبات الانتهاكات التي سلطت عليهم.
وأضافت المنظمة أنّ الناجين من التعذيب مازالوا لا يتلقون الإسعافات الطبية اللازمة وتسلط على الأطباء وعلى الإطار الطبي مختلف الضغوط حتى لا يعاينوا آثار التعذيب، وفي بعض الأحيان لا يتم تسجيل المعرضين للتعذيب في دفاتر العيادات بالمستشفيات العمومية.
وأشارت المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب إلى أنّ بعض الناشطين يتعرّضون إلى التعذيب والتنكيل بسبب نشاطهم المدني في بعض الجمعيات وعادة ما يُجبر المعذبون على التوقيع على إفادات لا يطلعون على محتواها ثم تتم إحالتهم بناء عليها إلى القضاء بتهم ملفقة.
تزوير التاريخ
واستفز الطغاة الجدد في تونس قطاعات واسعة في الحقل التعليمي على مستوى المعلمين والطلاب، بفرضهم تقديم سيرة زائفة لبو رقيبة للتلاميذ في مدارس ومعاهد التعليم العام والعالي.
وقد استنكر الكاتب العام للنقابة العامة للتعليم الثانوي إقدام وزارة التربية على إجبار الأساتذة على تدريس السيرة الذاتية للحبيب بورقيبة.
ونشر الكاتب والباحث في الحضارة الحديثة عادل الحاجي مقالاً عن القضية بعنوان “فلنترك بورقيبة لحقيقة التاريخ لا لزيف التعليمات” انتقد فيه بشدة قرار وزير التربية المذكور، وختمه بالقول: “أخيراً سيدي الوزير أخبرك أن الكثير من الأساتذة كانوا يرفضون تلاوة بيان السابع من نوفمبر أو مناقشته في زمن ابن علي ولم يدعوا يوما أنهم أبطال يومها.فقد كان درعهم الذي يقيهم هو اتحاد حشاد الذي كان يدافع عنهم إن حاول بعض الوشاة الكيد لهم والتبليغ عن رفضهم تلاوة البيان. أرأيت لقد كانوا يحتمون بمبادئ حشاد حريصين على استقلال المدرسة وعدم توظيفها. لقد حماهم حشاد واتحاده من توظيف المدرسة في حين كان ابن علي يستعمل نموذجاً يعود للعهد البورقيبي يقوم على توظيف كل شيء حتى المدرسة لخدمة الحاكم. أليس حشاد أولى وقتها بحصة درس ؟ولكننا نرفض ذلك ونطلب أن يدرس تاريخ حشاد تدريسا موضوعيا.”
ورداً على تعسف وزير التربية قررت النقابة العامة للتعليم الثانوي تعليق الدروس بداية من يوم الأربعاء الماضي في جميع المدارس الإعدادية والمعاهد الثانوية.
وجاء القرار احتجاجاً على فرض تدريس السيرة الذاتية للرئيس الراحل الحبيب بورقيبة على مدرسي التاريخ والجغرافيا.
ونشر بعض المدوّنين التونسيين رسالة للوزير قالوا فيها “إلى وزير التربية إن الأساتذة حائرون يتساءلون لو سألنا التلاميذ عن علاقة بورقيبة و الديمقراطية ماذا سنقول؟
لو سألونا عن بورقيبة و الحرية السياسية ماذا سنقول ؟
لو سألونا عن بورقيبة و علاقته بصالح بن يوسف ماذا سنقول؟
لو سألونا عن بورقيبة و العدالة بين الجهات ماذا سنقول ؟
لو سألونا عن بورقيبة و الدين ماذا سنقول؟
لو سألونا عن بورقيبة و الدستور ماذا سنقول؟
لو سألونا و نحن بعد ثورة حرية و الكرامة الوطنية لماذا نمجد دكتاتوراً ماذا سنقول؟
هل هو استبلاه بعقول تلاميذنا الذين يتقنون الإنترنت كما تتنفس أو استغفال لأساتذة كُلفوا بأمانة التنوير لا التضليل…”.