مكاشفة أوباما.. إلام تقود؟
11 جمادى الثانية 1437
أمير سعيد

ألأننا في عصر تتقارب فيه الأزمنة، وتختزل فيه السنوات بأيام، وتتغير فيه المواقف السياسية على مدار الساعة؛ تدهمنا "الذكريات الرئاسية" بهذه السرعة أيضاً وتجلب أوراق المستقبل إلى طاولة الحاضر فجأة؟!

 

 

 

يقدم الرئيس الأمريكي "شهادته" على فترة حكمه فيما هو لم يزل عظيماً للبيت الأبيض، ويتكلم بجراءة من غادروا السلطة وهم بعدُ في سدتها. صحيح أنه لم يفعل هذا بنفسه في كل حال حين أطلق لنفسه ولمستشاريه، وللمحاور الصحفي ذاته، العنان لخبطات عشواء تضرب يميناً ويساراً وبكل اتجاه، وصحيح أن المقابلة التي أجرتها معها مجلة أتلانتيك الأمريكية ونشرت على أكثر من ثلاثين صفحة قد جرت في أوقات مختلفة وبعيدة واستندت في جزء منها إلى تصريحات مستشاريه وتعمدت أن تخلط ما بين كلام أوباما ومستشاريه والصحفي اليهودي جيفري غولدبرغ صاحب المقابلة للخروج من أي مأزق دبلوماسي قد يترتب عليها، ولوضعها دوماً في السياق الذي يريده أوباما ومعاونوه، لكن مع كل هذا؛ فإن المقابلة تشير بوضوح إلى رغبة رسمية أمريكية في وضع بعض النقاط على الحروف، وإلى لفت الانتباه في اتجاهات معينة، وإلى الخلوص إلى نتائج محددة، برغم كل ما اعتراها من جفاء للدبلوماسية واللياقة في كثير من الأحيان.

 

 

 

 

لأول وهلة تبدو المقابلة المطولة عبثية، وتحوي مغالطات جمة، وتتحدث بلغة "المكاشفة" التي تفوق خطابات آخر رؤساء الاتحاد السوفيتي المتفكك، جورباتشوف صاحب سياسة "المكاشفة والشفافية" التي عرفت باسم "الجلاسونست"، لكن إذا ما سبرنا أغوارها وجدناها مترددة ما بين رغبة في إيصال رسائل ما لدول مؤثرة في العالم والإقليم الذي نعيش فيه، وإطلالة – من جانب آخر – عن كثب على ما يعتمل في رأس قادة الولايات المتحدة الأمريكية.

 

 

 

بمعنى: أننا لا يمكننا أن نتعامل معه على كونه تعبيراً صادقاً عن "عقيدة أوباما" أو بأكثر من هذا تعبير عن توجه الولايات المتحدة، كما أننا لا يمكننا أن نهمل أنه لا يخلو من تعبير عن هذا في الوقت عينه.

 

 

 

 

 

كنموذج لهذا؛ فإن ما باحت به المقابلة – أيا كان صاحب تلك العبارة تحديداً – عن أن "بعض حلفاء واشنطن في منطقة الخليج يتطلعون إلى جرها إلى صراعات طائفية طاحنة"، فيما مصالح بلاده تقتضي "الخروج من الصراعات الدموية في الشرق الأوسط حتى يتسنى لها التركيز بصورة أكبر على أجزاء أخرى مثل آسيا وأميركا اللاتينية"، لا ينفك من حيث الأصل عن سياسة أمريكية لمسناها بوضوح خلال فترة حكم أوباما لا ترغب بالتورط مباشرة في الصراعات، وتحبذ عوض عن هذا أن تستنزف خصومها وحلفاءها على حد سواء في تلك الصراع.. لكنه من جانب آخر، لا يعني أن واشنطن قد حزمت حقائبها وولت هاربة من صراعات المنطقة مثلما توحي هذه العبارات الآنفة الذكر! فلربما لا ترغب أمريكا في الانخراط في الصراعات لحد التضرر الاقتصادي، وترى أنها معنية بالالتفات أكثر إلى مناطق غضة كآسيا وأمريكا اللاتينية.. وإفريقيا الصاعدة وإن لم يقلها أوباما أو فريقه لسبب مجهول، لكنها في ذات الوقت لها اهتمامها الخاص بالمنطقة لخصتها ديباجة المقابلة ونتائجها بالقول: "في بداية عهده، توصل أوباما إلى استنتاج أن أخطاراً تعد على أصابع اليد الواحدة، هي وحدها يمكن أن تؤدي إلى تدخل أميركي في الشرق الأوسط،: خطر القاعدة، خطر على وجود إسرائيل، والخطر من النووي الإيراني.. وأما الخطر من نظام بشار الأسد، فلم يصل أبداً إلى مستوى هذه التحديات".

 

 

 

 

 

 

في هذا التلخيص تحديداً تجهيل متعمد لأهم أهداف الولايات المتحدة في المنطقة، ومع ذلك فهو منحنا إشارات مهمة عن السياسة الأمريكية في طورها الحالي الذي لا يلتفت كثيراً للنفط مثلما كان بالسابق أو بالأحرى لا يظهر اهتماماً كبيراً بخلاف العقود الماضية، ويتحدث بواقعية لا تخلو من براجماتية فجة تصب جميعها في معنى واحد حاولت المقابلة طمره وتغييبه، في "الاستنتاج" هذا لا يتم تحديد الإسلام كخطر وحيد يتقدم هدف نهوضه على تأمين "إسرائيل" وحماية نظام بشار.. بل إن كليهما لا يعدو أن يكون وسيلة لا يحصل تحقيق الهدف الأغلى للولايات المتحدة دونها.

 

 

 

 

 

هذا الهدف الأغلى، جعل من أوباما الذي استهل حكمه بـ"التبشير" بالحريات والديمقراطية والتعايش في خطابه الشهير بجامعة القاهرة، لا يرى أن خطر بشار "لم يصل أبداً إلى مستوى هذه التحديات"، ويجعله يشيد بالمستبدين، كما يقول صاحب المقابلة: "بات من عادة الرئيس خلال الأيام الأخيرة أن ينكت في المجالس الخاصة قائلا: "كل ما أحتاج إليه في الشرق الأوسط هو قليل من المتسلطين الأذكياء".!

 

 

 

 

 

يقع أوباما في التناقض، حينما يتحدث عن حلفاء أمريكا من السنة تحديداً في كونهم يريدون أن "يركبوا رحلة مجانية" وأنهم "لا يشاركون في الجهود العسكرية ويعولون على الولايات المتحدة للتدخل لحل النزاعات، في حين يبقون هم خارج اللعبة"، بينما هو يدعوهم – لا سيما السعودية – إلى عدم الانخراط في الصراعات وحل مشاكلها مع إيران عبر نموذج "الحرب الباردة"!

 

 

 

 

 

يتحدث عن الفوضى التي حدثت في اليمن وسوريا والعراق، ولكنه يرغب في تسكينها دون لجوء إلى قوة مقابلة للفوضى التي جرتها الولايات المتحدة وإيران إلى المنطقة.. بيد أن هذا التناقض يتبدد حين يبدو الهدف الأغلى جلياً؛ فمن بين أهم وسائل كبح الإسلام أن تستفيد إيران من تسكين فوضاها عبر المفاوضات و"الحرب الباردة".. أي أن إيران غير المدانة "أوباماويا" يجب أن تكافأ على تمددها بتسكين الصراعات التي فجرتها عبر الطاولة مستفيدة هي من كل ما حققته في تلك الصراعات على الأرض.. هكذا أراد أن يقول أوباما.

 

 

 

 

 

يتناقض أوباما حين تحدث عن الخطر النووي الإيراني، ثم هو يعترف بأن الاتفاق النووي الذي أبرمه مع حكام إيران سيدفع السعودية إلى التطلع إلى سلاح نووي، الذي أكد أنه سيرفضه تماماً، أي أنه يعترف بخجل بأن اتفاقه يزعج الرياض لأنها تراه مفضٍ إلى سلاح نووي إيراني – وهي محقة في هذا – ثم هو لا يقدم لها بديلاً في "حربها الباردة" التي يبشر بها بينها وبين إيران! لكن هذا التناقض يزول بالعودة إلى "الهدف الأغلى" الذي يسمح لإيران بمعاملة خاصة في السياسة الأمريكية في المنطقة.

 

 

 

 

 

 

يتناقض أيضاً حين يبدي تأففاً من السعودية التي يراها "تقمع نصف شعبها" ربما بسبب قيادة المرأة للسيارة! وأنها بهذا غير جديرة بالحياة المدنية الحديثة، وحين يلقي بتبعة الإرهاب والتطرف في العالم عليها من إندونيسيا حتى المغرب! لكنه يضرب الذكر عن جرائم إيران حول العالم وداخل حدودها ذاتها، حيث سبقت المقابلة عملية إعدام جماعية لكل رجال قرية إيرانية سنية. وحين يبدي انزعاجاً كبيراً من نشاط الدعاة السعوديين بإندونيسيا في الوقت الذي يتجاهل فيه عن عمد النشاط المحموم لنشر التشيع و"خلق" بيئة حاضنة للصراعات الطائفية التي يظهر قلقه منها في "الشرق الأوسط"، هناك تحديداً في إندونيسيا وفي غيرها من دول شرق آسيا التي يتطلع لنقل اهتمامه التالي إليها.. غير أن هذا التناقض يتلاشى مع العودة إلى "الهدف الأغلى" للولايات المتحدة، وهو تكسير عرى الإسلام ووشائج المسلمين في العالم كله.

 

 

 

 

يتناقض إذ يظهر ارتياحه للتعامل مع "المتسلطين الأذكياء" في "الشرق الأوسط" لكنه مع هذا يعرب عن خيبة أمله في أردوغان الذي يصفه بالمتسلط، وكأن أردوغان لو كان متسلطاً لكان غبياً! وكأن الغباء حكر على السنة بآسيا دون مبعثري الميليشيات وحاضنيها في المنطقة، حكام طهران وملالي قم، أو المتسلطين الانقلابيين.

 

 

 

 

 

يتناقض أوباما حين تقول المقابلة إن إعلانه عن ضرب سوريا كان لضمان بقاء "مصداقية" الولايات المتحدة؛ فيما تؤكد في الوقت عينه على أن " أوباما كان يعتقد أن منظومة السياسة الخارجية الأميركية، التي يحتقرها في سره، "تؤلّه" كلمة المصداقية، خصوصاً تلك التي يجب الحصول عليها بالقوة. برأيه "المصداقية" تلك، هي التي قادت إلى حرب فيتنام"!

 

 

 

 

 


ما يجعلنا نخرج من المقابلة بانطباعات متناقضة
: أوباما يرحب بالتعامل مع المستبدين ويمقتهم، ويعلن عن تقيده بدعم الديمقراطية وخيبة أمله من انكفاء ثورات الربيع فيما هو يدعم المنقلبين عليها، ويرغب بانخراط القوى الإقليمية في حل مشاكلها ولو بالقوة حتى لا يكونوا "راكبي رحلة بالمجان"، ولكنه يطالبهم بالاستسلام الطوعي لميليشيات إيران في المنطقة وحل المشكلات الطائفية التي صنعتها إيران بالقوة عبر "الحرب الباردة".. الخ

 

 

 

 

ولو تجاوزنا التناقضات، وأردنا أن نخلص لمؤشرات مستقبلية؛ فإننا نقول بأنه لو كان ما قاله أوباما يعبر عن خط استراتيجي للولايات المتحدة، وأنه يتجاوز حدود التفكير الشخصي أو النصائح المستقبلية لخلفائه؛ فنحن سنقاد إلى ما يلي:
-    أمريكا لا ترغب بانخراطها في صراعات بالمنطقة لكنها لن تكون بعيدة عن توجيهها أو التأثير فيها.
-    دول المنطقة عليهم أن يتدبروا جانباً مهماً من مستقبل المنطقة، وعليهم ألا يركنوا إلى ضمانات أمريكية بدا أن أوباما وربما خلفاءه غير معنيين بالالتزام بها.
-    واشنطن أبدت ما كانت تخفيه لعقود: إيران هي الحليف الرئيس لها في المنطقة، وهي المعنية أكثر بترتيب أوضاع المنطقة تحقيقاً للهدف الأغلى، لجم جواد الإسلام بذراعي "إسرائيل" وإيران.
-    الولايات المتحدة غير ملتزمة بأي شيء، وأنها مستعدة لتبديل التزاماتها بربع ساعة (مدة تراجع أوباما عن ضرب سوريا استناداً إلى رواية المجلة لو صدقت"! وهي تستخف بتصديق حلفائها لوعودها المعلنة، وتزدريهم.
-    التزام أمريكا الوحيد هو بهدفها الأغلى، ولتحقيقه يتعين عليها ضمان أمن "إسرائيل" وتفوقها، وتفوق إيران في معادلة الصراع الخليجي، ودعم الديكتاتوريات.
-    الولايات المتحدة بصدد العمل على إحداث تغيير في تركيا والخليج.

 

 

 

 

الحاصل بالنهاية أن مقابلة أوباما لم تكن عبثية برغم افتقارها للدبلوماسية، وهي مقصودة بإرسال رسائل متعددة، وهي وإن حوت أكاذيب كثيرة إلا أنه يمكن استقراء ملامح سياسة أمريكية قادمة، برغم ما سيطرأ على تركيبة الإدارة الأمريكية.. هذا مقلق بعض الشيء، لكن لمن لا يقرأ السياسة الخارجية الأمريكية الآن على الأرض دون رتوش ومساحيق التصريحات والمقابلات الموجهة.