بطريقته الهادئة جداً كان عادل الجبير وزير الخارجية السعودية يعلن واحداً من أكثر الأخبار سخونة في المنطقة، قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران، وطرد بعثتها الدبلوماسية من المملكة العربية السعودية.
مضت الأحداث - ولم تزل – متسارعة لا يكاد يلاحقها مراقب، تواثبت مذهلة، تنفيذ أحكام بالإعدام على عدد من المتهمين بالإرهاب، بينهم أحد أذرع إيران، نمر النمر، فاعتداء على سفارة السعودية وقنصليتها بإيران، فقطع العلاقات السعودية الإيرانية، لكن ذهولها لم يكن لينسحب على السعوديين أنفسهم؛ فلا جرم أن الحكومة السعودية قد أخذت للأمر أهبته.
حطت طائرة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مطار العاصمة السعودية يوم 29 ديسمبر الماضي، وأجريت مباحثات سعودية تركية تكللت بالإعلان عن إنشاء مجلس للتعاون الاستراتيجي بين البلدين، ووفقاً لوكالة الأناضول؛ فإن الزيارة أتت "في إطار تبادل وجهات النظر بشأن سلسلة من الأحداث والمتغيرات الجيوسياسية السريعة التي تمر بها المنطقة".
بدت من ردات الفعل العربية – الخليجية خصوصاً - على اعتداء قوات الأمن السرية على السفارة والقنصلية السعوديتين في إيران، لاسيما من الإمارات التي لم تزل تحتفظ بعلاقات اقتصادية قوية مع إيران أن السعودية لم تتفاجأ برد الفعل الإيراني على إعدام النمر، وأنها كانت جاهزة، وجميع حلفائها -الذين لم يوفروا وقتاً - للغوغائية الإيرانية المتوقعة، ولوحظ أن اتخاذ الإمارات محطة وسيطة لانتقال البعثة الدبلوماسية السعودية كان له أكثر من معنى ومغزى.
لم يكن الظرف اعتباطياً، ولا كان رهيناً بحادثة عارضة؛ فالنمر ليس بالقدر الذي يقطع علاقة بين بلدين إقليمين مهمين تحاشا كل آثار العواصف التي ضربت المنطقة من قبل، وحرصا ألا تقطع بينهما شعرة معاوية (وإن كرهها وكرهه الإيرانيون)، لكنه كان القشة التي قصمت ظهر البعير؛ فتداعت به الأحداث.
وإذا كان اجتياح العراق وسوريا واليمن من قبل إيران وأدواتها لم ينل من علاقة هشة حافظ الطرفان على بقائها؛ فإن النمر ما كان له أن يذهب بها معه لولا أن كان معه آخر الدواء.. الكي.
وبه، أضحى الباب مشرعاً أمام تصورات جديدة تتناسل من رحم الأزمة؛ فلو لم تذهب النتائج بالأحداث في المنطقة بعيداً؛ فعلى الأقل ثمة ما يمكن استشرافه فيما تقدم. فالمنطق القاضي بأن كلا من الرياض وطهران يقف مواجهاً للآخر في سوريا واليمن بشكل أو بآخر، وفي لبنان بدرجة أقل، يحكم بأن استمرار العلاقات الدبلوماسية بين البلدين كان مؤقتاً، وأنه ما دامت المعادلة ستستمر هكذا؛ فإن مقتضى الصراع يقتضي دخوله إلى منعطف جديد، وهذا بدوره ما سيثير سيلاً من التوقعات القادمة.
في الواقع أنه لم تغل الدبلوماسية يد إيران عن محاولات العبث بمصالح السعودية ودورها الإقليمي والإسلامي، لكن المستجد الأخير يعني أن السعودية معنية الآن بضبط الأوضاع أكثر في المنطقة، وأنها بصدد تطوير سياستها في المنطقة بما يتلاءم مع متغيراتها ودخول أكثر من ملف فيها مرحلة الحسم.
اتخذت الرياض قراراً شديد الجرأة، ولديها قناعة بأنها متوجهة إلى استحقاق إقليمي بالغ الأهمية، تدرك السعودية فيه أن قطع العلاقات ليس الخطوة الأخيرة، بل ربما الأولى في سلسلة خطوات ستسرعها أو تبطؤها طهران أيضاً، لكن مع أي حالٍ؛ فإن السعودية تعلم يقيناً تداعيات قرارها هذا، وتأثيره على ملفات سوريا وفكرة تسريع خطوات دعم المعارضة السورية، واليمن وضرورة حسمه العسكري، ولبنان وأهمية تقوية وضع الأقلية السنية فيه، والعلاقات مع تركيا ومدى استعدادها لتطورها بشكل متسارع، والعلاقات مع دول خليجية تحتفظ بعلاقات ما مع طهران، وكذلك تدرك مسؤوليتها حيال حلفائها داخل مجلس التعاون الخليجي، وتوقن بضرورة دخول التحالف الاستراتيجي مع الدول الإسلامية مرحلة أكثر فعالية وتماسكاً.
في الإجراء الأخير، تُلمح الولايات المتحدة وقد غدت مغادرة أو كادت، وروسيا وقد أقبلت وتمادت، وعجلة التاريخ تسترجع قرناً من الزمان، حيث المنطقة تمور على وقع تشكيل جديد، أو لنستعر تعبير الأناضول أعلاه "سلسلة من الأحداث والمتغيرات الجيوسياسية السريعة التي تمر بها المنطقة".. نعم، إنه "التغيير الجيوسياسي" أو للدقة "الجيوستراتيجي".
وفي "التغيير" مطلوب من دول إقليمية، بالخليج وحتى مصر أن تحسم مواقفها وتتخذ أماكنها، وأن تتخلى أنقرة عن بقايا سياستها الاستثنائية السابقة، "صفر مشكلات"؛ فلقد حرق الإيرانيون جميع مراكبهم مع "الجيران"، ولم يعد ممكناً الاستمرار في سياسة "متوازنة من جانب واحد!" إلى الأبد؛ فوقت الاصطفاف قد حان، والتمايز قد آن.
ستسمع المنطقة صخباً من التصريحات الأوروبية، لكن لن تعدوه كثيراً، وستسعى واشنطن المشغولة بانتخاباتها لاستخدام نفوذها، وسيسمع لكل هذا صدى، لكن رجعه سيكون الأعلى.. رجعه من المنطقة ذاتها التي اضطلعت بدور مختلف لم تألفه منذ عقود، فرغم النفوذ الغربي الكبير في المنطقة إلا أن الأيدي الإقليمية غدت بحاجة للبحث عن دور أكبر وتحرك أوسع يحكمه التحدي الذي فرضته إيران (وروسيا من بعيد) على المنطقة.
وبحضور رد فعل سعودي مكافئ للتحركات الإيرانية؛ فإن طهران بات بيدها أن تفتح الطنجرة بتدخلاتها ومؤامراتها، أو تحكم غطاءها بيديها، وبوسعها أن تختبر صبر السعوديين مجدداً، وحينها؛ فإن الرياح الساخنة قد تهب حتى على أرضها (بمناطق الأحواز.. البلوش.. الأكراد) لا مصالحها المزعومة وحدها. بالتأكيد لدى الخليج شبه الموحد أوراق كثيرة، ولديه تطلعات أكبر لحسم ملفات طالت أوقاتها.. الحسابات دقيقة، ودوائر صنع القرار في كل عواصم الإقليم تدرك مغبة انفلات الأمور، وتتحسب أن تصل الأمور إلى نقطة اللاعودة التي تتفجر معها الأوضاع أكثر مما هي عليه الآن.. لا أحد في الشاطئ الآخر من الخليج يسعى إلى أن تحسم الصراعات بالقوة، لكن ماذا عسى الجميع أن يفعل إذا ما جر حكام طهران المنطقة نحو الانفجار بحرقهم كل المراكب والحبال؟!