الأرشيدوق يرتدي بزة واقية هذه المرة
2 ربيع الأول 1437
أمير سعيد

بلا مواربة، قامت الحرب العالمية الأولى باسم مكافحة الإرهاب، برغم أن هذا المصطلح لم يكن شائعاً في ذلك الوقت، لكن الإرهاب كان متجسداً بعملية اغتيال نفذتها مجموعة إرهابية تعمل لحساب أطراف دولية.

 

 

 

اتهمت الإمبراطورية النمساوية المجرية الحكومة الصربية برعاية مجموعة القبضة السوداء التي اتهم غافريلو برينسيب قاتل الأرشيدوق فرانس فرديناند وريث عرش الإمبراطورية بالانتساب إليها.

 

 

 

 

اغتيل فرديناند في سراييفو في يونيو من العام 1914، وبعد هذا بشهر أعلنت كلا من الإمبراطورية وألمانيا الحرب على صربيا التي تحالفت معها دول أخرى، وبدأت الحرب العالمية الأولى التي أودت بحياة أكثر من عشرة ملايين، وانتهت بغروب شمس الخلافة العثمانية كأكبر متضرري الحرب.

 

 

 

 

قيل ما قيل بعدها عن أن الحرب إنما اندلعت لتفكيك الدولة العثمانية وتركيع ألمانيا، لكن بغض النظر عن صحة ذلك من عدمه؛ فإن ذلك بالتأكيد قد كان أبرز نتائجها، فلم تكن أوروبا لتنفق فاتورة باهظة تضم ملايين من الضحايا من أجل القضاء فقط على جماعة إرهابية هي القبضة السوداء التي قتلت فرديناند، لكونها كانت "باقية وتتمدد" في صربيا!

 

 

 

 


البعض استحسن تشبيه حادثة اغتيال الأرشيدوق النمساوي، بحادثة إسقاط أنقرة للطائرة الروسية التي اخترقت المجال الجوي التركي مراراً
، كونها كانت مبرراً لازماً لوضع العلاقة الروسية التركية على حافة الحرب، وهي لو اندلعت فلن توفر دولة في المنطقة لا تساهم في جمع الحطب لها أو إشعاله. والبعض يقرأ في الصحف الروسية وتصريحات القيصر الروسي فلاديمير بوتين ما يعيد للذاكرة قصة جماعة "القبضة السوداء" (الإرهابية) التي كانت تحتضنها بلجراد، فإصرار صحف موسكو على ترديد مزاعم عن علاقة أنقرة بتنظيم داعش الغامض يؤشر على رغبة روسية في توسيع نطاق الأزمة مع أنقرة وليس لملمتها.

 

 

 

 

 

والحقيقة أن الاستفزاز الروسي المستمر لتركيا إلى حد حمل أحد الجنود الروس قاذفة صواريخ أرض جو بوضعية الإطلاق فوق سفينة حربية روسية، أثناء عبورها مضيق البوسفور يرغم على استدعاء التاريخ، تاريخ العلاقة الروسية التركية، ويذكر بتلك الفاصلة التاريخية في العام 1770 حين أحرقت سفينتان روسيتان الأسطول العثماني كله بعد أن تعاملت المجموعة المسؤولة عن أمنه بنزق ظناً منها أن السفينتين قادمتان للاستسلام، فسمحت باقترابهما دون تأمين؛ فأحرقتاه مستفيدة من تلاصق سفنه، ما جعل غد العثمانيين مخالفاً لأمسه وانتهى إلى اضمحلال دولتهم.

 

 

 

 


التاريخ حضر اليوم دون مبالغة
؛ فالدولة التي كانت أشد دول أوروبا عداء للدولة العثمانية، وساهمت بقوة في إسقاطها، الإمبراطورية الروسية جاءت مشبعة بإرثها العدائي التاريخي مراهنة بكل مكتسباتها الحالية من علاقتها الاقتصادية بأنقرة لتطلق تهديدات من قبيل ما مررته السياسة الروسية من خلال ما نشرته صحيفة نيزافيسمايا غازيتا الروسية من أن "روسيا تستطيع أن تملأ مياه مضيقي البوسفور والدردنيل بالألغام التي لا يمكن الوصول إليها عن طريق الغواصين، وتغلق المضيقين إلى الأبد"، وعلى شاكلة مقايضة النائب في مجلس النواب الروسي (الدوما) سيرغي جافريلوف الطائرة الروسية التي أسقطتها القوات الجوية التركية بمسجد محمد الفاتح (آيا صوفيا)، بقوله: "من الممكن التغاضي عن قيام تركيا بإسقاط الطائرة الروسية في سوريا إذا أعادت أنقرة مسجد آيا صوفيا إلى الكنيسة الأرثوذكسية"، وكمثل تصريحات بوتين القيصرية بأن تركيا ستندم "أكثر من مرة" على إسقاط قاذفة روسية قرب الحدود السورية التركية، وأن موسكو لن تتجاهل مساعدة أنقرة لـ"إرهابيين".

 

 

 

لكن التاريخ إذ حضر لا يعني أن روسيا ستعيد إغراق الأسطول "العثماني" مجدداً، وهي التي تجد ذاتها في ظرف مختلف، تهدد وترعد وتزبد غير أنها لا تقوى على الاستمرار في "المشوار" حتى نهايته؛ فخيار الحرب مع تركيا يبدو مستبعداً، لكن تقليم أظافرها في سوريا هو المأمول مرحلياً لدى موسكو، أما حصار تركيا وتدجينها فهو ليس أولوية للروس وحدهم، فالأمريكان والأوروبيون يشاطرونها الرغبة ذاتها.

 

 

 

على أن الرغبة الروسية لا تطابق مثيلتها لدى الغرب؛ فالاتحاد الأوروبي الذي لا يقوى على منازلة سياسية واقتصادية حاسمة مع الروس تبدت بوضوح في أوكرانيا بعد ضم القرم لروسيا والاقتراب من ضم الشرق الأوكراني، وصعوبة استغناء الأوروبيين عن الغاز الروسي، لا يريد تغولاً روسياً ولو على حساب الأتراك "العثمانيين"، وكذلك فإن واشنطن لا ترحب بنشر صواريخ إس 400 براً وبحراً بالقرب من حلفائها الأوروبيين، ولا تواجداً لافتاً للروس في البحر المتوسط.

 

 

 


لا أحد بالغرب يرغب في تركيا قوية مستقلة
، لكن في ذات الوقت ستعمل العواصم الغربية على بقاء تركيا ضمن حلف الناتو، تماماً مثلما حاولت تلك العواصم قبل قرنين أن تُبقي الرجل المريض على قيد الحياة خشية أن تكون الإمبراطورية الروسية الصاعدة هي وريثته الوحيدة.

 

 

 

المناخ مختلف، لكن ثمة تشابهاً ملحوظاً في هذا، توازن الدول الغربية بين حلفين لا تريد لهما أن يصعدا. باتصال سوريا (الروسية) مع لبنان وباستمرار الاحتلال الروسي لها، واتخاذها قاعدة متقدمة لها ستصبح المصالح الغربية مهددة، لكن باتصال سوريا (التركية) سيكون الامتداد من اليمن جنوباً إلى تركيا مروراً بالسعودية وسوريا مقلقاً جداً للأوروبيين بصفة خاصة والغرب بشكل أعم.

 

 

 

 

وبعيداً عن تهديدات الروس، والرد التركي الصاعق باحتمال إعادة النظر في مرور السفن الحربية الروسية من المضايق التي تشرف عليها تركيا، أو العودة إلى فرض رسوم مرور باهظة عليها توفرها لها اتفاقية مونترو التي تقدر عملة المرور بـ"الفرنك الذهبي" عالي القيمة (سترفع أنقرة حالئذ رسوم المرور على الروس إلى نحو عشرين ضعف ما تدفعه موسكو اليوم)؛ فإن المصالح الاقتصادية بين البلدين التي تضررت كثيراً بقرارات موسكو العقابية، لاسيما عند الجانب الروسي نفسه الذي كان كمن أطلق الرصاص على قدمه؛ فرفع الأسعار في روسيا وفاقم من أزمتها الاقتصادية بسبب العقوبات الأوروبية وتراجع أسعار النفط، تلك المصالح ستضغط على العاصمتين لجعل ردات الفعل أكثر عقلانية، وهما قد تعملان على تحديد مجال الصراع وميدانه في الداخلين السوري والعراقي.

 

 

 

 

الأوضاع متشابكة جداً في سوريا إلى الحد الذي تجعل الهروب إلى الأمام هو الخيار الأفضل لدى الدول الفاعلة في سوريا؛ فالتفكير بتصعيد الحرب محفوف بمخاطر هائلة لا قبل للعالم بها اليوم، كما أن التسوية السياسية ليست خياراً جيداً أو متاحاً في ظل رغبة أممية في الإبقاء على نظام بشار الأسد وتعويم أجهزته السلطوية لتأمين "إسرائيل"، وأوروبا معاً، وهو ما يعاكس رغبة أكثر من فصيل سوري مسلح لم يجر احتواؤهم بعد.