العملية الإرهابية في اليونان
18 صفر 1437
أمير سعيد

ربما هي الجريمة الإرهابية الفاقعة التي لم يسمع بها معظم العالم الذي هب عن بكرة أبيه لمحاربة تنظيم هلامي في سابقة تاريخية فريدة، فهي جريمة إرهاب دولة وليست إرهاب تنظيم غامض أنيط به دور فأداه على وجهه الأكمل.

 

 

 

 

 

صحيح أن كثيراً من الجرائم الإرهابية تقوم بها دول، ولا تنال حظها من الإدانة أو التجييش مثلما يحصل مع التنظيمات المتوسطة والكبيرة، لكن هذه المرة لمذاقها طعماً أشد مرارة وأكثر لذوعة؛ فمن حيث المكان فقد وقعت غير بعيد كثيراً عن فرنسا؛ فهي بكل حال في أوروبا، وفي واحدة من بلدان الاتحاد الأوروبي، ومن حيث الزمان في خضم التجييش العالمي على "مسرحية الإرهاب العالمية" في أعقاب هجمات باريس الغامضة؛ فالجريمة التي قامت بها اليونان وفق ما نشرته وكالة الأناضول التركية قامت به جهة رسمية يونانية، هي مركز البحث والإنقاذ اليوناني، إذ تقول الوكالة إن " فرق خفر السواحل التركية قد أنقذت 58 لاجئاً سورياً من الغرق في مياه بحر إيجه، عقب قيام عناصر من خفر السواحل اليونانية، بثقب زورقهم المطاطي وإغراقه في بحر إيجة."

 

 

 

 

 

هكذا مر الخبر بسهولة على مستقبلات جميع وسائل الإعلام المشتركة في خدمة الأناضول أو تلك التي لا تشترك، حين تلقت التفاصيل أن " قارباً من مركز البحث والإنقاذ اليوناني، توجه إلى منطقة تقع إلى جنوب غرب منطقة «ديديم تاك أغاج بورنو»، عقب تلقي طلب مساعدة من اللاجئين في قارب مطاطي، حيث قام عنصر من فرق السواحل اليونانية بإغراق قارب المهاجرين، من خلال فتح ثقب فيه عمداً، وضرب المهاجرين، ومن ثم مغادرة المكان وترك اللاجئين في عرض البحر."

 

 

 

 

 

سقط اللاجئون المستضعفون في البحر في هذه الأجواء الباردة، ولم ينجدهم - بعد الله - إلا فرق خفر السواحل التركية الذي هب لإنقاذهم وإعادة 58 لاجئاً سورياً كانوا على متن القارب المطاطي إلى ميناء «ديدم» بولاية «آيدن» غرب تركيا. لينضم هؤلاء إلى حصيلة تضم 79 ألفا 489 لاجئاً أنقذهم خفر السواحل التركي في 2133 عملية إنقاذ في مياه البحر إضافة إلى 14 ألفا و961 آخرين تم إنقاذهم العالم الماضي في 574 عملية إنقاذ.

 

 

 

 

 

يتحدث العالم عن عمليات "إرهابية" تقوم بها ميليشيات أو مجموعات لا تعترف بقانون دولي أو محلي، وهي مهما تعاظمت فهي في النهاية لا تمثل دولاً تتمتع بعضوية الأمم المتحدة وتعلن التزامها بالقانون الدولي، لكنه لا يكترث كثيراً بالعمليات الإرهابية التي تقوم بها الدول، لاسيما تلك الغربية التي تزعم احترامها لمواثيق الأمم المتحدة.

 

 

 

 

 

اليونان أجرمت، ولم تحقق أو تقدم اعتذارها أو أسفها، وكابرت، ونفت، لكن الحقيقة أن تلك الدولة المتعصبة دينياً للأرثوذكسية المسيحية ارتكبت العديد من الجرائم الإرهابية في حق اللاجئين، وهي سعت لإغراق لاجئين، وتباطأت في إنقاذ آخرين برغم الرصد الأوروبي العالي لكل ما يجوب البحر المتوسط، وسوء معاملتها للاجئين يشي بأن الاتهامات الموجهة إلى أثينا بشأن ملف إنقاذ اللاجئين العالقين في البحر المتوسط لم تأت من فراغ.

 

 

 

 

 

 

 

لا تحمل المعارك في سوريا والعدوان الروسي الغاشم على أهلها أملاً عريضاً للاجئين، ولا تدعوهم إلى تغيير آرائهم في مغادرة بلادهم، لكن الإحصاءات تشير إلى نقصان شديد في أعداد اللاجئين المتدفقين إلى اليونان بعد تراجع آمال اللاجئين في الفوز بفرص معيشية أفضل؛ ففي مقابل آلاف عدة كانوا يتدفقون إلى اليونان؛ فإن بضعة مئات وربما عشرات يصلون يومياً إليها الآن. البعض يعزو هذا للطقس السيء، وآخرون إلى تدخل تركيا لكبح معدلات اللجوء لأوروبا، لكن لا يمكن إهمال المعاملة السيئة التي يلقاها اللاجئون في الدول الأوروبية، لاسيما اليونان، وتعرضهم للإغراق والاستغلال والقهر؛ فقد بدأت الأنباء ترشح من مناطق اللجوء إلى اعتداءات جنسية على نساء، وتجارة بشر، ثم جاء خبر الأناضول ليعزز مخاوف عن احتمال تورط دول أوروبية في إغراق الآلاف من اللاجئين في البحر أو التقاعس عن إنقاذهم.

 

 

 

 

 

تراجع الأعداد الواصلة إلى اليونان بشكل حاد يحمل أكثر من تفسير، لكن إحداها يتعلق بمقطع فيديو لم تنشره وكالة تركية موالية لإدارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وإنما مناوئة تماماً له ولمشروعه، بخلاف الأناضول، هي وكالة دوغان العلمانية المعادية للعدالة والتنمية ومشروعها. مع هذا، اتفقت هي والأناضول على تأكيد حدوث جريمة الإغراق تلك، والتي أمكن توثيقها هذه المرة، وهذا يعني أن الخبر أبعد عن أن يكون ملفقاً مثلما حاولت السفارة اليونانية في القاهرة أن تدحضه ببيان هزيل لا يرتقي إلى عظم وفداحة الجريمة الإرهابية المتهمة بارتكابها حكومة اليونان.

 

 

 

 

 

جريمة الحكومة اليونانية في حال ثبوتها بدليل قاطع هي كافية لإحالة تلك الحكومة إلى محكمة لاهاي لارتكاب نظام أثينا جريمة مصنفة قانونياً على أنها "جريمة ضد الإنسانية"، لكن هذا محض افتراض جدلي ليس إلا، ليس لأن أثينا لن تقترف تلك الجريمة المصورة، وإنما لأن لا أحد في العالم يكترث لأرواح المسلمين السوريين ولا غيرهم، وأوروبا كلها تود لو أنها أطفأت الأنوار وأقفلت الكاميرات وأغرقت كل لاجئ لا تروق لبلاد الحرية استضافته، أو سدت حدودها – نقضاً لقوانين الاتحاد الأوروبي – دونه.

 

 

 

المقطع لم يكن هيناً، لا من حيث دلالته على استمراء الخفر لارتكاب مثل هذه الجرائم، ولا من حيث إشارته إلى تعدد الجرائم المماثلة بما قد أفضى ربما إلى غرق الآلاف من اللاجئين، ولا من حيث قسوته وخسته، كجريمة قامت بها فرقة أنيط بها أن تنقذ العالقين في ظلمات البحر.. فأغرقتهم، وهي خسة تتضاءل دونها جرائم إرهابية صريحة!