في سهول جبال أراكان، ووادي فرغانة، وصحراء الخليج، وجبال الكرد، ومروج الشام، ووادي النيل، وهضبة البلقان.. ثمة من هم أكثر اهتماماً بنتائج الانتخابات التركية من كثير من مراقبينها ومحللي نتائجها.
يمتد أثر ما أعلن قبل أيام في العاصمة التركية أنقرة عن فوز حزب العدالة والتنمية التركي لمساحات شاسعة، ويشمل في انعكاساته شعوباً وقبائل، قوميات وطوائف، لا تمثل الانتخابات التركية بالنسبة إليها مجرد أرقام وإحصاءات؛ فالحزب الفائز، وإن لم ترصده القوانين كحزب إسلامي، أو تصنفه الدوائر الفكرية البحثية كحزب ليبرالي؛ فإنه بأي حال، "حزب عثماني"، وهو بهذه الصفة لا يمكن تأطيره بحدود تركيا الحالية، لذا؛ فكثير منها متطلع إلى تأثير ما على أوضاع بلاده.
العدالة والتنمية يدرك هذا، وما قاله رئيسه أحمد داود أوغلو فور فوزه من أن "إخوتكم في فلسطين وسوريا والبوسنة وفي كافة بلاد المستضعفين ينتظرون منكم الكثير" إلا تجسيداً لما لوحظ بالفعل في المحيط الإقليمي لتركيا من ابتهاج شعبي بفوز العدالة والتنمية؛ فقد نظمت المواكب والاحتفالات التي شارك فيها الآلاف في شوارع البوسنة والهرسك وألبانيا ومقدونيا وكوسوفا والعديد من الدول الأخرى بحسب ما أفادت صحيفة يني عقد التركية، وفي مقدونيا تحديداً، اتصل رئيس الوزراء داود أوغلو بالمحتفلين في أكبر الاحتفالات في البلقان وشكرهم على تأييدهم للحزب الذي لم يعد يعبر عن طموح تركي محلي محدود؛ فالاحتفالات التي عمت غزة، والارتياح الذي أبداه أبرز شخصيتين فلسطينيتين في القدس (شعبية ورسمية) هما الشيخ رائد صلاح، شيخ الأقصى، وزعيم الحركة الإسلامية في فلسطين 48، والشيخ عكرمة صبري مفتي القدس وخطيب المسجد الأقصى المبارك، حيث اعتبر الشيخ صلاح أن " فوز حزب العدالة والتنمية التاريخي سيسهم في الدفاع عن قضايا المقهورين والمسجد الأقصى، (فقد) أثلج الشعب التركي، صدر الأمة، بانتخابات تاريخية في نتائجها ورسالتها، التي صفعت كل أدوات التخريب في الأرض، كما أنها جاءت رافدا مهما لبقاء تركيا قوية، قادرة على حمل هموم المنطقة وعلى رأسها المسجد الأقصى"، فيما أكد الشيخ صبري أن فوز الحزب "سيمكّن الحكومة التركية من دعم قضية القدس والمسجد الأقصى"، ومثل ذلك قاله رئيس الوزراء الفلسطيني السابق اسماعيل هنية وزعيم حركة حماس خالد مشعل. 15 فصيلاً سورياً هم جيش الإسلام وفيلق الشام والفوج الأول (عبروا بشكل منفرد)، وفصائل السلطان مراد، والجبهة الشامية، والوحدة 101، وجيش المجاهدين، ووحدات الصحوة، وفرقة الوسط، ووحدة فاستقم، وجيش النصر، وصقور الجبل، وألوية فاستقم كما أُمرت، وفرسان الحق، والكتيبة 13 (في بيان مشترك)، أبدوا تفاؤلهم بانفراد الحزب بالحكم في تركيا بحسب وكالة الأناضول التركية، وفي تونس (بلد الربيع العربي الأول) عبر مناصرو حركة النهضة عن سعادتهم بفوز الحزب، وعمت الاحتفالات بلادهم بشكل كبير.. أما الخليج العربي وكثير من دول الخليج فقد عجت وسائل الاتصال بما يشي باهتمام بالغ، وتأييد جارف للحزب الذي تنظر له القطاعات المتدينة بإعجاب كبير.
الأمر بطبيعة الحال لا يتعلق بمجرد تصريحات أو بيانات؛ فكثيرون يرون في تركيا رافعة استنهاضية للمنطقة، والأمر لا يقتصر على مجرد جماهير متعاطفة، ولا نخب متدينة، بل إن الخريطة السياسية تنطق بما فاءت إليه الأمور بعد فوز حزب العدالة والتنمية بالانتخابات بـ317 مقعداً من أصل 550 في البرلمان التركي، مكنته من تشكيل حكومة أغلبية، يكون في مقدم آمالها تغيير دستور 1980 العلماني الجائر.
ما من شك في أن الخليج، وفي قلبه السعودية وقطر، كان يترقب الانتخابات التركية لما ستنعكس عليه من عدة نواحٍ، أهمها الإفادة من قوة ومركزية وتأثير أنقرة في دعم المواقف الخليجية لاسيما العلاقة مع إيران التي تغولت في المنطقة بأكثر مما ينبغي، وفي ملفات كاليمن وسوريا ولبنان يحتاج الخليج إلى قوة دفع تركية، يتوقع أن تتوج بحلف تركي/سعودي/قطري يمثل قدراً من التوازن في مقابل الحلف الروسي/الإيراني/السوري في المنطقة. هذا لم يجعل الاهتمام الخليجي يقتصر على القطاع المتدين وحده في المجتمع، وإنما تخطاه ليشمل أملاً في ألا يصل يلعب حزب أتاتورك المعادي للعرب عموماً دوراً في عرقلة قيام تحالف تركي عربي لو كان تمكن من تحقيق نتيجة تفرض على حزب داود أوغلو تشكيل حكومة ائتلافية ضعيفة معه.
هذا بدوره كان حلماً للإيرانيين والنظامين السوري والعراقي الذين طفحت وسائل إعلامهم بما ينم عن خيبة أملهم من نتائج الانتخابات التركية؛ فنجاح الحزب وتشكيل حكومة قوية يعني مزيداً من الدعم للفصائل السورية، ويعني احتمالاً بفرض منطقة آمنة داخل الأراضي السورية، ويعني كذلك نشوء تحالف قوي مع السعوديين الذين أبدوا بلا مواربة رغبتهم في إطاحة نظام بشار الأسد. ويعني أيضاً ممانعة قوية لتحريك بيادق كردية لإحداث فوضى داخل تركيا، ونقل المعارك إلى أراضيها.
وإذا كانت حكومة العدالة والتنمية قد اضطرت لإيلاء الخطرين الماثلين بمنظمة بي كا كا وتنظيم داعش الإرهابيين أولوية فرضها التحرك العسكري من كليهما، والتفجيرات التي زامنت فترة الاضطراب السياسي المؤقت في تركيا، وتراجع من ثَم العمل على إسقاط نظام بشار؛ فإن خروج أردوغان وداود أوغلو منتصرين من معركة الانتخابات وتراجع هذين الخطرين لمستوى أقل سيوجه الاهتمام التركي صوب دعم الفصائل السورية والعمل على تسريع وتيرة انتصاراتها والإسهام بشكل جدي في إسقاط نظام بشار الأسد. وإن ظل التحرك الإقليمي لإسقاط بشار مصطدماً بتأثير الولايات المتحدة الذي يمكنها تحريك العديد من الأوراق بينها التسليح الأمريكي الذي يعتمد عليه الحلف المناوئ لبشار والتحكم بسوق النفط وغيره، من أجل وضع حد لطموح تحالف إسقاط بشار يتمثل في محاولة الولايات المتحدة للإبقاء على مؤسسات بشار الطائفية.
وقد كان يعني خسارة العدالة والتنمية الأغلبية المطلقة إعادة النظر في المساحة المتروكة للمناوئين لنظام السيسي سواء على الصعيد السياسي، أو الإعلامي الذي يمثل تحدياً كبيراً لهذا النظام، لكن بنجاح الحزب تبددت أحلام النظام بتغيير في السياسة التركية حيال نظام ما بعد الدكتور مرسي، وهذا يمنح اللاجئين السياسيين هناك فرصة يترقبونها لاستغلال المتاعب التي تواجه هذا النظام على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية والإعلامية في تأليب الرأي العام ضده.
وفي قطر يعتبر نجاح العدالة والتنمية تعزيزاً لقوة حليف يعتمد عليه سياسياً، وربما عسكرياً، وفي ليبيا يعني لحكومة طرابلس والمجموعات الثورية المسلحة المتحالفة معها توازناً كانا سيفقدانه في حال غروب شمس تركيا عن ليبيا وتركها في مقابل حلف تدعمه الإمارات مسانداً لنظام برلمان طبرق الذي يمثل دولة القذافي العميقة، وفي الصومال يعني مزيداً من الدعم والمساندة من أجل إقامة البنية الأساسية في مقديشو التي دمرها ربع قرن من الحرب الداخلية.
وفي الجانب الشرقي، تنطلق رؤية العدالة والتنمية من جذور عثمانية تولي اهتماماً بالغاً بالشرق، وتحديداً بالشعوب التركية التي تعتبر حكومة داود أوغلو أنها غير منبتة عنها، ولاشك أن دول آسيا الوسطى التي تعتبر بلاد الأجداد للعثمانيين تتطلع لتعاون أكبر مع تركيا، لاسيما مع خطة أردوغان الطموحة لتركيا الجديدة 2023 وهو الموعد الذي يوافق مرور مائة عام على إسقاط الخلافة العثمانية وقيام دولة أتاتورك (لم يكن فوز العدالة والتنمية في يوم إعلان أتاتورك إسقاط الخلافة العثمانية 1 نوفمبر هو الآخر محض مصادفة).
الاهتمام التركي بدول آسيا الوسطى خصوصاً، والشعوب الناطقة بالتركية عموماً يجعل اهتمام هذه الشعوب وحكوماتها بما يطرأ على السياسة التركية كبيراً، لاسيما أن تلك الدول أصيبت بخيبة أمل من جراء ارتباطها الطويل بروسيا، ما جر عليها مزيداً من الفقر والتهميش، وإذا كانت العلاقات الاقتصادية مع حكومة العدالة والتنمية قد شهدت تطوراً لافتاً خصوصاً مع مضاعفة التبادل التجاري بين حكومة داود أوغلو ومعظم دول آسيا الوسطى، وإنشاء مجالس التعاون الاستراتيجي عالية المستوى بين أنقرة وبعض عواصم آسيا الوسطى، وإسقاط إدارة أردوغان ديوناً كانت مستحقة على بعض تلك الدول، كما أن هذه الإدارة قد نفذت "مشروع الطلاب الكبير" الذي يقدم منحاً للطلاب من دول آسيا الوسطى، كما أن الشعب الأسيوي التركي المسلم يشعر بالامتنان لسياسة تلك الإدارة في مد يد العون لتلك الشعوب، لاسيما في الجانب الديني ببناء مساجد وجمعيات خيرية، وهو ما انعكس إيجابياً على حكام دول كقرغيزيستان وتركمنستان، فهذا الأول، وهو الرئيس القرغيزي ألماز بيك أتام باييف قد حضر بنفسه إعلان نتيجة انتخابات الرئاسة التركية العام الماضي مشيداً بأردوغان وبسياسته مذكراً بأنه قد "قدم من أرض الأجداد"، وإن ظل بعض الحكام في آسيا الوسطى يريدون اقتصار علاقتهم بتركيا على الجانب الاقتصادي، حيث لم يلق تصريح أردوغان بأن بلاده "معنية بتشجيع الدول الناطقة بالتركية على المضي قدماً في إقامة نظم تحترم إرادات الشعوب"، ارتياحاً لدى دول ديكتاتورية ككازخستان وطاجيكستان وأوزبكستان.. لكن بأي حال، يبدو أن أردوغان تحديداً عازم على تطوير علاقته مع آسيا الوسطى لأسباب سياسة وأيديولوجية، بخاصة إذا ما تم الوصول إلى حل للقضيتين السورية والكردية.
لكن هذه الممانعة من حكام استبداديين في آسيا الوسطى، يتراجع كثيراً في حال البلقان التي تتمتع بأنظمة حكم شبه ديمقراطية، ولديها تطلعات لاسيما في دولها ذات الأغلبية أو الأقليات الكبيرة المسلمة كالبوسنة والهرسك وألبانيا وكوسوفا ومقدونيا في توثيق علاقاتها بتركيا والإفادة من التقارب معها كدولة مركزية في المنطقة تسعى لعلاقات جيدة مع أملاك الدولة العثمانية التاريخية، ولاشك أن أوضاع المسلمين في منطقة تجد فيها كل أقلية دينية أو عرقية حاضنة من دول غربية وشرقية تستدعي علاقة وثيقة مع حكومة تسعى من جانبها لهذا بخلاف أي حكومة لو تشكلت من غير العدالة والتنمية أو كان موقفه فيها ضعيفاً.
الاهتمام الكبير الذي توليه أنقرة بتنمية العلاقات الدينية عبر بناء المساجد وإرسال عشرات الآلاف من المصاحف المترجمة بلغات بلقانية، علاوة على إيلاء العمل الخيري هناك رعاية خاصة، يضاف إلى هذا الأثر الذي سببه تدفق الأموال الخليجية في استثمارات السياحة والعقار التركية، ما انعكس إيجابياً على دول كالبوسنة والهرسك التي شهدت خلال العام الماضي استثمارات عربية عبرت من خلال الجاذبية التركية للمنطقة تبلغ نحو 5 مليارات دولار، في مقابل انسحاب جزئي لتلك الأموال من دول أخرى كالتشيك التي خسرت استثمارات عربية لأسباب عنصرية من جانب شعوب لا تنظر بارتياح لاستثمارات إسلامية بدولها.
ترميم المساجد والأماكن الأثرية في البلقان، وتسهيلات التعليم، والقوة الناعمة للعمل الأهلي التركي جعلت سكان البلقان من المسلمين ينظرون بارتياح كبير لفوز العدالة والتنمية، تجسد في احتفالات بالآلاف كما تقدم.
ومن دون هؤلاء الجيران، ومحيط تركيا الإقليمي، ثمة أقليات مسلمة تتطلع لمثل ما تطلع إليه أجدادهم من "حماية عثمانية"، أقلية الروهينجيا المسلمة المستضعفة ببلاد الأراكان التي تحتلها ميانيمار، مسلمو تركستان الشرقية التي تحتلها الصين (التي تحتفظ بعلاقة اقتصادية وعسكرية جيدة مع تركيا)، مسلمو إفريقيا الوسطى، مسلمو القوقاز، وتتر القرم (المحتلة من روسيا التي ترتبط بأنقرة بعلاقات اقتصادية نفطية بالأساس) والدونباس بأوكرانيا، كل هذه الأقليات المسلمة التي تكافح من أجل الانعتاق من ربقة الظلم الروسي والصيني والبوذي، لديها آمالها في أن يسفر فوز العدالة والتنمية عن كبح جماح الطغيان والاضطهاد والقهر ولو جزئياً.. وهذا كله حمل ثقيل على الإدارة التركية لكن اضطلاعها بدور ربما فريد وسط عشرات الدول الإسلامية الغافلة، أضحى واجباً متحتماً بل ملازماً لفكرة تركيا 2023 التي لا ينظر إليها كمشروع تنموي تركي داخلي.
"أدين لكم ولأمتنا بالشكر، هذا النصر نصر لأمتنا لا نصرنا، نصر لقونيا، نصر لجيراننا، نصر لمواطنينا"، هؤلاء الجيران الذين تحدث عنهم داود أوغلو في خطاب النصر، والمستضعفون في كل مكان الذين تحدث عنهم رئيس الحكومة التركي بقوله: "في كافة بلاد المستضعفين ينتظرون منكم الكثير" لديهم طموحات بدور أكبر لتركيا في المنطقة، دور لا تحده الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا وإيران وبعض الدول العربية، لكن كل هؤلاء يدركون أن دوراً أكبر لتركيا لدى الجيران سيكون فيه ترياق لسقم "الرجل المريض"، فحين أطلقت على الدولة العثمانية في أواخر عهدها هذه التسمية لم يكن ثمة خيار آخر أمام الأوروبيين والصفويين سوى إماتة هذا الرجل، ولعلمهم أن لهذه الدولة تأثيراً هائلاً في العالم إن تعافت؛ حرصوا على ألا تقف على قدميها من جديد أبداً.. لكن ها هي تنهض، والحرب لم تزل سجالاً..