الأخبار من ليبيا ليست جيدة.. ولكن
10 محرم 1437
أمير سعيد

في الدول التي يتمتع مواطنوها بقدر من الإرادة، وفي النظم السياسية البرلمانية، تصدر الحكومة عن البرلمان، فالحزب الفائز في الانتخابات هو من يشكل الحكومة سواء أكان منفرداً أم عبر ائتلاف حزبي، ثم يعرض مرشحوه للحقائب الوزارية على البرلمان، يقبلها غالباً أو يرفضها، لكن في دولة تعمل فيها الأيدي الخارجية أكثر مما تعمل فصائلها، يمر خبر رفض مجلس نوابه (المفترض) للأسماء التي رشحها مبعوث دولي خارجي لشغل مناصب حكومية  دون علامات تعجب..

 

 

 

 

 

لكن، مهلاً؛ فليس هذا هو البرلمان المعني بالبت في هذا الشأن؛ فهو في نظر القانون برلمان منحل لا ينبغي له أن يمارس سلطات بحكم المحكمة الدستورية في العاصمة طرابلس، والتي تضم بدورها مجلساً آخر هو المؤتمر الوطني العام هو المعبر بالأساس عن الثورة الليبية بكل آمالها وآلامها.

 

 

 

 

 

بيرناردينو ليون رئيس بعثة الأمم المتحدة، وهو المسمى الأكثر أناقة لآخر لازم فترة تقسيم البلدان العربية قبل قرن، هو "المندوب السامي"، قدم أسماء لشغل حقائب حكومة "الوفاق الوطني"، رفضها مجلس النواب الليبي المنحل، الذي هو للمفارقة هو من استدعى بل استجدى التدخل الأجنبي لليبيا من بعد فشل حكومته المعينة - والتي يعتقد على نطاق واسع أنها امتداد لنظام القذافي - في فرض سيطرتها على ربوع البلاد.

 

 

 

 

 

البيئة الليبية صارت مناسبة تماماً لتدخل عسكري أوروبي ينهي بالسلاح ما تحاول أوروبا إنجازه الآن بالدبلوماسية الأممية؛ ففي الشرق سيطرة متنامية لليبي الأصل، الأمريكي الجنسية، الجنرال خليفة حفتر، معزز بـ"شرعية" شاذة أسبغها البرلمان المنحل عليه، وفي الوسط صعود لنفوذ داعشي ترفده دولة القذافي العميقة، وفي الغرب شبه استقرار لسلطة الثورة المتمثلة في المؤتمر الوطني العام، وفصائله العسكرية المتحالفة مع قواه السياسية.

 

 

 

 

مبرر "داعشي" تعتاش عليه الدول "الاستعمارية" التقليدية والحديثة من أجل فرض التدخل العسكري الأوروبي، ترافقه مخاوف "منطقية" لدى الرأي العام الأوروبي من إسهام الفوضى في ليبيا في تدفق كبير من طالبي اللجوء والهجرة "غير الشرعية"، ولو تسرب مع هؤلاء "داعشيون" لأصبح السيناريو كارثياً لدى الأوروبيين.

 

 

 

 

 

انقسام عسكري، سببه تدخل أجنبي منذ ضربات حلف الأطلسي على مواقع قوات القذافي قبل سنوات وحتى اليوم، عزز من نفوذ القوة المدعومة من حلفاء الولايات المتحدة العرب، وهي قوة حفتر وما ناظرها، وساهم في تعزيز تلك القوى المنقلبة على ثورة فبراير الليبية، هذا الدعم العسكري واللوجيستي الذي تتلقاه ميليشيات تحتكر مسمى "الجيش الليبي" وحدها في وسائل الإعلام الغربية والعربية الحليفة، من دون بقية ألويته الافتراضية في الغرب الليبي، والمتواجدة بالوسط والشرق أيضاً بدرجة أقل.

 

 

 

 

 

وانقسام سياسي، فرضه الاعتراف الدولي بمجلس النواب الليبي، والضن به عن المؤتمر الوطني العام، المقابل الشرعي لمجلس النواب، في العاصمة الليبية، وأدى إلى نفاذ التدخل الأممي عبر وسيط دولي، أضحى بمقدوره وضع مقررات وعناصر الحوار، وتحديد الملائم منها من عدمه على مائدة التفاوض بين فريقي المؤتمر ومجلس النواب.

 

 

 

 

 

البيئة ملائمة جداً الآن؛ فالبرلمان منحل بحكم القضاء الدستوري، ثم منتهٍ بحكم انتهاء مدته القانونية في 19 أكتوبر الحالي، ثم إن اجتماعه بشأن الاتفاق الأممي كان مشوباً بمخالفات برلمانية، والأمر ذاته ينسحب على المؤتمر الوطني الذي انتهت مدته القانونية واستكمل عمله تلقائياً مستفيداً من حكم المحكمة الدستورية.

 

 

 

 

 

ولكن مع هذا؛ فليس ثمة "شرعية" أخرى يمكن الارتكان إليها في تأسيس لنظام ليبي مستقر، وإذا كان الطرفان قد قبلا من حيث المبدأ وجود "وسيط" أممي؛ فالاختراق الدولي لليبيا قد حصل بأي حال، ولقد صارا مشاركين بكل ما يترتب على هذا التدخل السافر في الشأن الليبي، إلى الحد الذي جعل ليون يتحدث بكل صلف مهدداً الطرفين بأنهما لا يمثلان الشعب الليبي قائلاً: "العملية السياسية التفاوضية في ليبيا ستستمر برعاية المجتمع الدولي، وأنه لا يمكن لمجموعات صغيرة في  طبرق أو طرابلس أن تفرض إراداتها على باقي الأطراف"! ثم "يمتن" على الليبيين بالقول: "المجتمع الدولي يهتم بالتوافق الداخلي الليبي، وأنه لو أراد أن يتخذ قرار يفرضه على الليبيين لفعل ذلك في غضون أسبوعين"!

 

 

 

 

الحاصل إذن، أنه برغم تحفظ طرف الثورة (المؤتمر الوطني العام)، وفلول القذافي المتسلطة على برلمان طبرق، على الاتفاق، كل لأسبابه؛ فإن ليون يتوعد بأنه ماضٍ قدماً في تحقيق "التوافق" لليبيا، خارجاً بتصريحاته وممارساته تماماً عن دور الوسيط، محدداً لما ينبغي ولما لا ينبغي للليبيين أن يفعلوه بشأن مستقبل بلادهم.

 

 

 

 

ليون لم "يرتكب منكراً" على مساره؛ فهو الذي وضع – باعتراف د.محمد البرادعي – خارطة ما بعد مرسي في مصر، محدداً للشعب المصري المسار الذي ترتضيه أوروبا لمصر بغض النظر عن آمال وتطلعات المصريين.. وقد فعل.

 

 

 

تهديد ليون لم يأت من فراغ إذن، وعلى الليبيين أن "يتحلوا بنضج أكبر في التعامل مع المجتمع الدولي"، أو لنصيغها بطريقة صادقة "يخضعوا لإملاءات ليون الذي يعبر عن رغبة استعمارية ارتأت أن يكون مستقبل ليبيا السياسي هكذا، كما يفرض ليون".. وإلا، فإن تلويحات الحلف الأطلسي بشأن "ضبط الهجرة غير الشرعية" و"مكافحة الإرهاب في ليبيا"، جاهزة كلافتة للتدخل العسكري في ليبيا والذي بدأ النقاش حوله يتسرب، بل يُسرب لوسائل الإعلام الأوروبية، لاسيما الإيطالية (المستعمر السابق) منها.

 

 

 

ولكيلا تكون الصورة مهتزة؛ فإن ليون ومن هم وراءه لا يضغطون على طرفين ليبيين من أجل الوصول إلى حل، وهما ممتنعين؛ فامتناع برلمان طبرق ليس عنواناً للوطنية ورفض التدخل الدولي؛ فهو أول من استدعاه، وهو لم يزل يحرق الوقت لتقوية وضعه الميداني العسكري، وهو لم يزل يستقبل شحنات هائلة من الأسلحة والذخائر من بلد خليجي وآخر صهيوني، عبر أراضي جار عربي، من أجل حسم المعركة دون الحاجة لحل سياسي أو للدقة بحل سياسي يحوم من فوقه تفوق عسكري ناجز على فصائل الثورة الليبية بعد شيطنتها ودمغها بالإرهاب. وامتناع طبرق ليس لأنه يرفض ليون، بل لأنه يتعنت على نحو مشابه تماماً لما فعلته جبهة الإنقاذ المصرية قبل الإطاحة بالرئيس مرسي، ومع هذا فقد انحاز العالم لها وارتضى خريطتها للمستقبل المصري.

 

 

 

 

 

والمعنى، أن ليون وعصابته ليسوا منزعجين كثيراً بـ"تعنت" برلمان طبرق، وذراعه العسكري، خليفة حفتر، فأسباب رفض البرلمان المنحل الذي لم يزل يعترف به العالم تماماً مثلما يظل معترفاً بـ"شرعية السفاح بشار الأسد" ليست مرآة لاستقلال وطني بل لتفريط به، فالبرلمان الذي هدد بعض مسؤوليه بتقسيم ليبيا في حال لم تستجب مطالبه! طالب بـ"عدم المساس بالجيش" أي بتكوين مليشيات خليفة حفتر التي ينحد معظم قادتها من نظام معمر القذافي العسكري، وهو الأساس الذي يعمل عليه الاحتلال دائماً/الإبقاء على نظم عسكرية ثبتت علاقاتها الوثيقة التاريخية معه. وكذا، حل لجنة الحوار وتشكيل لجنة جديدة. (يرفض البرلمان المنحل، أو بالأحرى جزء منه يهيمن عليه رئيسه عقيلة صالح المحسوب على دولة خليجية ساهم تدخلها في تدمير ليبيا وبناها التحتية، أسماء بعينها في تشكيلة الحكومة المقترحة، محسوبة على الثورة.

 

 

 

 

 

لكن انزعاجهم (ليون وعصابته) الحقيقي يأتي من طرابلس، حيث يصر المؤتمر الوطني على "رفض الإملاءات الدولية ومحاولات الضغوط الأجنبية" وفقاً لما جاء في بيان المؤتمر، ويشدد على ضرورة إزالة الغموض من عبارات ملتبسة في الاتفاق، وهو التباس مألوف في نصوص المعاهدات والاتفاقات الدولية التي تبرمها دول احتلال مع أنظمة دول خاضعة يراد منه الاعتداد بتفسير صاحب الدبابة دون غيره من اللاعبين السياسيين.

 

 

 

 

ليس فيما تقدم ما يسر حقيقة؛ فالتدخل السياسي الغربي إما أنه سيسبق آخر عسكرياً أو يخضع الشعب الليبي له دون الحاجة لقوة السلاح، وكلاهما سيء، وتبدو طول فترة الاستعداد بين ميليشيات الشرق الموالية للغرب، والأخرى الثورية أنها تصب في صالح حفتر ومعاونيه، وما لم يتحسن الوضع الميداني للفصائل الثورية؛ فإنها ستكون تحت مقصلة نظام استبدادي فاشي يقوده حفتر ويسانده الغرب مثلما يساند أي نظام يبيع دينه ووطنه وشعبه من أجل تأمين الغرب لكراسيه.. وهذه المقصلة بالمناسبة لن تتعامل برقة أبداً، شأنها شأن أي نظام يأتي على ظهر دبابة ليستأصل شأفة سلفه.. هذا قانون الدول، وهذا ما يطمح إليه الغرب.. وهذا ما سيقاتل الثوار باستماتة من أجل ألا يجد الغرب وأدواته السبيل معبداً للركض إليه.