مسلَّمة لا تحتمل الجدل حولها كثيراً: إن تزايدت الهجمات على مساجد المسلمين حول العالم، لاسيما في المنطقة العربية، دون رادع أو غضب أو ردات فعل مؤثرة؛ فإن مناعة المسلمين ضد هدم الأقصى تتضاءل بدرجة كبيرة.
يقدم الكيان الصهيوني على جملة من الانتهاكات بحق المسجد الأقصى، وتختبر مراراً صبر المرابطين في ساحاته، وفي دول الطوق وحول العالم، وتوالي زيارات التدنيس من مسؤولين بحكومته أو عبر مغتصبين منفلتي المسؤولية تمهيداً للحظة لا يبقى للمسلمين حيال هدمه مقاومة، وهو في المقابل يستغل أحداثاً أخرى تعزز من مطامعه، ربما في بعض الأحيان ليست بعيدة عن "وسوساته الدبلوماسية أو الاستخبارية"، وفي غيرها "رمية من غير رامٍ"، تأتيه على غير تقصد؛ فتعبد طريقاً لهدم الأقصى دون ضجيج.
هدم المساجد وتفجيرها بالآلاف في المنطقة العربية هو أكبر محفز للصهاينة على هدم الأقصى، وهو في حد ذاته جريمة كبرى ترتكب بحق أقدس الأماكن وأطهرها لدى المسلمين، وجامع انطلاقتهم الشعائرية والتربوية، إجهاضاً لدور المساجد من جهة، وكسراً لنفوس المسلمين وإماتة لروح الجماعية الإيمانية لديهم، وخصماً من رصيد الاستعلاء الإيماني لدى البسطاء منهم من جهة أخرى.
وتقع مسؤولية هدم المساجد وتفجيرها في بلادنا العربية على المنظومة الإيرانية أولاً ثم النظام الصهيوني تالياً، ويأتي تنظيم "الدولة الإسلامية" في آخر القائمة كمسؤول عن تفجير عدد أقل كثيراً من سابقيه، والمقصود بالمنظومة الإيرانية هو النظام الإيراني والدول والميليشيات الخاضعة لنفوذه وتأتمر بأوامره في تنفيذ هذه السياسة تحديداً (هدم وتفجير المساجد).
ويبدو أن انتهاج هذه السياسة هو أمر غير اعتباطي في هذه المرحلة التي نمر بها؛ فلقد لوحظ في هذا الصدد أمران:
الأول: أنها تحدث بشكل متعمد لمساجد السنة في سوريا والعراق وفلسطين واليمن كأبرز أهداف القصف والتدمير والتفجير التي يقوم بها العدو، بما جعلها تشكل الهدف رقم (1) في البنية التحتية في سوريا وفلسطين، وفقاً لإحصاءات دقيقة لمراكز بحثية وغيرها.
الثاني: أنها تتزامن مع استهداف آخر "ناعم" للمساجد في بلدان أخرى، لا يتقصد تدمير المساجد بالأساس، وإنما يستهدف دورها، بالتأميم، والتضييق، والمراقبة، والإغلاق، والاقتصار على الصلاة.. الخ، مثلما يحصل في تونس ومصر وغيرهما.
فما يحصل هو توافق في جوهر أهداف المتآمرين على المساجد ودورها في بلداننا العربية، ويتماهى مع ما يحدث في مناطق أخرى في العالم تحارب فيها المساجد بأطوار أخرى أو مشابهة. أكانت بتدنيس المساجد وحرق القليل منها في الدول الغربية (فرنسا وألمانيا والسويد.. الخ). أو تدميرها وتفجيرها وحرقها بالكلية كما في بعض البلدان الإفريقية والأسيوية (إفريقيا الوسطى ونيجيريا وميانمار).
وواقع الأمر أنه بتتبع حالات التدمير هذه نجدها في تنام مستمر، وبخط بياني يكاد من ارتفاعه يصبح رأسياً كلما مر يوم من أيام محنة هذه الأمة؛ فبملاحظة ما تقوم به إيران المتنفذة في سوريا، أو ما يقوم به نظام دمشق النصيري المناهض للإسلام نجد أن الشبكة السورية لحقوق الإنسان قد وثقت "تدمير النظام أكثر من 1600 مسجد في سوريا حتى منتصف العام 2014 حيث احتلت المساجد الترتيب الأول من بين البنى التحتية التي يقصفها النظام"، ونأخذ في الاعتبار أن هذا العدد يزيد عن هذا بسبب إما عدد التوثيق أو باعتبار ما قد حصل خلال عام مضى..
ما يلحظ هنا، أن النظام الفاشي في دمشق في زحمة حربه ضد الفصائل الثائرة لم يغفل عن قيمة المساجد كحاضنة تربوية وإيمانية للمسلمين؛ فجعلها على رأس سلم أولوياته التدميرية، وهذا يعني أنه يعدها هدفاً استراتيجياً لابد من ضربه طوال السنوات الخمس الماضية.
نموذج آخر، الكيان الصهيوني، والذي استهدف في غزة وحدها ثلث مساجدها طبقاً لتقديرات اللجنة المكونة من مهندسين بالمجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والإعمار (بكدار) فرع غزة، حيث دمرت "إسرائيل" "73 مسجدا بشكل كلي و205 جزئيا" خلال العدوان على قطاع غزة والذي استمر 51 يوماً العام الماضي.
ويفسر هذا التقصد الصهيوني، الإعلامي أحمد منصور بقوله: "حينما حاولت البحث عن إجابة مقنعة لهذا السلوك الصهيوني وجدت كثيرا من الصحف ووسائل الأعلام الصهيونية تحدثت في الأمر بشكل واضح وقالوا إن القيادة الصهيونية تعتقد أن مساجد غزة هي التي أخرجت ذلك الجيل من المقاتلين من أبناء المقاومة الذين هدموا أسطورة الجيش الذي لا يقهر وأوقعوا هزيمة ساحقة بالجيش الصهيوني لم تحدث في تاريخه لاسيما في المواجهات البرية (...) المساجد كانت على رأس الأماكن المدمرة وقد ذكرت بعض مصادرهم أن السبب الوحيد لانتصار المقاومة بأسلحة بسيطة على قوة غاشمة تعتبر الخامسة في العالم من حيث القوة والإمكانات هو البناء العقائدي لأهالي غزة وأن المساجد كانت الحاضنة لهذا البناء العقائدي، حيث يحفظ عشرات الآلاف من أهالي غزة القرآن وحيث يتردد على المساجد عشرات الآلاف من الأطفال يتعلمون أمور دينهم، مما يجعل البناء النفسي والعقائدي سويا للإنسان" [أحمد منصور – الوطن القطرية 12 أغسطس 2014]
ثمة تطابق إذن بين نظام تل أبيب ودمشق الصهيونيين في جعل المساجد على رأس سلم أولويات التدمير، وهذا له مغزاه الذي يحيل إلى مخطط وليس مصادفة عابرة.
الشيء ذاته يمكن رصده في العراق، على أني لم أقف على إحصاء دقيق له، على كثرة المساجد المستهدفة، وكأمثلة عابرة فقط؛ فإنه بعد انسحاب مقاتلي تنظيم الدولة في ناحية مدينتي جلولاء والسعدية في يناير من هذا العام، استولت عليها ميليشيات الحشد الصفوي؛ فـ"حرقت عشرات المساجد"، بحسب تقديرات هيئة علماء المسلمين في العراق، نقلاً عن رواية قوات البشمرجة الكردية، وفي الشهر ذاته أسفر هجوم مسلح عن مقتل وإصابة خمسة من أئمة المساجد غربي البصرة، واستولت أيضاً ميليشيا لواء أبو الفضل العباس الصفوية على مسجد قباء في منطقة الشعب شمالي بغداد ورفعت علامة الميليشيا السوداء على منارته.
هذه أمثلة عابرة، وإلا فـ"محاولة إحصاء عدد المساجد التي دمرت وحرقت واستهدفت بالعراق خلال السنوات العشر الماضية يحتاج لفريق عمل متكامل حتى نتوصل إلى هذه النتائج بدقة"، كما يقول د.جاسم الشمري في مقاله "حرب المساجد في العراق من يقف وراءها؟!" [صفحة الكاتب الرسمية 10 مايو 2013]؛ فأحقاد 42 مليشيا دربتهم إيران على قتل وتدمير مساجد وبيوت المسلمين (السنة)، لا يحدها إحصاء محايد تحوطه المخاطر من كل جانب.
المختلف في العراق، علاوة على ما سبق، أن استهداف المساجد (السنية) تدميراً وتفجيراً يدخل ضمن سياق مخطط يهدف "إلى تغييرات ديموغرافية في مناطق حزام بغداد وغيرها"، وفقاً لبيان هيئة علماء المسلمين [15/12/2014].
بدرجة أقل؛ فإن الحوثيين في اليمن قد حرصوا على تدمير مساجد كثيرة في طريق غزوهم وانسحابهم، سيان، ولم يوفروا مسجداً تابعاً للتجمع اليمني للإصلاح، أو يتبع التيار السلفي، أو غيرهما.
وإذا تجاوزنا الإطار العربي للحرب على المساجد، نجد استنساخاً من جهات "مسيحية" وبوذية للمخطط ذاته، في إفريقيا الوسطى، ميانمار، وعلى سبيل المثال؛ فإن تقرير لموقع "فايف بليرز" الذي يغطي أخبار المسلمين في العالم قد ذكر أن "جميع المساجد الـ 436 في جمهورية أفريقيا الوسطى قد دمرت تقريبا، بحسب تصريح لسفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة"، وهذا بالطبع على يد ميليشيا أنتي بالاكا الصليبية، (والتي عبر تصريح السفيرة من فوقها بالطبع!).
يأتي في سياق آخر خطير، أن مساجد السنة لم تعد تستهدف من أعدائها الخارجيين فقط، صفويين، نصيريين، صهاينة، صليبيين، بوذيين فقط، وإنما بدأت بعض جماعات الغلاة المنحرفين عن منهج أهل السنة والجماعة تستحل حرمة المساجد بدعوى استهداف مناوئين أو "مرتدين" مثلما تنص أدبيات تلك الجماعات، وهذه الجماعات تزيد من فداحة ما تستحله من دماء فصائل ثائرة في سوريا أو متدربين على تسهيل مناسك الحج أو أفراد لبعض القوى الأمنية، بجعل "ميدان المعركة"، مسجداً له حرمته، تجاهلاً عما يثبه هذا فيما ذكرناه من ضياع هيبة مساجد المسلمين وتسهيل وتمرير تفجير أبرزها، وفي القلب المسجد الأقصى المبارك ذاته، الذي لا يبدو تدميره في ظل هذه الضباب الكثيف من تدمير آلاف المساجد نشازاً.
وليس خروجاً عن سياق ما سُطر، التذكير بفداحة ما يحصل باسم الجهاد، استصحاباً لما قالته عائشة رضي الله عنها فيما رواه البخاري عنها أنها قالت: "سألت النبي صلى الله عليه وسلم " عن الجدر ، أمن البيت هو ؟ ، قال : نعم ، قلت : فما لهم لم يدخلوه في البيت ؟ ، قال : إن قومك قصرت بهم النفقة ، قلت : فما شأن بابه مرتفعا ؟ ، قال : فعل ذاك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ، ولولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية ، فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت وأن ألصق بابه في الأرض"، وفي الشرح: ".. وقد ذكروا أن هارون الرشيد سأل مالك بن أنس عن هدمها وردها إلى بناء ابن الزبيرللأحاديث المذكورة في الباب ، فقال مالك : نشدتك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت لعبة للملوك ، لا يشاء أحد إلا نقضه وبناه ، فتذهب هيبته من صدور الناس" [تحفة الأحوذي باب ما جاء في كسر الكعبة].
وتلخيصاً، واستنتاجاً..
1 – تتصاعد جريمة استهداف المساجد بوتيرة عالية، وتصل للآلاف المساجد في أعوام قليلة.
2 – تمر الجريمة دون اهتمام إعلامي ودعوي لافت، أو حملات لوضع الجريمة في حجمها الحقيقي.
3 – لا يصدر توافق المجرمين عن مصادفة وإنما اتفاق ضمني يستند إلى ضرورة تجريد المسلمين من أحد أبرز جوامع توحيدهم وتربيتهم.
4 – تحتل إيران المركز الأول في استهداف المساجد إن بشكل مباشر عبر ميليشياتها أو بتأثيرها النافذ في سوريا والعراق، يليها الصهاينة، كما تأتي في ذيل القائمة جماعات الغلو بالعدد الأقل من المساجد المستهدفة.
5 – تكسر هذه الجرائم هيبة المساجد عن المسلمين وعند غيرهم تدريجياً، وتشجع على جرائم أفدح، كما وكيفاً، ويتصدر المسجد الأقصى المبارك قائمة المتضررين من هذا الانكسار.
6 – تدمير المساجد وتفجيرها لا يأتي اعتباطياً من حيث المساجد المستهدفة، لذا يلحظ أن الأعداء استهدفوا مساجد ذات طبيعة رمزية وتاريخية (المسجد الأموي الأثري في حلب، والعمري في درعا الذي انطلقت منه شرارة الثورة السورية، ومسجد خالد بن الوليد رضي الله عنه بحمص، والعمري في جباليا أقدم مساجد غزة وأكبرها، بني عام 27 في عهد عمرو بن العاص رضي الله عنه وسمي باسمه، وأنس بن مالك في العراق.. الخ)، وهذا أيضاً مضاعف للجرح، وممهد أكبر لهدم الأقصى ذاته.
7 – لا يهدف تفجير المساجد في تقليل عدد زوار المستهدفة فقط، وإنما غيرها أيضاً بسبب الخشية من استهدافها أيضاً؛ فحتى رمضان الذي يقبل فيه المسلمون على المساجد، يورد تقرير ميداني لـ"العربي الجديد" [14 يوليو 2015] أن كثيرين من سكان صنعاء صاروا "يخشون التوجه إلى المساجد لأداء الصلوات أو النوافل أو الاعتكاف في آخر أيام رمضان، بعدما تزايدت العمليات الانتحارية"، وهذا لا ينسحب على مساجد يرتادها الحوثيون فقط، وإنما يمتد للسنة، لأن الفعل والفعل المضاد لا يستثني أحداً (النموذج الباكستاني شاهد بهذا من عقود).. الأمر ذاته يحصل في العراق؛ ففي فبراير الماضي ومع قصف طائرات التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لجامع منطقة البوحيات بقضاء (حديثة) غربي مدينة الرمادي أثناء صلاة الظهر، بما نجم عنه استشهاد 15 مصليا، ترك ذلك أثراً في ريادة المساجد في المنطقة، كذا؛ فإنه حينما تعلن وزارة الداخلية العراقية أنه قد "تم إبلاغ المصلين (في بغداد) بأخذ الحيطة والحذر، والبقاء في البيوت وعدم التردد إلى المساجد، خوفاً على حياتهم من القتل أو الاختطاف في أقل تقدير" [23 يوليو 2015] بسبب "ميليشيات متنفذة"، وحين تؤمر "جميع عناصر حماية المساجد بدخول مرحلة الإنذار القصوى"؛ فإن ارتياد المساجد يصبح أمراً يحسب له ألف حساب لدى المسلمين هناك.
ما يتعين الخلوص إليه بالنهاية أننا أمام مشكلة خطيرة متصاعدة تستأهل اصطفافاً من العلماء والدعاة والمفكرين وقادة الرأي، وتحريكاً مستحقاً للهيئات والمنظمات وربما بعض الدول التي يمكن أن تتحمس لمثل هذه الأمور، وأن ترك الحبل على الغارب لكل من يستهدف مساجدنا وجوامعنا سيفضي إلى نتائج كارثية في المستقبل القريب جداً. وإذا أضيف لهذا أن المساجد في البلاد شبه المستقرة تخضع لمراقبات وتضيقيات وضغوطات وسيطرات أمنية شديدة؛ فإن حجم المشكلة يتضاعف بشكل هائل.. مؤسسة الإسلام الأولى أضحت اليوم في خطر ماحق.. فاللهم سلم.