معانٍ ضرورية في المسألة الأرمنية
5 رجب 1436
أمير سعيد

ناجورنو قرة باغ.. الإقليم الأذري ذو الأغلبية الأرمنية الذي أعلن نفسه جمهورية منذ نحو ربع قرن، لم تعترف بها إلا أرمينيا بعد أن تم تهجير مئات الآلاف من الأذريين في حرب الإقليم الانفصالي، بعد وقوعهم في طريق غزو أرمينيا لأذربيجان لدعم انفصالييها في هذا البلد، ومقتل الآلاف منهم، وإفراغ الإقليم ذاته تقريباً من الأذريين (المسلمين).. هو أحد شواهد ما يمكن أن تخلفه الصراعات السياسية من مآسٍ إنسانية.

الأذريون الذين هجرهم الأرمن لم ترهم العين الأوروبية "الرحيمة".. تماماً، مثلما لم تر مذابح بورما القائمة اليوم، ولا إفريقيا الوسطى، وتعمى أن ترى التهجير القسري ضد المسلمين في العراق وسوريا، ولا تريد من أحد تقديم اعتذارات أو تعويضات.
لا لأن كل هذا هو خارج نطاق أوروبا؛ فمجازر البوسنة والهرسك وكوسوفا، والتهجير القسري من الأولى الذي تمت تحت سمع وبصر من قريب عجزت ألسنتها عن مطالبة الصرب باعتذارات أو تعويض أو إعادة حقوق، بل شاركتهم الجريمة في اتفاقية دايتون سيئة السمعة.

وسنعجز أيضاً – في هذه السطور - عن إحاطة ازدواجية الأوروبيين وعلى رأسهم بابا روما الذي كذب عدة مرات في تصريح قصير عما ادعت أوروبا أنه "إبادة جماعية" للأرمن، تبتز بها تركيا وتحشرها في زاوية الدفاع عن النفس وتقديم التنازلات في وقت تقترب فيه من استحقاق انتخابي مهم تشارك فيه أوروبا حلفاءها في تركيا في "جولاتهم الانتخابية" الناقدة لعمل حكومتها.

ملف الأرمن مع هذا لم يخرج اعتباطياً؛ فنحن نباشر ذكرى أسطورة الإبادة الجماعية للأرمن ومذابحهم، والتي يؤرخ لها الأرمن بـ 24 إبريل 1915 حين اعتقلت السلطات العثمانية 250 أرمينيا بارزاً (ساسة ونشطاء)، وصدرت القرارات بتهجير مئات الآلاف من الأرمن بسبب خياناتهم الموثقة والثابتة تاريخياً من مصادر عثمانية وغربية مستقلة، وانخراط نحو 300 آلاف منهم في الجيش الروسي الغازي لأراضي السلطنة العثمانية، وانقضاضهم على قرى الأكراد والترك والتركمان التي كان رجالها منخرطون في الجيش العثماني (الذي كان يحصر تجنيده الإجباري على المسلمين من الرجال)، قتلاً وتهجيراً، واغتصاباً للنساء، ما أجج مشاعر القصاص في ظل قبضة ضعيفة من دولة أقر العالم الأوروبي كله حينها أنها "الرجل المريض" الذي لا يقوى على التحكم في كل ممالكه، وإخماد كل تمرداته وقلاقله.

ومع أن السلطة حينها قررت التهجير القسري بسبب خيانة الأرمن للدولة العثمانية في وقت الحرب العالمية الأولى، بما استأهل حدوث إعدامات، إلا أن الحكومة التركية كونت لجاناً لرصد ممتلكات الأرمن لإعادتها إليهم بعد الحرب، وقد عاد بعضهم بالفعل إليها، ومات في الطريق كثيرون نظراً لظروف الطقس القاسية، وثأر الأكراد والترك وغيرهم من الأرمن بسبب جرائم عصابات الطاشناق الأرمن، وعوثهم في بلاد المسلمين فساداً وإرهاباً..

وإذا زدنا غوصاً في التاريخ، وجدنا أن ثمة مبالغات هائلة حول عدد من قتل في هذا التهجير، وفي قتال الشوارع، وحوادث القتل والقتل المضاد بين بعض القوميات المسلمة والأرمن، سقط فيها قتلى كثيرون من الأرمن، ومثلهم من المسلمين، وهذه المبالغات التي يسوقها الغرب الأوروبي، وأخيراً الأمريكي معه كذلك، تتبدى في عدد من المغالطات، بعضها يتعلق بملابسات الأحداث، وبعضها يخص تناولها الحالي من قبل الدول الأوروبية والبابا، أهمها:

-    أنها تفترض أن ما حصل كان "إبادة جماعية"؛ فيما تقدح عدة حقائق في هذه المزاعم، منها:

1 – أنه لا يمكن لعملية إبادة جماعية أن تهجر مواطنين عثمانيين (الأرمن) ثم تعيدهم من شاء منهم بعد عامين من التهجير، وترصد لهذا ميزانية، تبلغ مئات الملايين من الدولارات بتقدير اليوم.

2 – أنه لا يمكن لإبادة جماعية أن تنطبق قانونياً على عملية تهجير مثلت حالة دفاعية لمنع انهيار الدولة العثمانية بعد أن تورط أكثر من ثلاثمائة ألف أرمني في حرب عدوانية على العثمانيين بانتمائهم إلى جيش العدو الروسي، ومساندة الجيش البريطاني الغازيين لأرض السلطنة والمهددين لعاصمتها في عمليات مستمرة لأكثر من ثلاثين عاماً.

3 – أن من الإجحاف البين ألا يسمى تهجير  مسلمي القرم إلى صقيع سيبيريا شديد البرودة ليتجمد معظمهم برداً جريمة إبادة جماعية، بينما يسمى الترحيل القسري للأرمن من الأناضول إلى مروج سوريا عملية "إبادة جماعية".

4 – أنه لا يمكن قانوناً إطلاق مصطلح قانوني تم تعريفه عبر اتفاقية دولية على أحداث تاريخية مضطربة الروايات، يرفض أحد أطرافها أن يخضعها للبحث والتدقيق التاريخي؛ فرفض أرمينيا المستمر للعرض التركي الذي قدمه رئيس الوزراء التركي ورئيس الجمهورية بتشكيل لجنة مشتركة لكشف ملابسات الحادثة، ويعتمد فقط على مرويات من طرف واحد، ومن خلال مراجعه هو وحده، ولا يمكن أيضاً أن ينسحب هذا التهرب على الاتحاد الأوروبي وغيره، ممن يتبنون الرواية الأرمينية ولا يقبلون أي مراجعة بحثية تاريخية موثقة لها.

5 -  أن بعض المراجع الأوروبية تعترف بخروج جزء من الأرمن عن طاعة السلطان عبد الحميد، وتعترف أيضاً بتمردهم على سلطته وخروجهم على حكمه بالسلاح، في وقت الحرب الروسية على الدولة العثمانية في العام 1877، وتقر بأن ثمة محاولة اغتيال قد دبرها الأرمن ضد السلطان باستخدام قنبلة موقوتة، لكنه نجا منها، ومع ذلك لا تتفهم ظروف المناخ الذي ألجأ السلطنة لتنفيذ عملية تهجير في زمن حرب عالمية كبرى اتقاءً لمزيد من الخيانة والتمرد الذي تورطت فيه مئات الآلاف من الأرمن زمن الحرب، برغم أن ذلك بالطبع لا يبرر تنفيذ جريمة إبادة جماعية مزعومة.

6 – أن السلطنة العثمانية قد تجنبت تهجير الأرمن من الولايات الغربية التي لم تشهد جرائم كبيرة لهم، مقتصرة على ولاياتها الشرقية التي حصل فيها التمرد والقتال والخروج على الدولة، ومع هذا؛ فإن التهجير لم يحصل خارج حدود السلطنة، وإنما تم نقلهم من أقليم إلى آخر، وإلى مناطق حيوية كسوريا والأردن وفلسطين ولبنان. وهذا ينفي تهمة "التطهير العرقي"، أو "الديني".

-    أن ما حصل في هذه الفترة يندرج ضمن حدود العقوبات الجنائية وإخماد التمردات، وليس ما عداه، وإلا فالأرمن قد عاشوا آمنين رغم تمرداتهم إبان الخلافة العباسية في زمن السلاجقة، منذ فتحت بلادهم، وحتى هذا التوقيت الذي شهد تمرداً كبيراً استدعى إجراءً يقابله؛ فقرون سبقت في زمن العباسيين وأخرى في زمن العثمانيين حتى انتهاء حكمهم فعلياً وتولي حكومة الاتحاد والترقي العلمانية التغريبية، ينفي تماماً تهمة الاضطهاد الديني عن المسلمين، وينقلها ـ إن صحت ـ إلى الحكام الجدد، حلفاء الغرب.

-    أنه مثلما لا يمكن قانونياً الآن تحميل دولة أرمينيا جرائم الأرمن في شرق الأناضول داخل حدود الدولة العثمانية؛ فإنه لا يمكن في المقابل تحميل دولة ورثت دولة مغايرة تماماً لها لا تقوم على أسس العرق أو المواطنة، هي الدولة العثمانية، وتحميل الأتراك هذه المسؤولية عن جرائم مزعومة؛ فالأتراك ليسوا مسؤولين عنها، كمواطني وأنظمة دولة ورثت دولة بائدة، هي الدولة العثمانية، وهي الدولة التي ضمت أعراقاً ومكونات تمثل مزيجاً من القوميات كالأكراد والعرب والشركس والألبان وغيرهم، ولقد شارك كثيرون في تلك الأحداث؛ فما مبرر إلصاقها بالأتراك وحدهم.. وإذا كانت تركيا قد ورثت الدولة العثمانية من الناحية القانونية؛ فهي مع هذا لا يمكنها تحمل مسؤولية ما قد وقع إبان انهيار الدولة وفي وقت وقف مسؤولوها عاجزين عن التحكم في بعض ولاياتها المتمردة التي غدت خارجة عن سيطرة الدولة، حتى إن بعض المصادر الأوروبية تذكر أن السلطان العثماني لما أصدر فرمان 1895 لتهدئة قادة الدول الأوروبية ثار ضده مسلمو ديار بكر وأرسلوا برقية جاء فيها إن "أرمينيا التي فتحت بالدم لابد أن تخضع بالدم"، ولم ينزلوا على رأيه، ويشهد لذلك ما روي عن نائب القنصل الفرنسي قوله أن السلطات قامت بغلق أبواب المدينة "خشية مجيء العشائر الكردية من أطراف المدينة والتي لا تفرق بين مسلمين ومسيحيين في غاراتها"، على حد قوله. (هذا يعني اعتراف بأن موقف السلطة على ضعفه لم يكن سلبياً حيال حقن الدماء).

-   أن تصنيف حالة الهياج الكنسي الواضحة بجلاء اليوم، بكل تنوعات الكنائس العالمية، والاحتشاد الدولي ضد تركيا على أنه لمناسبة مرور قرن على تلك الأحداث هو ضرب من ضروب السذاجة السياسية، ولم يحصل معشاره عند مرور نصف قرن مثلاً على تلك الحادثة، فالبادي بلا أدنى مواربة أن الغرب لم يشأ أن يتوسع في تحميل الدولة التركية إبان حكم أتاتورك الذي غض الطرف الغرب حينها عن مسؤولية حزبه (الاتحاد والترقي) المباشر عن تلك الأحداث؛ فقط لأن أتاتورك يعد حليفاً قوياً للغرب، وينفذ أجندته التغريبية في تركيا، وامتد هذا مع خليفته عصمت إينونو.. الخ، وانتفض متيقظاً الآن عندما أراد تحديداً إطاحة نظام يعتبره هو نظاماً إسلامياً في تركيا، وكأن أردوغان قد استحال في نظرهم سلطاناً عثمانياً فتذكرت كنائس الغرب والشرق وساستهم ثاراتهم منه! وإلا؛ فما التفسير المنطقي لهذه المهزلة العبثية التي يقوم بها الغرب هذه الأيام، لابتزاز أنقرة، ومطالبتها بحقوق الأرمن بعد مائة عام، مستثنين كل المجازر والتهجيرات والإبادات ليست تلك التي حصلت خلال القرن الماضي كله فحسب، وإنما حتى تلك المستمرة للحظتنا هذه كمأساة فلسطين، وبورما، والقوقاز.. مروراً بالبوسنة والهرسك التي طمرت حقوقها وغيبت مأساتها الحية وذلك في مقابل قصة قديمة نبش الغرب في ماضيها لأغراض غير نظيفة.

-    أنه مع أن ما جرى قبل قرن كان على أرضية سياسية تتعلق بإخماد تمرد وفوضى؛ فإنها لم تزل تلبس لبوساً "مسيحياً"، جعل كنائس الأرثوذكس تدق 100 دقة جرس في ذكراها، وحملت بابا الاسكندرية للسفر إلى أرمينيا، وبابا الفاتيكان لإطلاق أكاذيبه حول ما دعاه بالإبادة الجماعية، وأكذوبته الثانية التي تضمنتها عبارته القصيرة عن المسألة الأرمنية حين قال إنها "أول إبادة جماعية في القرن العشرين"، بخلاف الحقيقة التي فضحتها صحيفة الجارديان البريطانية بعد أيام من تصريحه حين أشارت إلى الإبادة الجماعية التي قامت بها الإمبراطورية الالمانية ضدّ "هيريرو وناما"، وهما اثنتان من الجماعات العرقية التي تعيش في المستعمرة السابقة في جنوب غرب أفريقيا، ناميبيا الحديثة، 1904-1909، لم تكن فقط هي الأولى في القرن الـ 20، ولكنها تبدو الأكثر رُعباً في ذلك القرن المضطرب. حيث كانت إبادة منهجية لحوالي 80٪ من الشعب هيريرو و50٪ من ناما (...) وتقدّر الاحصائيات الأكثر موثوقية أنه تمّ قتل ما يقارب 90 ألف شخص، بأمر رسميّ مكتوب بالإبادة صادر عن القائد الألماني، يحيل شعباً بأكمله صراحة إلى الإبادة".. وأكاذيب، ومهاترات البابوات تلك تذكر جيداً بدورهم في إشعال الحروب الصليبية على خلفية أكاذيب أطلقوها باضطهاد المسلمين لنصارى الشرق قبل ما يقل قليلاً عن ألف عام.. ركب أحد البابويين طائرته لأرمينيا للبكاء على تهجير قسري تم قبل قرن من الزمان، مروراً بمذابح ستالين والصرب والصينين ضد المسلمين، ومذابح رواندا وغيرها..

تطاول الفاتيكان عمداً على تركيا، راغباً في تثوير الشعوب الغربية على هذا البلد المسلم الصاعد، ما استدعى احتجاجاً واضحاً من المسؤولين الأتراك، وسحب مندوب أنقرة لدى الفاتيكان، واستدعاء ممثل الفاتيكان لدى أنقرة وإبلاغه احتجاج الحكومة التركية.. وكذلك فعلت الحكومة إزاء قرار الاتحاد الأوروبي غير الملزم بشأن الطلب من تركيا تقديم اعتذار عن جريمة لم ترتكبها ولا أجدادها، ولم يسأل الأوروبيون بالطبع عن نحو 120 ألف مسلم قضوا نتيجة خيانة الأرمن الذين انخراطوا في جيش العدو الروسي ونفذوا جرائم بحق المسلمين الآمنين في أملاك السلطنة، ومثلهم الولايات المتحدة التي دخلت على الخط مؤخراً؛ فالمقصود هو حملة صليبية جديدة رفعت لها الصلبان من الكنائس بتنوعاتها، ودقت لها الأجراس.. فتركيا تصعد بلا كابح.. ونظامها "يؤسلم" بمعدل مرتفع وعلى فترات زمنية متقاربة، والانتخابات على الأبواب، ولا بأس من إرباك المسؤولين بملف خطير إن خضعوا لابتزازه جر عليهم مشكلات لا تقتصر على التعويض بل تمتد إلى الإرغام على الانسحاب من شرق الأناضول لحساب أرمينيا الكبرى..

إنها ورقة يلعب بها الأوروبيون لعلها تصيب من أردوغان ورفاقه جرحاً، ولعلها ترفع من مخاوف الشعوب الأوروبية، تجييشاً لهم ضد الحكومة التركية، لعل من متغيرات المنطقة ما يفسح للمتآمرين كوة في حائط السياسة التركية الصلب، يجدون معه حال تهورهم ما يوفر شعبية لدى البسطاء للنيل من التجربة التركية.. ربما اليوم ليست هذه القضية مبعث قلق كبير للإدارة التركية، وليست في وارد تقديم أي تنازل مجاني في موضوع كهذا، لكنها مع هذا لا تستخف بالأمر كثيراً، لأنها لا تريد السماح لأي ثغرة بالاتساع، لاسيما مع إدراكها أنها مستهدفة.. فالصوت المحذر من "عثمانية" تركيا الجديدة آخذ بالارتفاع.. وأوروبا الموتورة دوماً من المسلمين برغم ضعفها الحالي لم ولن تنسى "صليبيتها" وأحقادها "الدينية"..