لماذا "فاز" السبسي بالانتخابات؟
2 ربيع الأول 1436
أمير سعيد

نستطيع أن نتجادل طويلاً حول ماهية الانتخابات التونسية، سواء أكانت الرئاسية أم البرلمانية، ومدى تحقيقها لمعايير الديمقراطية الحقيقية، والتنافس الشريف، وحظوظ الفرص التي توافرت لكل منافس أكان مرشحاً رئاسياً أم برلمانياً، شخصاً أم حزباً، ونستطيع القول إن الديمقراطية هي في جوهرها مناخ وأجواء صحية للتنافس وعرض البرامج، وليست مباراة لممارسة سياسة عض الأصابع وتسليط الضغوط العسكرية والأمنية على المنافسين وتهديدهم تبطيناً وتلميحاً.

 

ولقد قلت في مقالات سابقة إن الديمقراطية لم تمارس بشكل صحيح في الدول العربية التي شهدت تغيرات، ومنها تونس التي لم تحظ فيها القوى السياسية بفرص متكافئة للتنافس، إذ إن بعضها ما زال واقعاً تحت ضغوط من "النظام القديم"، والآخر يرتكن إليه في تحقيق الانتصار على منافسيه بما يملكه هذا النظام من قوات وأجهزة أمنية ومؤسسات إعلامية عملاقة وعلاقات خارجية متينة مع قوى عالمية يمكنها بما تملكه من إمكانات وخبرات تدوير مؤشرات الرأي والنفوذ بسهولة إلى اتجاه القوى الحليفة التقليدية، وهي القوى التي تمتلك "مرونة كبيرة في المصالح" تمكنها من التجاوز عن قضيتي الهوية والاستقلال، بما يتسق ومصالحها ولا يتعارض تلقائياً مع الهوى الغربي المزمن.

 

ولكن دعونا من كل هذا؛ فنحن أمام نتائج أعلنت بفوز الباجي قايد السبسي مرشح "الدولة العميقة"، والقديمة أيضاً (حيث يفصله عن دخوله العقد العاشر من عمره نحو عشرين شهراً فقط!)، بنسبة تربو عن 10%، ودعونا لا نكون "ملكيين أكثر من الملك" إذا كان المنافس المقابل، منصف المرزوقي قد اعترف بهذه النتائج وهنأ منافسه عليها، لذا علينا أن نسأل دون توقف طويل عند تجاوزات وخروقات الانتخابات ليس عن النسبة التي فاز بها علناً، رئيس تونس القادم، وإنما عن الكتلة التصويتية الحقيقية التي ذهبت بمحض إرادتها فانتخبته، وهي كبيرة على كل حال.

 

ثمة شرائح كبيرة وضعت بطاقة مكتوب عليها "السبسي" في صناديق التصويت، ولديها مبرراتها في هذا:

 

-    فشريحة تتفق أيديولوجيا مع حركة نداء تونس، من حيث عدم تواؤمها مع أصحاب "الحل الديني" المتمثل في حركة النهضة وشبيهاتها، وبالتالي فهم يصوتون لأصحاب أي توجه أيديولوجي آخر.

 

-    وشريحة لا تتفق أيديولوجيا مع نداء تونس، وربما تعاطفت مسبقاً مع حركة النهضة التي أيدت المرزوقي، الذي تعد هزيمته هزيمة غير مباشرة للنهضة، لكنها تعاطفت على أساس براجماتي فقط، يتلخص في مدى قدرة هذا الفصيل الذي تأملت فيه هذه الشريحة أن يحقق نمواً اقتصادياً بالنظر إلى رغبته في محاربة الفساد، لكن هؤلاء أصيبوا بخيبة أمل جراء عدم نجاح النهضة في تحقيق طموحاتهم، حتى لو كانت حكومة حمادي الجبالي قد وضعت أمامها عراقيل جمة منعتها من تحقيق أهدافها، لكن يبقى أن الناس تنتظر النتائج لا الأسباب والمبررات.

 

-    وشريحة ليست لديها توجهات أيديولوجية، لا مع أصحاب التوجه العلماني أو الديني، لكنها رأت في نداء تونس ومن يمثلها ضماناً للاستقرار، حتى لو لم يقم على أرضية واجتماعية عادلة، وهؤلاء لاشك أنهم نظروا إلى رغبة العالم في بث الفوضى في أي بلد لا يريد السير في ركاب الغرب، وهؤلاء لهم مصالح مباشرة في استقرار بلادهم، لانشغال معظمهم بالعمل في السياحة والتجارة ونحوها بما لا يحتمل التضحية مع أي حركة أو حزب لا يؤمن هذا الاستقرار، ويدخل البلاد في "مرحلة نضالية" يرى كثيرون أنهم في غنى عنها.

 

-    وشريحة تأثرت بالجهد الهائل الذي نفذته آلة إعلامية ضخمة متعددة الأذرع، هيمنت على الحالة المزاجية للناخب التونسي، وحولته تلقائياً إلى تأييد النظام القديم، حتى في سيدي بوزيد نفسها التي منها انفجرت "الثورات العربية"، وهؤلاء وصلتهم رسائل مباشرة وغير مباشرة تفيد بأن "المرزوقي هو مرشح حركة النهضة التي تتحالف مع "الإرهاب"، وتحمل أفكاراً رجعية".

 

-    وشريحة رأت أن التصويت للمرزوقي سيدخل تونس في عزلة إقليمية، لاسيما مع انتقاده نظماً إقليمية لم تزل شعوبها تضخ المال في الصعيدين السياحي والاستثماري، واستمرار هذه العزلة، يعني تراجعاً اقتصادياً كبيراً، يضاف إلى التراجع الحقيقي الذي بات الاقتصاد التونسي يعيش فيه منذ أن أشعل البوعزيزي النار في نفسه قبل أربع سنوات!

 

-    وشريحة ربما لا ترى فارقاً في النتيجة بين السبسي والمرزوقي من حيث هامش المناورة المتاحة لكل منهما في ظل نظام عالمي وإقليمي لا يسمح بتطبيق أي حلول راديكالية في السياسة والاقتصاد التونسيين، وبالتالي؛ فإنه ليس ثمة ما يستدعي تضحية من أجل حل، لا هو أيديولوجي إسلامي، ولا هو يحقق طفرة في الاقتصاد، ولا يوفر مناخاً أمنياً واجتماعياً صحياً.

 

-    وشريحة متفقة قلباً وقالباً مع حركة النهضة، لكنها لا تجد ذاتها متحمسة للنضال مع مرشح "علماني" ضد آخر يتفق معه في رفض البرامج الواضحة لمشروع يرونه "إسلامياً"، وعليه؛ فهذه الشريحة التي ربما صوتت للمرزوقي، لم تتحمس للترويج له، ببساطة لأنه لا يمثلها وإنما يتفق معها في بعض الرؤى، ولا يمكنها على المدى البعيد تحمل "اجتهاداته"!

 

-    وشريحة قد فقدت الأمل في التغيير، وأيقنت أن عقارب الساعة ستعود للوراء، وهم من فئة الشباب التي أحجمت عن الذهاب للتصويت، فصب امتناعها تلقائياً في مصلحة السبسي.

 

-    وشريحة تولدت لديها قناعة بأن السبسي ليس امتداداً لبن علي، وأن الديمقراطية قد ترسخت في تونس، ولا يمكن ظهور نظام استبدادي بها، وبالتالي؛ فهي جرت خلف الفريق صاحب الخبرة، وظنت أن عليها اختيار "رجال دولة تقليديين" يمكنهم إدارة المرحلة، وهؤلاء قد خاب ظنهم ليس في النهضة بالضرورة، وإنما في المرزوقي الذي لم يحقق ما كان هؤلاء يتوقعونه منه.

 

-    وشريحة أيدت النهضة في وقت سابق لكنها تيقنت تماماً من أن قياداتها وكوادرها ربما كانوا "أناساً طيبين" على المستوى الشخصي، وقد يكونون يمتلكون قدرات إدارية عالية، وربما هم "تكنوقراط ناجحين" لكن المرحلة التي تمر بها تونس والمنطقة ليست في وارد إتاحة الفرصة لهؤلاء للعمل في أجواء "صحية"، وإنما تحتاج ساسة مدربين، بل ربما ثعالب سياسة وأرباب خطط وتدبيرات يمكنهم تجاوز العراقيل المتولدة كل يوم أمامهم، وتلك ليست "ساعتهم"، وسواء أكانوا "صالحين أم طالحين" فإنهم لا يصلحون للمرحلة.

 

-    وشريحة توقعت أن برامج النهضة ليست إلا حالة مؤقتة سرعان ما ستبدو بعدها أكثر تشدداً، وستتوجه إلى "أسلمة السياحة" بما يعرضهم لـ"خسائر" وفق تقديراتهم.

 

هي إذن شرائح عديدة أثرت بالإيجاب بتصويتها أو إحجامها عن التصويت لمنافسه، في وضع السبسي في سدة الحكم التونسي، وستكتشف معظمها عما قريب ما إذا كانت وفقت في اختيارها أم لا؛ فالاستحقاقات الظرفية آتية بسرعة، وبعد احتفالات أنصار السبسي سينجلي المشهد عن صور جديدة، ربما سيكشر فيها النظام عن أنيابه باسم "فرض هيبة الدولة"، ولربما أدخلت بعض الأطراف البلاد في دوامة عنف مبرمجة لتقليص مساحات الحرية، وتحويل الخلافات السياسية إلى قضاء يقصي "الآخر".. أو ربما يسعى أصحاب التجربة إلى البرهنة على أنهم قادرون على إنضاج "تجربة ديمقراطية" تتقبل الآخر ولا تقمعه، وأنها برغم ما يعتريها من نقائص جوهرية ستمثل تجربة على استيعاب "الآخر"، لاسيما لو كان يطرح برامج "دينية".