العراق ورأس الأفعى
27 شعبان 1435
أمير سعيد

لطالما ثار المسلمون السنة في العراق حتى ظُن أنهم لن يهدؤوا، ثم هدأوا حتى ظُن أنهم لن يثوروا.!

قاوموا عسكرياً منذ بداية الغزو الأمريكي/البريطاني لبلادهم، ثم انكمشت المقاومة وتراجعت الممانعة للحالة السياسية والعسكرية المعادية لهم، ثم تجددت مقاومتهم، لكن هذه المرة بشكل غير مسلح، حتى أجبرهم نظام المالكي على سلوك طريق الدفاع الشرعي عن النفس بعدما اقتحم مقار اعتصاماتهم السلمية.

 

تختلف الملابسات كثيراً في كل حركة، لكن تتفق جميعها على رفض الخنوع للاحتلالين الأمريكي والإيراني؛ فلقد أخذت المقاومة إطاراً "وطنيا" من قبل، لكنها الآن تتميز كمقاومة سنية خالصة، لها مشروعها المستقل الذي قد تقبل بعض مكوناتها النظام الفيدرالي لحكم العراق، وهذا قد يكون تطوراً منطقياً بالنظر إلى انكماش الدور الأمريكي لحساب الإيراني، وتغول الإيرانيين لحد قضم المكون الرئيس السني، ومسعاها الدؤوب لتغييب الهوية السنية تماماً، سياسياً وعسكرياً واجتماعياً وثقافياً، وليس جديداً أن الرغبة في الفيدرالية وربما الانفصال كلياً عن الجنوب الشيعي قد راجت في العراق، وأصبحت غير مستهجنة من كثيرين، وقد استمعت شخصياً إلى دفاع قوي من قامة عراقية قبل انبعاث الحراك الثوري في العراق بشهور عن فكرة الفيدرالية، ومدى تماهيها مع فكرة وحدة العراق، لا تقسيمه، خلافاً لما يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى، ضارباً الأمثال لكثير من التجارب الفيدرالية الناجحة في أوروبا وغيرها.

 

والحاصل، أن ما جادل بشأنه حينها قد لاحت بوادره، أو على الأقل لم يعد مستبعداً، اليوم، فالأكراد قد عززوا، لا من حظوظ الفيدرالية، بل الكنفيدرالية، وحتى الانفصال، والشيعة عززوا مواقعهم جيداً في الجنوب، والمناطق الشيعية المقدسة، لاسيما كربلاء والنجف، واستعدوا لتأمينها بأمواج بشرية، وحشد ميليشياوي هائل، والسنة بدوا عازمين على تطهير كل مناطقهم قبل أن يبدوا لهم تطلعات نحو مناطق غيرهم.

 

وفي هذا السلوك الأخير، للفصائل العسكرية التي تقاتل باسم السنة أكثر من تفسير، أحدها بسيط، وهو أن المنطق لابد أن يقود إلى ضرورة تطهير كل المناطق السنية قبل الشروع بالتوسع في غيرها، وآخر مركب بعض الشيء، وهو أن الحركة المسلحة التي انسابت في مدن وبلدات كثيرة لا تزمع حقيقة الانتقال إلى أماكن أخرى، إما لعدم قدرتها العسكرية واللوجستية، أو لأنها لا تتحرك خبط عشواء، وإنما وفق توافقات مع بعض الدول، وهذا قد يقود إلى محاولة الإجابة عن سؤال يعتمل في نفوس الكثيرين حول تأخر معركة بغداد المنتظرة؛ إذ إن الإجابة عنه تتطلب العبور على منطقة ملغومة من التساؤلات حول طبيعة الجهات التي تحارب الجيش العراقي العميل لإيران وميليشياتها، ومدى قدرتها على إحداث التغيير المطلوب، وردود الأفعال الغربية حيال ما تم حتى الآن.

 

والسؤال الأكثر أهمية هنا: هل تأخرت المعركة في بغداد لأسباب سياسية أم عسكرية؟ أو هل تأخر الزحف إلى العاصمة بسبب شدة التحصينات فيها، وهو أمر منطقي؛ فالمنطقة الخضراء التي تضم السفارة الأمريكية ومقر الحكم شديدة التحصين والحماية، وفي العاصمة تنتشر أكثر من عشرة مليون قطعة سلاح.. أم أن "الثوار" قد أجلوا الزحف إلى بغداد واكتفوا بالانتشار في الأنبار حتى حدود العراق مع سوريا لأسباب سياسية وربما "فيدرالية"؟

 

الواقع أن "الثوار" فقدوا مزية هائلة كانت تعمل لصالحهم، وهي عنصر الصدمة والرعب التي هيمنت على الشعور الطائفي المعاكس لهم، ومكنت "الثوار" من تحقيق انتصارات متوالية، كثير منها لم يكن منطقياً بالنظر إلى فروق التسليح والعدد، وهي انتصارات تنسب تلقائياً إلى إرادة ربانية، لكن من دون التغاضي عن الأسباب المادية لها، من توفر البيئة السنية الحاضنة للحراك الثوري المسلح، والإمكانات التسليحية التي توفرت بشكل أو بآخر للفصائل السنية، والاستعدادات السابقة، والحراك السلمي الممهد للعسكري، وقد تجسد هذا الفقدان لمزية المباغتة في الأجواء التي  تهيأت لوزير الخارجية الأمريكي لكي يزور بغداد وسط المعارك المحدودة حولها، برغم كونها زيارة لم يعلن عنها من قبل على أية حال.

 

السائد الآن في تحليلات الغربيين والعرب أن عراق ما بعد انهيار الجيش العراقي في الموصل ثم عموم الأنبار ليس كسابقه، لكن من جانب آخر يمكننا القول بأن "تحرير بغداد" أو حتى حدوث اقتتال داخلها على نطاق واسع هو الضمانة الوحيدة ـ على ما يبدو ـ لتحقيق نصر حقيقي، أو على الأقل تأمين حل فيدرالي تكون فيه بغداد، عاصمة جامعة لمكونات العراق وأقاليمه شبه المستقلة فيما بعد؛ ففي تقديري لا يمكن التعويل على كل ما تحقق من انتصارات للسنة من دون أن يكون ثمة تأكيد أو ضمانة للوجود السني السياسي والعسكري في قلب بغداد، وإلا؛ فإن كل ما تحقق يمكن انتقاصه أو استرجاع بعضه أو منعه من قيام إقليم مستقل هادئ، على نحو ما هو حاصل في المحافظات شبه المحررة في سوريا، ويضاف لذلك أن ما يتردد الآن بقوة عن مستقبل رئيس وزراء العراق، نوري المالكي، وضرورة رحيله، بين الساسة الغربيين وما يغرق وسائل الإعلام الغربية، هو أيضاً مما يمكن التغاضي عنه على نفس المنوال الذي حصل مع الرئيس السوري بشار الأسد، الذي بدأ فترة ولايته الجديدة دون ممانعة تذكر من الغرب.

 

رأس الأفعى تكمن في المنطقة الخضراء في قلب العاصمة العراقية، وما لم تقطع أو تضار؛ فسيظل المالكي هو رئيس الحكومة "الشرعي" في نظر العالم كله، وستبقى الفصائل محض "مجموعات متمردة" يمكن وصمها كلها بـ"الإرهاب"، حتى مع إدراك الغرب أن الفصائل المقاتلة ليست كلها تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام".

 

بصراحة، نحن لدينا معطيات ليست مطمئنة بدرجة كافية لمستقبل السنة في العراق، فعدم قدرة الفصائل السنية على اقتحام بغداد، أو ربما عدم رغبة بعضها في ذلك، وحصول مبالغات في تصوير حالات الانتصار إلى الحد الذي أوحى بأن فرار نظام المالكي وجيشه الطائفي هو مسألة وقت، وأسير مدة زمنية قصيرة كان أمراً مغايراً للواقع، لاسيما إذا أخذ بالاعتبار أن ثمة مساندة دولية تقودها الولايات المتحدة ليست هينة، ويتوقع أن يترجم تأثيرها على الواقع الميداني، وخصوصاً مع استخدام نظام المالكي لسلاح الجو، واستعانته بالقوات الجوية، السورية والإيرانية، وإمطارهما مدن وبلدات المقاومة بالبراميل المتفجرة سيئة السمعة (في سوريا)، وتواطؤ بعض الدول العربية وتحركها من أجل التمكين للطائفة الشيعية في العراق تلبية للرغبتين الأمريكية والبريطانية، في غياب أي تحرك جوي لطائرات المقاومة التي قيل إن الثوار قد استولوا عليها في الموصل.. لدينا أيضاً استحالة قبول القوى الدولية والإقليمية لنظام مناوئ للولايات المتحدة يصل للحكم في بغداد عن طريق السلاح، واستماتة الجميع في المحيط الإقليمي لمنع ذلك، على الرغم من غموض الموقف الروسي، وبعض دول الخليج العربي حيال الزحف السني المسلح، بخاصة مع تردد أنباء قوية عن انخراط قادة عسكريين بعثيين في القتال وتوجيهه، وهم ما زالوا يحتفظون بعلاقة ليست سيئة مع موسكو، وتخوف بعض دول الخليج من التمدد الإيراني، ورغبتها في "تقليم أظافر" شيعة العراق، وإيران من ورائهم.

 

لكن مع هذه المعطيات المقلقة للسنة في العراق، واحتمال تشقق الحالة المقاومة، وغموض بعض أطرافها، إلا أن ما تحقق لحد الآن يوحي بأن إعادة عقارب الساعة للوراء ليست سهلة، وأن ما أحرزته الفصائل في قتالها للطائفية الإيرانية في العراق يمكن البناء عليه؛ فالحاصل أن التغييرات المفاجئة سواءً أكانت عفوية (ولا عفوية في السياسية تقريباً!)، أم مخططة، وحالات الفوضى، هي رهينة الأكثر قدرة على المناورة والإفادة من الأوضاع السائلة، وهو ليس بالضرورة هو الأقوى مثلما هو الحال عن ثبات الأوضاع واستقرارها، فأحياناً يكون الأقل قوة هو الأسرع، والأقدر على الإفادة من المتغيرات، والذي يحسن استغلال اللحظة، والحقيقة أن لدى المقاومة العراقية قدرات إبداعية وتراكمية متميزة تجلت خلال السنوات الأولى للغزو، ولقد أضحى لديها من الخبرات ما يجعلها تحسن وضع أقدامها في مكانها الصحيح، ولعلها تدرك أكثر من غيرها بكثير أن فرض واقعها الجديد مرتبط بمدى تملكها أوراق قوية، ليس في بغداد بوجه عام فقط، وإنما في تمكنها من إنهاء أسطورة المنطقة الخضراء، كواحدة من أكثر المناطق الأمنية استحكاماً في المنطقة.. وحين تقطع، أو تجرح رأس الأفعى هذه؛ فإن الزمان سيستدير دورته الاعتيادية لتعود بغداد كما عهدناها، عاصمة الرشيد، والعباسيين، لا القرامطة والباطنيين!