ثقافة السلطة وسلطة الثقافة
19 ربيع الأول 1435
علا محمود سامي

من الإشكاليات المزمنة في عالمنا العربي تلك العلاقة الملتبسة بين السلطة والمثقف، وطبيعة العلاقة بين ثقافة السلطة وسلطة الثقافة، وما إذا كانت علاقة طبيعية، أم مضطربة، والأسباب التي يمكن أن تكون دافعة لتحقيق هذا الشكل من الالتباس أو الانسيابية، خاصة أن أي سلطة لا يمكنها بحال أن تظل في موقعها دون أن تكون لها أذرعها المتنوعة، سواء كانوا مثقفين أو إعلاميين، بما يجعلهم يحددون لها المسار الذي تسير عليه، ويجمِّلون صورتها، ولا سيماإذا ارتبطت بأي شكل من أشكال الانتهاكات المختلفة.

 

وعلى الرغم من أن دعاة الليبرالية هم الأكثر تناولاً لضرورة إزالة العلاقة الملتبسة بين المثقف والسلطة، فإن أنصار هذا التيار-سواء الغلاة منهم و"المعتدلون"- هم أول من يشرخون هذا الجدار، بل قد يعملون على تهديمه، إذ يسهمون هم أنفسهم في إفساد العلاقة بين المثقف والسلطة، حيث ينخرطون في مؤسساتها، ويقبلون  أن يكونوا أداة طيعة في خدمتها،  بالترويج لممارساتها وسياساتها كافة، حتى لو خالفت في ذلك أبسط الحقوق والقواعد المرعيةحتى يصبحوا بالنسبة لها أحد أذرع بطشها، فينكلون بكل من يخالفهم الرأي، وهم الذين يرفعون شعار حريات الرأي والتعبير، بالانحياز الدائم للسلطة، وخاصة اذا كان العدو  هو التيار الإسلامي.

 

ولعل ما يكشف زيف تناقض أمثال قادة التيارات العلمانية والليبرالية في مطالباتهم الدائمة بازالة العلاقة الملتبسة بينهم وبين السلطة، تلك التعريفات التي يضعونها للثقافة، على نحو التعريف الذي يحدده اليساري الراحل محمود أمين العالم، الذي يسوق تعريف الثقافة في كتابه"من نقد الحاضر الى إبداع المستقبل" بأن "الثقافة هي رؤية إنسانية كلية نقدية تجاوزية للواقع الآني الخاص السائد، على حين أن السلطة أقرب الى أن تكون تجسيداً عملياً لرؤية مصلحية محددة، تسعى إلى تثبيت الواقع وإعادة إنتاجه وتسييد مشروعيتها فيه، بالممارسة الجزئية والآنية!!  

 

وعلى نحو ما هو معروف، فإن السلطة لاتعني بالضرورة مركزية صنع القرار،  فهي تشمل كل من يملك شيئاً من القرار وصنعه وإصداره يمثل سلطة، مهما صغر موقعه أو منصبه، وبالمقابل فإن الثقافة ليست حكرا على نخبة بعينها، ووفقاًلتعريفاتها المتباينة فإنه لا يمكن حصرها في تعريف بعينه، ما يزيد من التباس العلاقة بين المثقف والسلطة، ويجعل من الأخيرة تعريفاً فضفاضاً يمكن أن يتيح لها احتواء  المثقفين، أو وفق ما كان يصرح به أحد وزراء ثقافة نظام الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك بأنه يسعى الى احتواء المثقفين داخل حظيرة وزارة الثقافة.

 

بهذا الفهم تسير العلاقة بين المثقفين والسلطة، أو هكذا يسعى هذا النمط من السلطة في احتواء المثقفين وإدخالهم الحظيرة بأي وسيلة كانت، وهو ما تسير عليه دائما الأنظمة المستبدة، على عكس الدول الديمقراطية التي تسعى الى أن يكون دور المثقفين دوراً مساعداً  للدولة–لا للسلطة-،  يرسم لها خططها ويبني لها مشاريعها، على خلاف حالة العلاقة الملتبسة للأنظمة المستبدة، التي  تجعل هدفها الأساسي استئصال التيار الإسلامي، الذي عاني مثقفوه ونخبه إقصاء وتشويهاً، حتى في مراحل الصعود السياسي، على نحو ما كان في مصر، ليصبح شأنهم هو الحالة الثانية من المثقفين الذين تعرضوا لسهام إعلامية وفكرية لاتستند إلى أسانيد موضوعية أو نزاهة فكرية، فكانت الغلبة فيها  للأقوى، وهو من يملك سلاح الإعلام وزمام الفكر، نتيجة لسيطرة أمثال هؤلاء على مفاصل الدولة إعلامياً وثقافياً، فقد كانوا موغلين في بنية المؤسسات ومناصبها القيادية، ما كان حائلاً ضد أي إصلاح أو تطهير.

 

على هذا النحو، كانت الغلبة لمثل هذه النوعية من المثقفين، الذين ظلوا طوال ردح من الزمن يَسْتَعْدُون الأنظمة الاستبدادية على التيار الإسلامي بمختلف شرائحه وفصائله، علاوة على نفر آخر من المثقفين من خارج هذا التيار، من الذين أبوا أن ينخرطوا في حظيرة نظرائهم من المثقفين، أو الدخول في فلك الحكومات، فلم تنجح الأنظمة الاستبدادية في احتوائهم، لذلك كان مصيرهم مزيداً  من الاستعداء، ما جعلهم يخرجون  من بلادهم بصورة أو بأخرى إلى المنافي، لتنسم نسائم الحرية، علهم يعودون إليه في يوم ما، وقد تحرر من نير الاحتلال الوطني، أو أن تستقيم الأمور ليصبح المثقفون شعلة إيجابية..

 

والأخطر أن تكون ثقافة السلطة أقوى من سلطة الثقافة، وذلك بأن تعمل على احتواء المثقفين والنخبة عموما، بحيث تصبح هذه النخبة تسير في فلك السلطة، وهو ما يخالف ما ينبغي أن تكون عليه الثقافة ذاتها بأن يكون لها سلطة وتأثير، وأن تكون الثقافة بمثابة العين التي تنير للسلطة الطريق في إصدار القرار، انطلاقاً من المقومات التي تحملها الثقافة ذاتها من قوة وتأثير في جمهور المتلقين على مختلف شرائحهم واهتماماتهم، عن طريق ما تقدمه لهم من محتوى رفيع ومنتج متنوع طيب..