هذا العنوان الذي اختاره الدكتور راغب السرجاني لكتاب يتألف من جزأين (مجموع صفحاتهما 750 صفحة)، موضوعه مطروق وليس بِكْراً... فقد سبقه إليه مستشرقون منصفون من أمثال: جوستاف لوبون في كتابه: حضارة العرب وزيجريد هونكه (شمس العرب تسطع على الغرب) وجورج سارتون (مقدمة في تاريخ العلم) وتوماس أرنولد واليهودي فرانز روزنتال وآدم متز (الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري) وروبرت بريفولت ورينيه جيبون وسديو.... واهتم بهذه القضية من المسلمين قدري حافظ طوقان وأبو الحسن الندوي (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين)...
إلا أن كتاب الدكتور السرجاني يمتاز بشموله، فالآخرون كانوا يتناولون العطاء الحضاري الإسلامي من زوايا محددة، بينما جاء السرجاني فاعتنى بالمشهد كاملاً وانطلق من رؤية تربط الجذور بالأوراق والثمار...
يبدأ الكتاب بإطلالة لازمة على الحضارات العالمية السابقة: الهند-الإغريق-الفرس-الروم، تليها نظرة عامة على العالم قبل الإسلام، ثم يعرض أصول الحضارة الإسلامية وروافدها (الكتاب والسنة النبوية وحراك الشعوب الإسلامية)، وصولاً إلى بيان خصائص هذه الحضارة: الوحدانية-العالمية-التوازن والوسطية-الصبغة الأخلاقية.
ولذلك اهتم المؤلف برصد إسهام المسلمين في جانب القيم والأخلاق: حقوق الإنسان-المرأة-المرضى وذوي الاحتياجات الخاصة-اليتيم والأرملة والمسكين –الأقليات-حقوق الحيوان-البيئة، وفي مضمار الحريات: حرية العقيدة والتفكير والتملك.. ويبحر الباحث في بنية الأسرة المسلمة وتركيبة المجتمع القائمة على المؤاخاة والتكافل والعدل والتراحم.
ثم يطل على العلاقات بين الدولة الإسلامية والدول الأخرى وما قد يتبع ذلك من نشوب حروب-ليست الأصل في تلك العلاقات- فيبين أسبابها وأهدافها مع عرض شافٍ ووافٍ لأخلاقيات الحرب في الإسلام.
ويتوسع المؤلف في تناوله الحقل العلمي بدءاً من الرؤية المتميزة إلى العلم وانعدام أي خصومة بينه وبين الدين مع التركيز على المنهج التجريبي، ليصل إلى المؤسسات التعليمية من الكتاتيب إلى المساجد والمدارس ودور المكتبات التي ازدهرت في المدن والحواضر الإسلامية ازدهاراً أثار دهشة المؤرخين المنصفين حتى في العصر الحديث..
وفي تجلية إسهامات أمة الإسلام في علوم الحياة، يبدأ السرجاني بتطويرهم العلوم القائمة من قبل كالطب والفيزياء والهندسة والجغرافيا والفلك، ويُثَنِّي بعلوم ابتكروها مثل الكيمياء والصيدلة والجبر والمكيانيكا.
وفي الإنسانيات يسير الكتاب على النهج ذاته، فقد طوَّر المسلمون علوم التاريخ والأدب والفلسفة-؟؟- وابتكروا علم الاجتماع وأضافوا علوماً خاصة بالشريعة وأخرى باللغة، لكنهم أحسنوا إلى بني آدم جميعاً بالتوحيد النقي الذي قدموه بحسب ما جاء في كتاب الله تعالى وفي سنة نبيهم المصطفى صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم..
في الباب السادس يتناول الباحث المؤسسات والنظم في الحضارة الإسلامية، ابتداء من رأس الهرم: الخلافة والشروط الواجب توفرها في الخليفة وكيفية اختياره وماهية الشورى والبيعة وعلاقة الحاكم بالأمة شرعياً ثم واقعياً مع تقديم نبذة عن الفتن السياسية من منظور حضاري شامل، ثم الوزارة والدواوين (الرسائل-الجند والعطاء-الأوقاف-البريد) وبيت المال ونظام الحسبة والشرطة والجيش..
ثم يفرد للنظام القضائي فصلاً مستقلاً يستهله بمقتضيات العدل وابتكار وسائل تؤازر القاضي في تحقيق العدالة ومعايير اختيار القضاة وتحديد مهماتهم وظهور القضاء المتخصص والرقابة على القضاء دون خدش استقلاليته التي ترسخت بخضوع الخلفاء والأمراء والقادة العسكريين لأحكامها. ويختم هذا الفصل بلمحة موجزة عن نشأة ديوان المظالم وتخصصه الرائد.
وفي فصل آخر يعرِّج المؤلف على المؤسسة الصحية وتقدم المستشفيات في الحضارة الإسلامية وتفردها بإرساء العمق الإنساني في النظر إلى المرضى وطبيعة التعامل معهم.
أما الباب السابع فعنوانه: من مظاهر الجمال في الحضارة الإسلامية وفيه حديث عن الفنون: العمارة-الزخرفة-الخط العربي، ثم جماليات الصناعات والاختراعات العلمية وجماليات البيئة وخصائص الحدائق والنوافير، ثم يبحث في الجمال الظاهري الذي يشمل جمال الجسم والثياب والبيت والشارع، ثم في الجمال الأخلاقي والسلوكي: التبسم وطلاقة الوجه والكلمة الطيبة وسلامة الصدر وحب الناس وحسن الخلق.
وفي مجال الجمال المعنوي نطالع: جمال الأسماء والألقاب والعناوين، ويفصل في حديثه عن قرطبة باعتبارها نموذجاً للمدينة الإسلامية الرائعة...
وقد خصص المؤلف الباب الثامن-والأخير- لدراسة وتقويم أثر الحضارة الإسلامية في أوربا ونهضتها عبر بوابات صقلية والأندلس فالحروب الصليبية، حيث بدا ذلك التأثير قوياً في ميادين الاعتقاد والتشريع والعلوم واللغة والأدب والتربية والمعاملات والفنون.
ويختم الباب شهادات مفصلة من غربيين منصفين في مجالات: العلوم- الأخلاق-الفكر.
وقد زود الكتاب بملحق للصور الملونة تغطي أبرز الجوانب التي تناولها الكتاب.