الحوار السعودي بالشوكة والسكين
27 ذو الحجه 1434
أمير سعيد

لا يقبل بأن تفوته شاردة ولا واردة في محاكاة الغرب، وتقاليده وأفكاره.. حتى في طريقة طعامه، اجتهد ليتعلم أحد الطريقتين، الأمريكية أو الأوروبية في إمساك الشوكة والسكين..

أخيراً أتقنها..

لكن وجد المسكين من يهمس في أذنه للتو.. "جيد، لقد أجدت في تقليد الأندلسيين في الإمساك بالشوكة والسكين؛ فتلك طريقتهم التي نقلتها عنهم أوروبا، ثم صدرتها لأمريكا مع هجراتها.. ثم اكتسحت العالم"!.. معلومة مشوقة تاريخياً، لكن "صاحبنا" لم يطرب لسماعها؛ فالغرب ذاته حاول دوماً طمس استناده في معظم منتجات "حضارته المادية" إلى جذور إسلامية، أكانت أندلسية أم تركية..الخ، وبالتالي فإن الرجل لا يود الالتفات كثيراً إلى "الجذور" واستحقاقاتها الفكرية والحضارية، لذا لم تسعده تلك المعلومة ودلالاتها..

 

هذا الافتراض، هو ما طرأ على ذهني وأنا أتابع ـ كغيري ـ وسما طاف بتويتر يتحدث عن مساجلة فكرية دارت بين مفكر سعودي بارز كان يحاضر بندوة بجامعة اليمامة السعودية ومحاضر جزائري، حيث سأله الأخير منتقداً عن تجاوزه الحضارة الأندلسية حين تحدث عن استقاء الحضارة الغربية من الجذور الأوروبية القديمة؛ فرد الأول بقسوة معتبراً أن هذا النقد هو حديث "العجائز والأطفال"، وأن التصفيق الذي تلاه (بحرارة واضحة) هو انسجام مع دغدغة العواطف التي يحدثها مثل هذا الخطاب (للمحاضر الجزائري)، ما حدا بالطلاب إلى مغادرة الطلاب بهدوء احتجاجاً على رد المفكر، وانتهت الندوة رغماً عن منظميها!

 

التفاعل بداخل القاعة، ثم ذاك الهائل على مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها لحد مقاربة مقطع فيديو الموقف لنحو مليون مشاهد في أيام معدودة، هو ما يسترعي انتباه أي مراقب ولو كان من غير السعوديين؛ فالحاصل أن المشهد قد تجرد من الجنسية وانتهى إلى الهوية، ووضع القاطرة على سكة فكرية واضحة؛ فالمعترض جزائري، والمحتجون تضامناً سعوديون، والمفارقة على قاعدة فكرية.. والحديث عن "الحضارة" والاحتجاج كان "حضارياً".. أما ما استفزهم فلم يكن "حضارياً" بالمرة!

 

والحقيقة أن المشهد يختزل متلازمة بين الفكر الغربي والاغتراب؛ فكلاهما رديف للأخير، إذ وجد المفكر السعودي نفسه غريباً عن مستمعيه؛ فغضب ونعتهم بما نعت، وغادر بعد أن سبقوه إلى الأبواب.. وربما، وهو لا يدري ما سر "اغترابه عنهم أو اغترابهم عنه"..
إن المفكر إذا لم يتمكن من إقناع "مثقفين" و"جامعيين" بفكرته ـ أو حتى بعضهم ـ فأين سيذهب بها؟! وإذا كان غريباً هكذا عن متعلمين؛ فكيف حاله إن جالس السوقة والدهماء؟!

 

الاغتراب في مبعثه ناشئ عن إشكالية لا يمكن حلها في الوقت الراهن، مضمونها أن الليبراليين الذين يقدمون بضاعتهم في أرضنا، يسوقون شيئاً لا يمكن شراءه ولا تملكه؛ فاللعبة باختصار هي: "الليبرالية الغربية ممتازة، سنجعلها تبرق في أعينكم، ثم إذا أردتموها سحبناها"!

 

هكذا الغرب يفعل.. إنه يصدر بضاعة "حضارية" لا يريد أحداً أن يمتلكها سواه، وبالتالي حين يروجها عرب من بني جلدتنا فهم يوقعوننا وأنفسهم في حرج، تماماً مثلما يقول اليهودي لك: إن اليهودية هي خير الأديان؛ فإن قلت له: حسناً سأعتنقها، فاجأك بالقول: "لكن لابد أن تكون أمك يهودية كي تصبح يهودياً"!!

 

الليبرالية تقدم في عالمنا العربي على أنها "الحلم"، وثمة "جيش مدني" من المفكرين يدعونك إليها، لكن حال يترتب على إيمانك بها رغبة في ممارسة حقيقية لها لاسيما في الجانب السياسي، صدموك على الفور، قائلين: "عفوا إنها لا تصلح لكم"، تماماً مثلما تلاقت المداخلات في الكونجرس الأمريكي على أن ما يصلح لمصر ليس نظاماً ديمقراطياً حقيقياً، وإنما نظام يوضع فيه الدستور من معينين، ويؤمه معينون!

 

والاغتراب الذي يعانيه صاحب الفكر الغربي في دولنا مبعثه أنه ينشر فكرته في بيئة "إسلامية" تعودت في "حضارتها الأصيلة" ألا تستأثر بالخير من دون الشعوب، وليس لديها طبقات وعنصريات؛ فلا نازية فيها ولا عبودية، ولا نبلاء وعامة.. إنها حين ترتضي لنفسها الإسلام بكل قيمه وأخلاقه وآدابه، تنشره في كل مكان وتقيمه في كل أرض بالطريقة ذاتها ـ دون تمييز ـ في كل أرض مهما نأت عن مركزها وعاصمتها، لذا؛ فإن الليبرالية والفكر الغربي سيظل غريباً عن تربة مثقفيها المسلمين، لأنهم ـ بفطرتهم ـ إن آمنوا بالليبرالية سيحاولون تطبيقها عندهم لأنهم لا يعرفون طبقية ولا استعلاء، لذا سيصدمون حين يقال لهم: "إنكم طبقة من الأممين لا تصلح لكم أفكارنا، هي فقط لاعتناقها لا لتطبيقها، فالأخير مرهون بأن تكونوا من ذوي البشرات البيضاء.. أما أنتم فأفكارنا للاطلاع فقط"..

 

لهذا سيظل الحوار بين "مفكرينا" وشعوبنا حوار طرشان، وسينتهي كما انتهت تلك المحاضرة بالقول:
"كان بودي أن أكمل الحوار.. لكن الحوار ليس له لغة" !!