ذكريات رئيس في السجن
13 ذو القعدة 1434
منذر الأسعد

الكتاب:هروبي إلى الحرية
المؤلف:علي عزت بيغوفيتش
ترجمة: إسماعيل أبو البندورة
مراجعة: محمد الأرناؤوط
ط1/صفر1423=أيار/مايو 2002م/دار الفكر بدمشق
468 صفحة (17*25سم)

*******

 

هذا الكتاب عبارة عن ملاحظات دوَّنها الرئيس البوسني الراحل علي عزت بيجوفيتش رحمه الله،في الفترة التي قضاها في السجون الشيوعية قبل تفكك يوجسلافيا،بين عاميْ 1983و1988م. لم يهرب بيجوفيتش من السجن حقاً، فما عناه بالهروب في عنوان كتابه هو الهروب الروحي والنفسي حيث تشبث بإيمانه فشعر بأنه أقوى من سجانيه الظالمين...

 

الكتاب رائع في حد ذاته،فكيف وهو من إبداع مفكر مسلم ذي ثقافة عميقة ومناضل صلب ثبت في وجه البطش الشيوعي الشرس،ثم أصبح أول رئيس للبوسنة بعد قيادته جهاد شعبه في وجه عدوان الصرب المدعوم دولياً؟

 

كان يكتب ملاحظاته بصورة سرية ويخفيها لدى سجناء آخرين وبخاصة من المحكومين بقضايا جنائية لأن الجلادين يتسامحون في تفتيش خزائنهم ولا يتشددون في مراقبتهم...فالتركيز كله على مفكر ومناضل سياسي عنيد مثل علي عزت.ومع ذلك كان المؤلف يستخدم رموزاً"شيفرة" ابتكرها لنفسه لتدوين الكلمات الأشد حساسية ومنها:الإسلام-الشيوعية –الحرية – السلطة-...

لم يدون الرجل ملاحظات في السنة الأولى التي قضاها وراء القضبان بسبب التحقيقات والمحاكمات والتأقلم مع المحنة.              

 

بلغ عدد الملاحظات 3676  ملاحظة موزعة على ستة  فصول،هي:
1-    عن الحياة والناس والحرية 78 صفحة
2-    عن الدين والأخلاق  35 صفحة
3-    ملاحظات سياسية  115 صفحة
4-    على هامش كتاب الإسلام بين الشرق والغرب 109 صفحات
5-    الشيوعية والنازية بعض الحقائق التي لا يجوز نسيانها 35 صفحة
6-    ملاحظات عن الإسلام 36 صفحة

 

وفي الختام  ملحق تضمن  رسائل من أولاد بيجوفيتش التي أرسلوها إليه في محبسه.والجدير بالذكر أن الملاحظات تأتي في الكتاب بحسب موضوعها وليس وفقاً لترقيمها.

 

من ملاحظات المؤلف في الفصل الأول :ليس عندي كراهية ولكن عندي مرارة،وملاحظة أخرى عن عنصرية هيجل في كتابه الشهير (فلسفة التاريخ) ضد الزنوج والهنود، وثالثة قال فيها:الصاحي مضحك بين السكارى فلأنهم أكثرية  يحددون ما هو الطبيعي هنا.

 

وملاحظة فكرية عميقة تقول:وحده الذي يسأل يحصل على الجواب، ويكتب علي عزت عن الصيام ليس كفريضة دينية فحسب،  ولكن من  تجربته النفسية الخاصة مع الصيام في السجن،فعندما كان يأكل جيداً يشعر أن حالته أسوأ..

 

ومما جاء في هذا الفصل:
-ما دمت في السجن فالحرية هاجسك إلا إذا مرضت فإن الصحة تصبح شغلك الشاغل
-القراءة المُبَالَغُ فيها لا تجعلنا أذكياء
-الكلمة تكشف الحقيقة ولكن يمكن أن تُوظف لإخفائها

 

وبالرغم من رهافة حس بيجوفيتش فإنه  ينتصر للواقعية على الرومانسية في الأدب،لكنه يفاجئنا برأي غير متوقع من مثله فهو يفضل المثقف الفاسد على الغبي الطيب لأن الأول يمكنك توقع تصرفاته!!

 

كما يلتقط فكرة جميلة من كاتب آخر طلبوا منه أن ينصح الناس بكلمة واحدة فقال:لا تسكروا-لا تشربوا الخمر- وفسر لهم الكاتب نصيحته بأن الطبيب سوف يتحدث عن رزاياها الصحية وعالِم الاجتماع عن آثارها الوخيمة على استقرار الأسرة وتماسكها ولكن الجميع قد ينسون سبباً أهم من كل ذلك:هو تسببها في إهانة الكرامة الإنسانية فلا تتعاطوا الخمر حرصاً على كرامتكم ..وهنا يعلق المؤلف على قيمة تحريمها دينياً فالدين حتى لو لم يركز على الصحة والاجتماع فإنه لا يقبل بهدر كرامة الإنسان..

 

وينقل مقولة مخرج سينمائي:إن الإنسان يقرأ كثيراً إذا كان غنياً جداً أو فقيراً جداً،ليضيف بيغوفيتش:أو سجيناً!!
ويتبين من الملاحظات كلها بعامة مدى ثقافته وغزارة اطلاعه على الفلسفة والأدب العالميين.

 

ويصارحنا بأنه كان يرى في العقوبات البدنية إهانة للجنس البشري ثم رأى نماذج في السجن ممن يرفضون الندم والتوبة ويخططون للجريمة وهم في السجن حتى في فيلم شاهده السجناء عن مجرم رهيب يحاول اغتصاب طفلة كان أكثرهم يشجع المجرم ليكمل جريمته الشنيعة فيقول: كأن الله أدخلني السجن لأكتشف حكمته بألا يكون للسارق يد يسرق بها مجدداً!!

 

ويكشف الكاتب لنا ما ثبت لديه من أن في النفسية الغربية حتى الملحدة كراهية عميقة لمحمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم لمجرد نجاحه بينما يرون أن المسيح لم ينجح بحسب الصيغة الكنسية السائدة "فرية الصلب"!!

 

ومعاناته الشخصية وعذابات شعبه مع الشيوعية مسنودتين باطلاعه الواسع ورصده الموثق جعلتاه يقدم صورة شديدة القتامة –لكنها حقيقية ومنقولة عن مصادر من أهلها-لفظائع الشيوعية في روسيا والصين وأوربا الشرقية في حق الفرد والأقليات بخاصة ويوضح أن أوربا كانت  بين شر فيه أمل –الشيوعية- وشر بلا أمل –النازية- فاختارت الأولى ثم تبين لها بعد فوات الأوان وبثمن باهظ أن النظريتين كلتيهما كانتا شراً وكانتا بلا أمل.

 

وإذا للمؤلف عذره عندما يورد معنى آية قرآنية لأن القرآن الكريم لا تجوز –وتستحيل-ترجمته فما عذر المترجم عندما ينقل قول المؤلف  ص89 " لا تخافوا أيها الناس وأنا ربكم فاخشوني-القرآن-سورة المائدة"

 

وكان في وسع المترجم أن يعود إلى المعجم المفهرس-مثلما فعل مرات- ليورد نص الآية وهو: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة:3].