الشيخ القرضاوي وشهادة تاريخية للعلماء
25 رجب 1434
أمير سعيد

Amirsaid_r@

العلماء الحقيقيون علامات ومنائر في الطريق، تقتدي الأمة بسلوكهم، مثلما تهتدي بعلمهم.. يتفقون، ويختلفون، لكنهم يحفظون الأقدار ويلتمسون المعاذير؛ فأهل البيان وحملة المشاعل وعناوين العلم وشارات الهداية حين يختلفون؛ فلأنهم يتحرون الحق ويتلمسون آثاره، فإذا تبين لهم عكس ما يقولون، تراجعوا وبينوا، ولم تقف ذواتهم وقيمتهم ومكانتهم الكبيرة حائلاً بينهم وإبداء الحق، والاعتراف بالخطأ وإبداء الندم؛ فكثير من الناس لا قيمة لكلامه حين يؤيد، ولا قيمة له حين يندد، وحيث يتراجع لا يشعر به أحد، ولا يرى داعياً في الاعتراف بالتراجع، فمن ذا الذي سيذكر ما قلته ابتداءً، ولأي داع أذكر الناس بأخطائي، وذاكرة الشعوب قصيرة! لكن من يدرك قيمة كلامه، ويتحمل المسؤولية لا يبالي أن قيل تراجع فلان، ما دام سيحافظ على الأمانة الملقاة على عاتقه، ويلتزم بالميثاق المأخوذ عليه { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه }

قبل سنين، كانت الحرب قائمة بين "حزب الله" و"إسرائيل"، وحصلت فتنة بين الناس في فكرة تأييد الحزب ضد "إسرائيل" أو الاعتبار بأن هذه ليست معركتنا، ولا حاجة لأن نكون طرفاً فيها، ولقد جرى اختلاف واضح حينها بين رمزين كبيرين هما العلامتان ابن جبرين رحمه الله والقرضاوي حفظه الله، وحينها اتخذ الأخير موقفاً مؤيداً لـ"حزب الله" بخلاف الشيخ ابن جبرين.. وبعد عامين، (2008) كان علماء السعودية وفي صدارتهم الشيخ ابن جبرين رحمه الله يوقعون على بيان لنصرة الشيخ القرضاوي ضد حملة الشيعة عليه لرفضه محاولاتهم لنشر التشيع.

مرت السنون، وجلس الشيخ القرضاوي في مؤتمر لنصرة سوريا بالعاصمة القطرية يعترف بخطأ كان قد وقع فيه بمحاولته للتقريب بين المذاهب، (ويبين أنها ليست مذاهب بل فرق) وآخر في تأييد "حزب الله" الموالي لإيران، يصف الحزب صراحة بأنه "حزب الشيطان"، وبأن قائده "نصر الله" ما هو "نصر الطاغوت".. يقول: "دافعت والله عن ما يسمى حسن نصر الله وهو ليس نصر الله وإنما ينصر الشيطان الذي يسمي حزبه حزب الله وهو حزب الطاغوت وحزب الشيطان... هؤلاء يدافعون عن بشار الأسد"، ثم يدلي بشهادته التاريخية، قائلاً: "وقفت ضد المشايخ الكبار في السعودية (...) ويبدو أن جماعة المشايخ في السعودية كانوا أنضج مني وأبصر مني لأنهم عرفوا هؤلاء على حقيقتهم بأنهم ليسوا ناصحين للمسلمين، هم كذبة في قولهم إنهم يعملون لنصرة المسلمين".. إنه اعتراف شجاع من عالم له قصب السبق في مجالات أخرى كثيرة، وله اسهاماته الكبيرة التي لا تنكر، وهو نمط من الحديث يعلي صاحبه ويزيده رفعة.

إن العلاقة بين العلماء المسلمين هي علاقة تكاملية لا صراعية، ولا تندرج تحت حدود التنافس الدنيوي المذموم، وواجب الإنصاف ألا ينزل الناس فوق منازلهم ولا تحتها، فلكل قدره، ولكل فنه الذي لا يبارى فيه أو يتقنه، ويجوز لهذا أن يكون أنضج من ذاك في مسألة، وأخوه أعلم منه في أخرى، ولا يعني إذا أخطأ عالم في مسألة أن يردد البعض: "إن الفتنة إذا أقبلت عرفها العالم وانغمس فيها الدهماء، وإذا أدبرت علمها الدهماء"!؛ فإن العالم يبقى عالماً وإن جانبه الصواب في قضية ما..

ومرد الأمر إلى أن نفيد من هذا التصريح من الشيخ، ومن مثله مما قاله: "الشيعة يعدون العدة وينفقون المال من أجل تنفيذ مجازر في سوريا للفتك بأهل السنة".."لا أرضية مشتركة بين الجانبين لأن الإيرانيين وخصوصا المحافظين منهم يريدون أكل أهل السنة"... حافظ الأسد "ينتمي لطائفة أكفر من النصارى واليهود، كون أتباعها لا يقومون بأي شعيرة من شعائر الإسلام".
ووجه الإفادة الأول، أن ما قاله الشيخ وهو من يصنف على أنه أحد أقطاب "تيار الوسطية" يدخل في سياق علمائي عام، لا فرق فيه بين من يصنف "متشدداً" أو "وسطياً"، "إخوانياً" أو "سلفياً"، "أزهرياً" أو "مستقلاً".. إلى آخر تلك التصنيفات التي يطلقها البعض على هذا العالم أو ذاك، بحق أو بدون، فالجميع يردد الآن ما قاله ابن تيمية وغيره عن الطائفة العلوية (النصيرية)، والجميع هنا يشدد على باطنية النظام الإيراني وخبثه وخداعه، وإن هذا الإجماع أو شبه الإجماع، ينبغي أن يبنى عليه، ويؤسس عليه في عزل تلك الفرق عن سائر الأمة، وعدم السماح لها بأن تتسلل خادعة لقطاعات شعبية وجماهيرية في الأمة الإسلامية؛ إذ الرأي فيهم ليس بدعاً ولا خلافاً بل يكاد يكون فيه اتفاق.

ووجهها الثاني، أن تلك التصريحات المهمة تعيد البريق لفكرة التحليل العقدي للأحداث، وتنسف حجج من يستبعدها، إذ تظل تجمع أنصاراً لها، فضلاً عن أن الأحداث ذاتها تؤيدها وتبرهن على صدقيتها وتأثيرها، وضرورة الأخذ بها كإحدى أهم أدوات التحليل السياسي العلمية الحقيقية.

ووجهها الثالث، أن تلك الشهادة تمهد أكثر لتقريب وجهات النظر بين العلماء بعد زوال واحدة من العوائق التي كانت تعترض هذا التقارب، وهي الموقف من بعض الطوائف المنحرفة، وتفتح المجال نحو التفكير في إعادة النظر في تركيبة بعض الهيئات العلمائية التي يحمل عضويتها بعض مراجع تلك الطوائف.

ووجهها الرابع، أنها تضرب مثلاً جيداً يتوجب أن يحتذى متى رأى العالم رجحان قول غيره على رأيه، أو صواب غيره وخطئه هو؛ فالواقع أن الشيخ القرضاوي ليس المخطئ الوحيد، وليس عليه أن يعود وحده عن آرائه الخاطئة، مستمسكاً بتلك الشجاعة.

ثم في النهاية، جدير بمن يعتبر الشيخ مرجعاً علمياً له، ممن يتعاطون السياسة، ويوازنون بين الحسابات، ويرتبون الأولويات ويشكلون التحالفات، أن ينظروا لهذه التصريحات التاريخية بعين الاعتبار والتبصر والتدقيق، وألا يغفلوا أنها خرجت من عقل بصير عركته الحوادث، وخبر الحياة، وخاض غمار العلم منذ عقود طويلة، وخلص إلى ما خلص إليه عن تجربة عميقة، ليست بعيدة عن أعماق السياسة ودقائقها.