على مدى ستة عقود ظلت الثقافة المصرية أسيرة لون فكري أحادي مفروض بغلبة القوة، ما جعلها تمارس إقصاء ضد غيرها من التيارات والأفكار، وكان ضحيتها في ذلك التيار الإسلامي، الذي ظل يتعرض للإقصاء نفسه حتى بعد ثورة 25 يناير2011م، وبالرغم من صعود الإسلاميين إلى سدة الحكم، إلى أن كان التعديل الحكومي مطلع شهر مايو 2013 بإجراء أول تغيير من نوعه في وزارة الثقافة، والدفع بشخصية راغبة في التطهير والتطوير، هو الدكتور علاء عبد العزيز.
مع البدايات الأولى لتولي عبد العزيز منصبه شعر التيار الإقصائي بخطورة ما قد يتعرض له، فبادره بحملات للتشويه والتشهير بهذا الوزير، وأمثال هذه النوعية من الحملات لاتبدو مباشرة تدافع عن مصالحها وأهدافها، بقدر ما تحرص على أن تغلف الدافع عن مصالحها وأهدافها، ولذلك أخفت غاياتها السيئة وراء شعار رفض "أخونة الثقافة"، وهو المصطلح الذي عادة ما تلجا إليه مثل هذه التيارات، عندما تجد أن مصالحها باتت مهددة ، أو أن التغيير يمكن أن يصيبها، دون أن تكون له دوافع حقيقية، إذ إنهم شنوا هجومهم الظالم على عبد العزيز الذي لم يكد يمر على توليه منصبه عدة ساعات حتى صدر مثل هذا التوصيف بأنه سيعمل على "أخونة الثقافة"، في إشارة إلى جماعة الإخوان المسلمين، على الرغم من أن الرجل صرح مراراً وتكراراً بأنه لا ينتمي إلى الجماعة أو حزبها، وأن له اتجاهاً آخر من خلال عضويته في حزب التوحيد العربي، تحت التأسيس.
أول القرارات التي كانت صادمة للجيل المسيطر على الوزارة، هو إقصاء رئيس هيئة الكُتّاب أحمد مجاهد، بإنهاء ندبه وإعادته إلى عمله بجامعة عين شمس، ولمن لا يعرف مجاهد فهو من قيادات الحزب الوطني المنحل، الحاكم السابق، وكان نظام المخلوع يهيئه لكي يخلف فاروق حسني، الذي قضى في منصبه قرابة 23 عاماً.وظل مجاهد يتدرج في الوزارة من رئاسة هيئة قصور الثقافة إلى أن تولى رئاسة هيئة الكتاب منتدباً من جامعته، منذ أكثر من ستة أعوام، حالماً بأن يسطو على المنصب الوزاري ، ولو على سبيل الشائعات، غير أن هذا كله لم يحدث، فلما وجد نفسه خارج دائرة شائعات التعديل الوزاري، وأن حقيبة الثقافة تولاها غيره - د.علاء عبد العزيز - جن جنونه، فهدد بالاعتصام في منزله بدعوى أن الاختيار غير موفق، وأن هناك اتجاهاً لما يسمى بـ"أخونة الثقافة".
وبدعوى المصطلح السابق جرى تسيير الوقفات الاحتجاجية وتنظيم المؤتمرات الصحافية، والمؤتمرات النخبوية ، على الرغم من أن وزير الثقافة الجديد لم يدفع بأي عناصر إسلامية داخل الوزارة، حتى إن بديل مجاهد كان هو الدكتور جمال التلاوي، وهو نائب رئيس اتحاد كتاب مصر ، وأحد المثقفين المعروفين بعدم انتمائهم لجماعة الإخوان.
غير أن جيل اليسار المسيطر على الوزارة لم يعجبه ذلك مطلقاً، إذ استشعر أن هنا خطراً محدقاً يهدده. وهو خطر استشعره عندما أصدر الوزير الجديد قراره بتجميد مكافآت قيادات الوزارة والمقدرة بنحو مليوني جنيه في العام، وتصريحاته بأنه لن يتستر على الفساد، وأن من أراد الاستقالة فعليه أن يبلغه بها فوراً حتى يوافق عليها، فضلاً عن تصريحاته بأنه يتعامل مع جميع التيارات الفكرية على درجة سواء.
هنا استشعر القوم أن لهجة ما قد تغيرت في خطاب وزير الثقافة ، إذ لم يعتادوا على مثل هذه التصريحات من قبل وزراء الثقافة السابقين، وكعادة القوى المناوئة للتيار الإسلامي فقد أعلنت تضامنها مع القيادات المضارة في الوزارة، وكانت حجتها هى التصدي لـ"أخونة الثقافة". فقط عندما استشعروا أن هناك خطوات لتحرير الثقافة المصرية، وأنها سوف تسير في منحى منفتح على الجميع بعكس ما كانت عليه، فمزايا "الثقافة" وحضور المؤتمرات ونشر المؤلفات لن تكون قاصرة بعد اليوم على قوى اليسار، باعتبار الثقافة معبرة عن سائر أطياف المجتمع.
والعجيب المتناقض في خطاب اليسار ذاته، أنه في الوقت الذي يطالب فيه بإقصاء الإسلاميين، فإنه في الوقت نفسه لا يقبل بمقولة أنه يهيمن على مفاصل الوزارة، على الرغم من أن شاهداً واحداً يكفي للجزم بذلك، وهو عضوية المجلس الأعلى للثقافة، الذي يزيد عدد أعضائه على 500 عضو، جميعهم من خارج التيار الإسلامي. وعلى الرغم من تعدد لجان هذه المجلس فليس فيه لجنة للتوعية الدينية، فضلاً عن أن اختيار الأعضاء كان يتم حسب التوجه الفكري، دون الاعتبار المهني والقدرة الثقافية والعطاء الفكري.
كل ذلك ، يؤكد أنه آن الأوان أن يطرق وزير الثقافة الجديد أوكار الفساد المالي والإداري والفكري داخل وزارته، وعليه أن يطرقه ساخناً، دون خوف أو وجل، وسوف يسجل له التاريخ أنه أول وزير للثقافة حاول أن يصحح ميزان هذه الوزارة، ويجعلها وزارة بحق تضخ فكراً وثقافة صحيحين، بعيدين عن العشوائية التي تضخها أو السموم التي تنفثها، ما يجعلها خطوات على أعتاب تحرير الوزارة بعدما كانت أسيرة لأفكار بالية وأدوات فاسدة وعناصر مهترئة..