قراءة في كتاب (رجب طيب أردغان، قصة زعيم)
12 جمادى الثانية 1434
د. محمد العبدة

عندما أنهيت قراءة هذا الكتاب، كان واضحاً أمامي أننا أمام زعيم سياسي امتلك أدوات الزعامة والرئاسة، وأتحدث هنا عن شخصية قائد ولا أتحدث عن حزب العدالة والتنمية، وما هي برامجه؟ وهل هو حزب إسلامي أم وطني؟ وهل حقق أهدافه أم لا، وهل عنده برامج لم يحققها...

 

ولا أتحدث عن أفكار أردغان التي قد نوافقه عليها أو نخالفه، والحديث في السياسة والزعامة كثر هذه الأيام بعد الثورات العربية، وكثر الحديث عن (الحرية) و(الديموقراطية) و(والدولة ومسؤولياتها) وجاء هذا الكتاب في وقته ليتحدث عن زعيم كان مسؤولا عن شعبة استانبول في حزب الرفاه الذي يقوده نجم الدين أربكان، واستطاع أردغان من خلال هذه الشعبة أن يصل إلى رئاسة بلدية استانبول وحاول أن يقود الحزب كله بطريقة جديدة ولكن (أربكان) كان له رأي آخر..

 

من خلال الكتاب تظهر الصفات القيادية لأردغان، من خلال طريقة إدارته ومن خلال نظرته المستقبلية، وصلته بالمقربين منه، ونشاطه ودأبه وأخلاقه. ومن هذه الصفات:
1 - هو دائم المشورة مع فريقه الذي يعمل معه ولا ينفرد بالرأي. فهو دائما يعمل مع فريقه أو يكلف لجنة لدراسة مشروع ما.
يقول أحد زملائه: "كان أردغان يحدثنا عن تطهير مياه خليج البوسفور بالفلاتر وأجهزة التقنية، وكنا نتعجب من قوله، ثم عرفنا أنه شكل مجموعة أكاديمية لدراسة عدد من مشكلات استانبول (هذا قبل أن يصبح رئيسا للبلدية) هي لجان متخصصة لدراسة احتياجات المدينة ومشاكلها، مشكلة المياه والبيوت العشوائية والصرف الصحي... إلخ

 

2 - هو دائب النشاط والعمل، يتصل بالناس ويزورهم ويجلس معهم متحدثا، ويأكل معهم خاصة على مائدة الإفطار في رمضان ومع الأسر الفقيرة خاصة وعندما رأى الفقر الشديد في أحد الأحياءوكان مقررا أن يتم هدم هذا الحي تراجع إشفاقا على هؤلاء المساكين. وهو لا ينسى أبداً أصدقاءه والذين ساعدوه، يعرفهم ويكلفهم حسب ما يتقنون، وعندما قال له أحدهم: إذا أصبحت رئيساً للوزراء فلن أراك، ولكن أردغان   عندما أصبح رئيسا للوزراء لمحه من بين الناس وناداه ليجلس معه.

 

3 - يمتلك عقلا سياسيا يدرك أبعاد الأمور، فعندما تحالف حزب الرفاه (وهو حزبه) في انتخابات 1991 مع حزب (الجبهة القومية) وحزب (الإصلاحيين الديمقراطيين) انزعجت شعبة استانبول برئاسته من هذا القرار، لأن حزب الرفاه يمتلك من الشعبية التي لا يحتاج فيها للاتفاق مع هذه الأحزاب التي لا تزيد الرفاه إلا انتقاصا من مكانته(1).

 

4 - لا يهتم بالشائعات والدعايات المضادة فبعد انتخابه رئيساً لبلدية استانبول بدأت الصحف تشن حربا إعلامية عليه وتنشر الشائعات والأكاذيب حول مشروعاته وطموحاته، فقال لفريق العمل معه: هل سنعمل أم سنسمع الشائعات؟!، من أهدر وقته في الاستماع للشائعات فسيظل مكانه، أما نحن فسنعمل: ستنساب في الصنابير المياه النظيفة.. لن يتنفس أهالي استانبول السموم.. لن تتسبب المواصلات في إتلاف الحالة المعنوية للمواطنين، ستنجو الآثار التاريخية والثقافية من أعمال السلب والنهب.
ولكن الحملة ضده لم تتوقف وبعد أربع سنوات من خدمة مدينة استانبول أبعد عن منصبه وأودع السجن، وفي السجن كانت تأتيه آلاف الرسائل تؤيده وتتعاطف معه، وكان يرد عليها جميعا وبخط يده.

 

5 - كانت المناقشات في شعبة الحزب في استانبول صريحة وفيها نقد إيجابي ولا أحد يمنعهم، يقول أحدهم "أسمع أن مرشحا من مرشحينا قام بزيارة للبطريركية وبابواتها، غير أنني لم أسمع قط أنه زار مفتي استانبول".
ويقول آخر: "بينما يرى بعض الأخوة أن إخواننا من ذوي اللحى والسراويل يمثلون عائقا أمام الدعوة، نراهم لا يرون حرجا في معانقة أحد المخمورين والمبالغة في ذلك، وفي بلديات (باي أوغلو) ترتدي الفتيات جيبات خليعة، لماذا نشعر بالخوف بينما يموت يساريون من أجل مبادئهم؟!(2)

 

6 – القائد يحترم إخوانه وزملاءه ولا يتدخل في كل صغيرة وكبيرة، ويترك لهم مجالا للتحرك ولإظهار جهودهم، بعد نجاح حزب العدالة والتنمية في انتخابات 2002 كلف عبدالله غول بتشكيل الحكومة، ورغم أن أردغان هو رئيس الحزب ولكنه كان ممنوعا من الترشح لمجلس الشعب، وبعد أن استلم عبدالله غول التكليف من رئيس الجمهورية اتجه نحو مقر الحزب "وكان أردغان جالسا بمفرده في مكتبه باديا عليه الضيق قال له مساعده: هل هناك ما يضايقك؟ قال لا ولكن لم تسمح الفرصة للتحدث مع السيد عبدالله بصراحة، وهو الآن عاكف على تشكيل الوزارة وهناك اسمان لا أجد انهما مناسبان، قلت له: يمكنك أن تقول ذلك بنفسك، قال لا ليس مناسبا الآن طالما هو (عبدالله غول) لم يسأل، فليس من المناسب أن أقول له شيئا على هذا النحو حتى لا يظن أنه تدخل مني في الأمر،فالأمر أمره، قلت لو تسمح لي أن أبلغه عن هذين الاسمين، قال بعد تردد: فليكن".

 

إنها أخلاق عالية وعلاقات أخوة وصداقة عالية، هو رئيس الحزب وبإمكانه أن يأمر عبدالله غول بشطب هذين الاسمين، وهذه الأخلاق هي التي تجعله شديد الاحترام لرئيسه (أربكان)فهولا يناديه إلا (يا أستاذي) رغم الخلاف في وجهات النظر والافتراق.

 

قصة الحزب الجديد

في السجن بدأ أردغان يفكر في إنشاء حزب جديد، فمن الواضح أن هناك خلافا مع القيادة في (أنقرة) ومع ذلك فإن أردغان كان على الاستعداد لقيادة حزب يخرج من رحم حزب الرفاه، وقد جرى استطلاع حول من يقود هذا الحزب الجديد فكانت النتيجة في صالح أردغان، ولكن الأستاذ أربكان كان رأيه أن يتولى الحزب الجديد الأستاذ (رجائي). يعلق أحدهم على هذا الاختيار "كان أربكان وقتها يبحث عن شخص تابع ينفذ ما يأمره به أكثر من شخص ينمّي الكيان الجديد ويطوره" ونحن هنا ننقل وجهة نظر مؤلف الكتاب ولم نسمع وجهة النظر الأخرى وجهة نظر (أربكان) ومن معه، ولكن ما يذكرانه عن أربكان رحمه الله نراه ونسمعه من زعماء في الجماعات الإسلامية في البلاد العربية، فهناك تشابه ربما يساعد على تصديق هذه الرواية، يقول أحدهم: "كان أستاذنا أربكان قائدا من دون قيادة حقيقية للحزب، كان يريد من الشباب أن يظلوا (شباباً) وفضل أن يبقيهم بعيداً عن اتخاذ القرار، حينما يقول أربكان في الاجتماعات: ليعبّر الجميع عن وجهات نظرهم فإن ذلك له ثلاثة تفسيرات: الأول أن يكون الشخص الذي سيتحدث يعلم وجهة نظر أربكان أو يتوقعها ويعبر عنها، الثاني أن يتحدث الشخص بعد أربكان ويكرر ما قاله في حديثه بصورة أخرى، وأما الثالث: ألا يتكلم الشخص نهائياً".

 

وفي جلسة مطولة عرض أحد المقربين من أردغان على الأستاذ أربكان أن يكون موجها ومرشدا لهم ويترك لهم الأمور السياسية، فقال له أربكان: هذا ليس من سياستنا.

لهذه الأسباب ولأسباب أخرى هي في عمق التحرك السياسي والاجتماعي أنشئ حزب العدالة والتنمية.

 

كان أردغان واضحا في تحديد أهدافه التي يريد تحقيقها، فهو يقول: "نريد أن نصل بوطننا وأمتنا في مجالات الاقتصاد والصحة والتعليم وحقوق الإنسان والتكنولوجيا والدفاع والعلاقات الدولية بما يتناسب مع المرحلة التي نعيشها وبما يليق بها".

 

لا شك أن أردغان حقق كثيراً من هذه الأهداف برئاسته للوزارة أكثر من مرة ولكن هل يستطيع إبقاء تركيا موحدة قوية وهو يرى أن يتاح للتعدية تقوية نفسها بنفسها، وكلما عبرت الهويات عن نفسها أدى ذلك إلى إمكانية الحوار، ولكن ألا يخشى أن تكون التعددية الدينية والإثنية مسرحا لمشاريع فئوية صغيرة، وتكون الديمقراطية الرخوة سببا في ذلك ويبقى السؤال هل بعد تحقيق هذه الأهداف التي هي لخدمة الأمة أهداف أخرى؟

 

______________________

(1) يذكرنا هذا ببعض الأحزاب الإسلامية التي لا تدرك أهميتها والتفاف الناس حولها
(2) أليست هذه الهزيمة النفسية موجودة حتى الآن بين صفوف بعض الإسلاميين؟!