الاسلام والديمقراطية: مصر مثالا
4 جمادى الثانية 1434
أحمد عجاج

عندما حرق المواطن التونسي محمد البوعزيزي نفسه في 17 ديسمبر 2011، وبالتحديد في يوم الجمعة، وهو يوم مقدس عند المسلمين، احتجاجا على الظلم، وعلى الياس من الحياة، لم يكن يدري بخلده انه بفعله هذا، المحرم شرعا، سيطلق شرارة الاحتجاج، وسيغير خارطة العالم العربي. لقد ولى رئيس تونس هاربا، وتخلى الرئيس المصري حسني مبارك قسرا عن السلطة، ولاقى القذافي حتفه، وخرج الرئيس اليمني مجبرا من الحكم، ولا يزال مصير الرئيس السوري معلقا، ولكن لا احد يشك بأن لحظة مغادرته لكرسي الحكم بات وشيكة.

 

 

عالم عربي تغير، وسيبقى يتغير، لأن رياح التغيير هبت، ولا يمكن لعاصفة ان تهدأ قبل ان تقتلع كل الاشجار التي ليس لها جذور في الارض، وتطيح بالتالي بكل الانظمة التي لا سند لها من الشعب؛ تغير العالم العربي، وخرجت الجموع تطالب لأول مرة ليس بالوحدة العربية، ولا بعودة الاسلام، إنما بالحرية والديمقراطية والمساواة، والعيش الرغيد. هذه المطالب فسرها كثيرون في الغرب، وفي العالم العربي من المثقفين العلمانيين، على انها تطور نوعي في الفهم، وعقلانية متميزة في فهم المعاصرة والحداثة؛ فالشعوب فهمت اخيرا ان تحقيق مطالب الحرية، والعدالة، والشفافية، والرفاهية الاقتصادية، لا يكون إلا بالنظر الى تجارب الامم، واقتباسها؛ والديمقراطية هي اهم تجربة انسانية عرفتها البشرية، ولذلك هتفت تطالب بها الجموع العربية. لكن المفاجأة كانت في صناديق الاقتراع؛ اختارت الجموع العربية، بحرية، ودونما ارغام، من يمثلون الحل الاسلامي، وتركت من يؤمنون بالديمقراطية ( العلمانيون)؛ مفارقة اذهلت المؤمنين بالديمقراطية في بلاد العرب، واحزنت الهاتفين لها في بلاد الغرب. كان هؤلاء يظنون ان الجموع العربية لا تريد الاسلام، وان مطالبتها بالديمقراطية كان انتصارا لمفهوم الحداثة حسب تفسيره العلماني.

 

السؤال: لماذا هذا التضارب، وكيف حدث هذا الانقلاب؟ ان الجواب البسيط على هذه المعادلة المربكة لتلك الفئات الرافضة للحل الاسلامي، يكمن في ان الاسلام لا يزال متجذرا في نفسيات، وعقليات، ووجدان الجموع العربية المسلمة، وان المطالبة بالديمقراطية لا يعني التخلي عن الاسلام؛ فالديمقراطية، كما فهمها المسلمون العرب الذين اصطفوا وراء صناديق الاقتراع، كانت تعني لهم عملية ادارية بحتة، يختارون من خلالها من يرونه الافضل لحكمهم، والاقدر على تجسيد رؤاهم، وتطلعاتهم، وقيمهم، ورفاهيتهم، ولم يكونوا يعتقدون، للحظة، انها منظومة فكرية تستند الى حذف دور الدين، بما يحمله من قيم، ورؤى، واحكام، ويسجده من عدل، كما يفهمها العلمانيون في بلادنا. الديمقراطية بالنسبة لتلك الجموع كانت وسيلة لإعادة من تراه الافضل لتجسيد ما تؤمن به، ولمن تراه الافضل من حيث الالتزام، والنزاهة، والقدرة، والشفافية، ونظافة اليد؛ لم تكن تلك الجموع تؤمن بأن الديمقراطية تعني ابعاد الدين عن السلطة، ولم تكن تعتقد ان ثمة تضارب بين الدين والديمقراطية.

 

كان ممكنا للعملية الديمقراطية ان تسير في بلادنا، بسلاسة، كما تسير في بلاد الغرب، لو لم يرتكب قادة الحركات الاسلامية غلطة العمر؛ فالغرب لا ينبذ الدين، كما يظن كثيرون، ولا يبعده عن السلطة؛ بل ان الدين هو جزء من منظومة المجتمع، ولرجال الدين دور مهم، وفاعل، في توجيه دفة الحياة السياسية، ولهم مواقف حازمة، عندما يرون ان السلطة انحرفت، او سارت في وجهة خاطئة؛ ومن يريد ان يتزود اكثر، فلينظر الى ام الديمقراطية ( بريطانيا) ليرى كيف يلعب رجال الدين دورا فاعلا، وكيف يمثلون شعوبهم في مجلس اللوردات، وعبر الكنائس، وجماعات الضغط؛ فالدين المسيحي هو بذاته من نأى بنفسه عن العمل السياسي المباشر، واختار ان يوجه الدفة من الخلف، لأنه دين يتميز بمبدأ قاله المسيح عليه السلام (حسبما يعتقد اهل هذا الدين) دعوا لقيصر ما  لقيصر، وما لله لله؛ أما الدين الاسلامي فأختار الدخول في معترك الحياة السياسية لأنه يرى ان نظامه السياسي هو الاصلح، ولأنه يريد ان يحقق الحرية، والعدالة، والشفافية، والمساواة، والخير العام ليس فقط للمسلمين بل للبشرية جمعاء.

 

هذا التفاوت في رؤية الدينين له اكبر الاثر في نجاح الديمقراطية في الغرب، وسيكون له اثر في نجاح الديمقراطية في عالم العرب، والاسلام؛ لكن المشكلة تكمن في متزعمي الحركات الاسلامية الذين اختاروا سياسة التعمية، كوسيلة، للوصول الى السلطة، وارتضوا اللعب بالمبادئ، وتحريف الواقع، كي يتجاوزا قطوعات صعبة في مسار الحكم؛ بمعنى آخر ان قادة الحركة الاسلامية لم يصارحوا شعوبهم بالحقيقة، ولم يقولوا لهم انهم يريدون تطبيق الاسلام، بل قالوا كلاما يمكن ان يفسره كل شخص بما يحلو له؛ فهؤلاء القادة مع الديمقراطية التي تحتكم الى صناديق الاقتراع، ومع ما يريده الشعب، ومع ما يريده الله، ومع ما يريده العالم الخارجي، ومع كل شيء؛ وهذا امر لا يمكن لبشر ان يقدروا عليه، ولذلك كان ارتطامهم بصخرة الواقع، وادخالهم البلاد في دوامة لا تنتهي. هؤلاء القادة طوعوا فهمهم للإسلام ولم يطوعوا الديمقراطية لتخضع لقيم الاسلام، وتقبل بمرجعيته؛
لقد حاول هؤلاء القادة ، ولنأخذ مصر مثالا، ان يمارسوا العملية الديمقراطية وكأنهم يعيشون في بريطانيا ام الديمقراطية؛ فتحدثوا عن الوحدة الوطنية بمفهومها الحداثي، وتناولوا الاسلام من باب الموائمة مع العصر، وقبلوا بأن يكون الشعب هو الحكم على كل شيء، وتنازلوا عن كثير من المسلمات، ولعبوا اللعبة السياسية بكل ابعادها؛ وبالمقابل رأى كثيرون، إن لم نقل كل العلمانيين، والحداثيين، ان ما يقوله هؤلاء الاسلاميون، ليس إلا من باب المواربة، والتقية، وانهم سينقضون على الديمقراطية حالما تسنح لهم الفرصة؛ النتيجة ان هؤلاء الاسلاميين خسروا اكثرية شارعهم الاسلامي، وخسروا  العلمانيين الذين ظنوا ظن السوء بهذه المناورة؛ ولو ان هؤلاء الاسلاميين قالوا الصدق، وطرحوا برنامجهم كما يرونه، وكما يعتقدون، لكان افضل بكثير، ولأمكنهم القتال سياسيا على كل الجبهات وتحقيق انتصارات. لكنهم بإخضاعهم الاسلام لمتطلبات الديمقراطية، فوتوا على انفسهم فرصة تاريخية طال انتظارها.

 

قد يقول قائل منهم ان الديمقراطية لا تتعارض مع الاسلام، وانه بالإمكان التعايش معها، لكن القول شيء والاثبات شيء آخر. إن الديمقراطية، رغم بريقها، هي في جوهرها مفهوم بشري تطور منذ العهد الاثيني، ومر بالعهد الروماني، وتعدل في العهد الجمهوري الايطالي في القرن الحادي عشر، وتغير في العهد الملكي منذ القرن الخامس عشر وحتى بداية القرن العشرين، ليستقر الامر على نظام ديمقراطي نراه امام اعيننا في بلاد الغرب.

 

خلال هذا التطور التاريخي لهذا المفهوم الديمقراطي خضعت الديمقراطية لتعديلات وتغيرات لكنها كانت تتم وفق اطار الثقافة الجامعة وهي ثقافة دينية بامتياز، وثقافة تتطور وفق مفهوم الدين المسيحي، وتتبادل الادوار معه سواء كان هذا التقلب غلبة للثقافة او غلبة للدين. هذا الدين المسيحي لا يعارض هذا التغير، لا بل ان الكنيسة، خلال المراحل التاريخية، قبلت به، وعدلته، ورأت ان من مصلحة الدين، ومصلحتها كمؤسسة دنيوية أن ترعى التغير، وترسم اطار العمل السياسي، ولكن من خلال مشاركة غير مباشرة، ووفق القاعدة التي قالها المسيح بأن الكنيسة ينحصر اهتمامها بشؤون الآخرة، وتنحصر الشؤون الدنيوية بالسلطة السياسية التي تعمل وفق آليات، وتنظيمات، وافق عليها الجميع بمن فيهم الكنيسة.

 

هذا الواقع الديمقراطي لا يمكن ان يُطوع الاسلام لقبوله؛ فالدين الاسلامي له منظوره الخاص، وتصوره للسياسة، والحياة الاجتماعية، والاقتصادية، ولا يمكن لأحد، سواء سلطة دينية او غيرها، ان تضع تصورا يخالف هذا المنطق. فالديمقراطية، كمفهوم، وليس كآلية، لا يمكن ان تعيش في وئام مع الاسلام، لأن تصور كل منهما يخالف الآخر؛ فالديمقراطية في جوهرها تدع الشعب، بأكثريته، ان يقرر ما يشاء، ويرغب به، بينما الاسلام، ببساطة، يرفض هذا المنطق، ولا يقبل إلا ان تكون له الكلمة العليا؛ وهكذا فإن هذه اللعبة السياسية، التي دخل بها قادة الحركات الاسلامية،  حتى ولو كانوا مخلصين، ستقودهم الى المبارزة الفاصلة: إما ان يقبلوا بتطويع الاسلام، او يتراجعوا ويرفضون ما قبلوه؛ وهم عندما يفعلون ذلك يكونوا قد ضيعوا الفرصة، وادخلوا البلاد في دوامة لن تسلم منها. 

 

لقد نسي هؤلاء القادة قاعدة هامة، وعلى عكس ما هو شائع، في العمل السياسي وهو الثبات على المبدأ؛ وتناسوا ما فعله رسولهم الكريم محمد بن عبد الله عندما عرضت عليه قريش ان يتنازل، ويقبل بالاعتراف بآلهتها المزورة مقابل اعترافهم بربه، فكانت قولته المشهورة بأنه لن يفعل ولو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في يساره؛ ولكن، للأسف، لم يصمد هؤلاء القادة الجدد، امام بريق السلطة، فتنازلوا، وقد كان الاجدى بهم طرح مبادئهم، واهدافهم، وليدعوا الناس بعدها تختار ما تريد؛ فإن اختاروا الدين يحمل الاسلاميون هذه الامانة، وإن اختاروا الديمقراطية سيعرفون، عاجلا ام آجلا، انها ستفشل، كما  فشلت نظريات قبلها في عالمنا العربي.