تمهيد:
تعد الاستراتيجية الإيرانية في تصدير عقيدتها باسم "تصدير الثورة" للدول الإسلامية محل نظر العديد من الدراسات والأبحاث والمقالات، وذلك لأهمية ما تتركه هذه العملية من تأثير على الأمة الإسلامية من الناحية العقدية والسياسية، ولذا لن تزعم تلك الدراسة أنها تحقق سبقاً في مجال مطروق بالدراسة، لكنها قد تكون معنية أكثر بملاحظة الآثار المترتبة على عملية التشييع المستمرة، وعلى قياس صعودها وهبوطها، وتحاول أن تقرأ مشهد الدعوة للتشييع من زاوية الاستراتيجية التي لا تبدو عشوائية في اختيار دول بعينها للتشييع، والإجابة عن تساؤلات قد تطرأ على الأذهان من قبيل: هل تنطلق دعوة التشيع من رؤية سياسية واضحة؟ ما هي أهم الدول التي ينشط فيها الشيعة دعوياً؟ لماذا وقع اختيارهم على تلك الدول بالذات؟ كيف تخدم دعوة التشيع السياسة الإيرانية الخارجية؟ ما هي أهم الأدوات والوسائل المستخدمة في التشييع؟ لماذا وقعت بعض شعوب الدول السنية تحت التأثير التشييعي بأكثر من غيرها؟ كيف تواجَه تلك السياسة الإيرانية؟ ..
أهم الدول التي يستهدفها التشييع الممنهج:
في هذه الدراسة نلحظ أن عملية التشييع التي ترعاها طهران والمدن الرئيسة ذات القداسة لدى الشيعة الإمامية في إيران والعراق والتي تعد في الوقت عينه محل الدوائر التأثيرية في صناعة قرار الانتشار الشيعي في العالم لا تتم بشكل عشوائي أو تنطلق من أهداف تنطلق من خلفية دينية محضة ـ إن جاز التعبير ـ بمعنى أنها ليست مأخوذة فقط إلى الرغبة في رضا الله سبحانه بحمل المسلمين على "الاستبصار" ـ أي التشيع وفقاً للتسمية الإمامية الحديثة ـ واعتناق "مذهب آل البيت" وبالتالي الانخراط في صفوف "الطائعين المؤمنين" فحسب، وإنما يبدو الدافع السياسي والقومي الفارسي جلياً في تحريك البيادق "التبشيرية" حول العالم طبقاً لخطة دقيقة تحتفظ بطموحات تتجاوز بكثير "هداية الحيارى" وترمي إلى تحقيق سيادة واضحة للفكرة الشيعية الرافد المتاح لإحياء الفارسية التي غيب الإسلام إمبراطوريتها المجوسية قبل 14 قرناً، حيث لم يعد متاحاً إلا اتخاذ التشيع ونشره لجة للعبور إلى شاطئ السيادة الامبراطورية.
لا غرو إذن أن يكون اختيار المناطق التي يحظى التشييع فيها بجهد مضاعف مبني على أسس سياسية واقتصادية خادمة للحلم الإمبراطوري أكثر من كونه استهدافاً "روحياً" و"عظات دينية" و"دعوة مجردة من حظوظ الدنيا"، بما أمكن تفصيله في فقرات أخرى من هذه الدراسة، لكن ما يتوجب النظر إليه بعين مبصرة، هو تلك الدول التي ـ كما سلف ـ وفرت لها ماكينة التشييع العالمية دعماً أكبر واهتماماً فريداً عن غيرها من خارطة الاستهداف، ومن بينها تلك الدول التالية:
إيران:
تأخذ عملية التشييع الجارية في إيران طابعاً مختلفاً عن غيرها في سائر البلدان السنية ـ باستثناء العراق نوعاً ما ـ تتميز به عن الأخريات باتسامها بالنمط القسري للتشييع والذي يتراجع فيه الشكل "التبشيري" مقارنة بالأسلوب القهري المبني على حرمان المسلمين السنة من حقوقهم الأساسية لاسيما ما يتعلق بالشعائر الدينية لإفساح المجال لنشر التشييع في أوساطهم.
ولعل السياسة التشييعية في إيران تختلف عن غيرها من البلدان في العالم الإسلامي الذي ينشط فيه أنصار الثورة الخمينية وعقيدتها الإمامية في كونها تعنى بتأمين الجبهة الداخلية للدولة الأولى الحاضنة والمسؤولة عن الشيعة في العالم، حيث تدرك الأوساط الشيعية صاحبة التأثير في القرارات الإدارية في الدولة الإيرانية أن ترك الأقليات غير الشيعية آمنة على دينها الإسلامي وسنيتها مدعاة لانتشار التسنن في القومية الفارسية وغيرها بما يهدد تماسك الدولة الإيرانية في ثوبها الطائفي الراهن.
وما يرشح من الأنباء الشحيحة الواردة من الداخل الإيراني يشي بأن طهران لديها رهاب كبير من انتشار التسنن بين الأقليات الشيعية غير الفارسية علاوة على ازدياد وعي السنة في إيران بضرورة مباشرة دور أكبر في الدفاع عن حقوقهم الدينية والمعيشية السليبة، ومن تلك الأنباء التي تصل أصداؤها خارج إيران ما تؤكده أوساط أحوازية كثيرة، بعضها أفاد بشكل مباشر بأن الدعوة للتسنن آخذة في التصاعد بشكل هائل في أوساط الأحوازيين من الشيعة الإمامية العربية التي تعاني من اضطهاد إثني وجهوي مستمر.
ويعكس ما تقدم، إقدام النظام الإيراني على "افتتاح أكبر وأضخم مدرسة لنشر التشيع في مدينة المحمرة العربية بالأحواز المحتلة"(1) ، في مقابل قيامه "باقتحام مسجد الإمام الشافعي الواقع في قصبة النصار بالقرب من مدينة عبادان، وهو آخر مسجد لأهل السنة في الأحواز بعد أن دمر الاحتلال الفارسي جميع المساجد"(2).
عشرات الآلاف عادوا إلى خطهم الإسلامي النقي (السني) في مناطق الأحواز، والبعض يقدرهم بنحو مليون أحوازي، وثمة صحوة في إقليم سيستان بلوشستان السني، حديا بالسلطات الإيرانية إلى الدفع بما قال المصدر السابق ذاته "بآلاف من العلماء والدعاة لنشر التشيع في الأحواز وذلك بعد انتشار دخول الأحوازيين في مذهب أهل السنة"، وإلى أن "تنفق الملايين من الدولارات وتؤسس أماكن سكن لهؤلاء الدعاة"(3)، علاوة على "بناء آلاف المستوطنات و جلب آلاف العائلات من الفرس و إسكانهم و توفير فرص عمل لهم في الأحواز"(4).
والأمر ذاته ينسحب على أقاليم ومناطق كردستان وخراسان وهرمزكان حيث تمارس سياسة التشييع تحت طائلة القهر والتهجير القسري للسنة والاستيطان الشيعي في مناطق السنة، وتحديد النسل للسنة والإفقار المتعمد بما يفضي إلى إضعاف السنة والتسنن ودعم الشيعة في مناطق السنة والتشجيع على التشيع ولو تحت ضغط الحاجة والخروج من دائرة الاضطهاد(5).
إندونيسيا:
مثلما اتجهت الولايات المتحدة إلى أطراف العالم الإسلامي، لاسيما إندونيسيا(6)؛ فإن إيران فعلت الشيء ذاته باهتمامها بهذا البلد الإسلامي الأكبر من حيث الكثافة السكانية، وعمدت إلى إرسال دعاة شيعة إليها وتحديداً في مناطق لامبوننج، وبسولاويسي جنوب الشرقية، وبونجيت جاكرتا، وبينجكولو، وسومطرة الجنوبية، والشمالية، وكاليمانتان الغربية، وغيرها، وابتعاث الطلبة إلى إيران لتغيير قناعاتهم، و"نشر الكتب التي تروج للمذهب الشيعي مثل كتاب المراجعات وليالي بشاور وقد طبع منها أكثر من مليون نسخة باللغة الاندونيسية"(7)، والانتشار المقنن في جامعات مختلفة مثل الجامعة الإسلامية الحكومية، وجامعة المحمدية ، وجامعة مالاحياتي باندر لامبونج، وجامعة 19 نوفيمبر بمدينة كولاكا وجامعة لاكي ديندي بكوناوي.
كما تعمل الجمعيات الطلابية الشيعية على نشر التشيع من خلال الندوات والدورات، وتوزيع المجلات مثل مجلة القدس وغيرها، والكتب التي تتحدث عن مناظرات شيعية سنية مختلقة.
والواقع أن الأثر الذي تركه التشييع عميقاً في التربة الإندونيسية حيث تتحدث بعض المصادر عن ملايين قد تشيعوا في أرخبيل إندونيسيا ما سيكون له انعكاسه الكبير على المنطقة لاسيما أن التغيير الأيديولوجي للمسلمين يقوم به إلى جوار الشيعة فريق مدرب من الليبراليين العرب هناك.
السودان:
"العمل الشيعي في السودان بدأ بالمنح للدراسة في طهران ثم تطور إلى ما يعرف بالمراكز الثقافية الإيرانية وبعد ذلك أنشأت السفارة الإيرانية جمعية الصداقة الإيرانية السودانية. وأصبح للشيعة في السودان العديد من المراكز الرسمية سوى المراكز السابقة مثل المكتبات العامة والمدارس والمعاهد وبعض المؤسسات الاقتصادية وهذا كله تحت مظلة القانون"(8).
والواقع أن السودان احتل مكانة هامة لدى مخططي تصدير الثورة الإيرانية كمعبر بالغ الأهمية لاختراق إفريقيا ونشر أي أيديولوجية فيها، حتى قبل أن يلجأ الزعيم السوداني حسن الترابي إلى إيران لفك حصار ضربه نظام كلينتون الأمريكي.
ومظاهر التشييع في السودان انطلقت من المراكز الثقافية الآنفة الذكر إلى إنشاء العديد العديد من المدارس التعليمية الشيعية كمدارس الإمام علي بن أبي طالب الثانوية للبنين، والجيل الإسلامي لمرحلة الأساسي، وبنين فاطمة الزهراء لمرحلة الأساس للبنات، والمعاهد العلمية، والحسينيات، ونشر التشيع في الجامعة الإسلامية، وإقامة العديد من المكتبات والمشاركة بكثافة في المعارض السودانية للكتاب، وإرسال بعثات تعليمية لإيران وما إلى ذلك.
وبرغم تحقيق عملية التشييع نجاحات ملموسة في الفترات الماضية، إلا أن حد نشاطها قد تراجعت قليلاً إلى حد ما مع ازدياد الوعي الثقافي بمخاطر التشيع لدى السودانيين، لكن اتساع مساحة السودان تحرر كثيراً دعاة التشييع من القيود الرسمية وتمنحهم هامشاً واسعاً للتحرك بلا رقيب تقريباً لاسيما في المناطق النائية.
تركيا:
برغم أن معظم شيعية تركيا هم من النصيريين (العلويين) إلا أن خبرة الإيرانيين في التقارب مع نصيرية سوريا ونشر التشيع بينهم يمكن استنساخها ولو بقدر ما في تركيا، ولعل العلاقات الإيرانية/التركية الآخذة في التحسن مع اتخاذ أنقرة موقفاً متعاطفاً مع طهران في الأزمة النووية قد يمنح الأخيرة مساحة للتمدد الحذر، وكونه كذلك، نابع من أمرين، الأول هو التاريخ العثماني المستحضر والذي يجري التنقيب فيه حالياً في ظل حكومة العدالة والتنمية يستجلب معه الثارات التاريخية بين الخلافة العثمانية والدولة الصفوية(9)، والثاني يتعلق بالتباين بين شيعتي تركيا وإيران، فلقد "أدى المذهب العلوي المختلف عن الاثني عشرية السائدة في إيران إلى فجوة كبيرة بين الشيعة الأتراك وإيران، هذا بالإضافة إلى العامل الجغرافي السياسي والإثني، مما جعل الشيعة في تركيا مسألة تركية لا تشكل امتدادا سياسيا وأيديولوجياً لإيران كما هي الحال في أفغانستان والعراق على سبيل المثال." (10) بيد أن الخطورة تعود إلى النجاح النسبي الحاصل الآن على أرض الواقع فيما يخص عملية التشييع، والتي قد تقلب الموازين إذا ما نجحت إيران حقيقة في اختراق (العلويين) العلمانيين، والذين لكثير منهم تحفظاتهم على حكومة العدالة ذات الجذور الإسلامية.
اليمن:
التشيع الإمامي إثني العشري طارئ على اليمن لكنه الآن صاعد بقوة إثر نجاح الإمامية في اختراق النسيج الزيدي بشكل كبير، مع "الانفتاح الذي عاشه اليمن بعد تحقيق الوحدة سنة 1990، وتحسن علاقات إيران بالدول العربية، والكره الذي يكنه قادة الزيدية في اليمن للثورة اليمنية، التي همشتهم وقللت من نفوذهم" (11).
والواضح أن هذا الاختراق لم يعد هامشياً مثلما كان يظن خلال الأعوام الماضية؛ إذ مع اندلاع الحرب السادسة بين التمرد الحوثي الموالي لإيران والدولة اليمنية، تبين أن قطاعات عريضة من الزيديين ومشايخهم قد انتقلت إلى صف الإمامية وأضحت خصماً من رصيد الدولة لحساب التمرد الحوثي، الذي تقول بعض المصادر إن عديد قواته فقط بلغ ما يناهز سبعين ألفاً، هذا بخلاف القبائل المتعاطفة والأحزاب الموالية له بشكل غير مباشر.
غانا:
أنشئت الجامعة الإسلامية في العام 1999 كإحدى أهم أدوات التشييع في غانا، وحصدت من خلالها آلاف من الخريجين على دفعات، ساهموا بشكل كبير في نشر التشييع في ربوع غانا، حتى خرص بعض الغانيين عدد الشيعة في غانا بنحو مليون متشيع، من دون أن تعزز ذلك معلومات دقيقة موثقة، إلا أن التأثير المتوقع للعديد من المدارس والمستشفيات شبه المجانية، ودورات الابتعاث الرخيصة إلى إيران، وتدريب الدعاة الشيعة هناك، والإنفاق الكبير الذي توليه إيران لإحدى دول الذهب ووريثه الامبراطورية الغانية الشاسعة قبل قرون، تشي بأن الرقم المذكور ربما يعبر عن حجم الجهد التشييعي ولو لم يكن دقيقاً بطبيعة الحال.
الأخطر في غانا وما حولها من الدول أن إيران تمد إليها نفوذاً دون أدنى مقاومة تقريباً، وتجد الطريق معبداً لنشر معتقدها في الغرب الإفريقي الواعد. (12)
موقع التشييع من السياسة الإيرانية الثورية واستراتيجية التمدد
يكشف الباحث المتخصص في الشأن الشيعي الأستاذ/أسامة شحادة عن معلومات استقاها من موقع "شيعة نيوز" (باللغة الفارسية والرابط الذي وردت فيه المعلومات لم يعد يعمل الآن)، عن أن " الحكومة الإيرانية رصدت ميزانية ضخمة جداً لتبليغ التشيع وإرسال مبلغين والفعاليات المذهبية لعام 1427هـ بلغت قيمتها 215.620 مليار تومان إيراني (حوالي 2.3 مليار دولار)، بزيادة قدرها سبعة أضعاف ميزانية العام الماضي 1426هـ، وهذه الميزانية الضخمة والتي لم يعرفها تاريخ التبشير بالتشيع تنبئ بجهود ضخمة قادمة لنشر التشيع، مما سيذكي الصراع الطائفي بين السنة والشيعة" (13)
والواقع أن الرقم المذكور على ضخامته لا يعبر فقط عن جهود التشييع العالمية، إذ يسهم أثرياء من عدة دول خليجية في تلك الجهود، وهي معلومات إن تطابقت مع الحقيقة؛ فهي تعني أن مليارات تضخ سنوياً لحمل الآلاف من السنة على مفارقة معتقداتهم بوازع الفقر أو الحاجة أو الطمع أو القناعة الفكرية المجردة، وهي ميزانيات لا يمكن مقارناتها ليس فقط بجهود وقف التشييع بل حتى بمشروعات نشر الإسلام ذاته في العالم.
عشرات الفضائيات الطائفية، ومئات المؤسسات، وآلاف الحسينيات والاحتفالات، تحتضنها سياسة توسعية ترى في التشييع وسيلة لحفظ الثورة ومنع تفكك فسيفساء المكون الاجتماعي الإيراني، وتحفزها رؤية عقدية تجيش كل إمكاناتها لنشر فكرتها في الداخل الإسلامي، وهي غير معنية على الدوام بانتشار أفكارها لدى أصحاب العقائد والملل والنحل غير الحيز الإسلامي وحده، وهو ما يعني أن تلك الجهود محصورة بين ملياري مسلم حول العالم دون غيرهم.
جهات الإنفاق عديدة ومتنوعة لعشرات المليارات من الدولارات التي ضخت لتصدير الثورة ونشر عقيدتها في العالم الإسلامي على مدى السنوات الثلاثين التي تلت الثورة الإيرانية، أخذت فيها استراتيجية التمدد و"التبشير" والهيمنة مفاعيل مختلفة، ومرت بأطوار تناسبت في وتائرها مع المد والجزر في السياسة الإيرانية الخارجية التي ارتبطت في سني الثورة الخمينية الأولى بمرحلة من المد الثوري المتسم بالصدام مع الأنظمة والحكومات الإسلامية وتأييد حركات المعارضة الإسلامية التي ابتلع معظمها الطعم الإيراني، "وقد استخدمت إيران المؤتمرات العالمية لأئمة الجمعة وأسابيع الوحدة الإسلامية، والاحتفالات السنوية بيوم القدس ومؤسستي الشهيد والمستضعفين، ومنظمة العلماء المجاهدين، كآليات لتعبئة رجال دين وكتاب ومفكرين وقياديين إسلاميين من كافة أنحاء العالم الإسلامي، لتلقينهم عقائديا والتأثير عليهم فكريا، بما يتفق مع أفكار الثورة الإيرانية ومصالح الجمهورية الإسلامية. كما وظفت الثورة الإيرانية اللجنة الدائمة للحج، ومكتب الدعوة الإسلامية كمؤسستين حكوميتين لتصدير فكر الثورة الإيرانية وتوسيع تأثيرها الخارجي. وقد جاءت تصريحات لعدة مسئولين إيرانيين لتؤكد أن إيران لن تأمن من مؤامرات الدول الكبرى إلا إذا حدثت ثورات مماثلة في العالم الإسلامي ووعدت بمساعدة كل حركات التحرير والحركات الإسلامية الراديكالية في أي مكان في العالم." (14)
ثم انكمشت إيران الثورة خارجياً بعد هزيمتها من العراق في العام 1988 لتبدأ مرحلة من المد الدعوي الهادئ والذي شهد إقالة "آية الله" علي منتظري من خلافة الخميني والإطاحة برئيس الوزراء مير موسوي وهما من أبرز دعاة تصدير الثورة ليمثل انحساراً لتلك الدعوة إلى حد ما إلى أن عادت بالظهور بشكل جديد مع تولي الرئيس خاتمي رئاسة الجمهورية، ثم تأخذ منحى تصاعدياً هائلاً في عهد نجاد وتعود إلى نمط مكتوم من الثورية الرمادية التي تتحين الظرف الملائم لنقل التمدد الناعم إلى الثوري من جديد.
لكن حتى تبدو الفرصة مواتية بشكل طاغٍ؛ فإن نشر العقيدة الشيعية واستقطاب الأتباع جارٍ على قدم وساق في أكثر من زاوية من زوايا الوطن الإسلامي، وقد طورت فعلها "التبشيري" بالخروج كثيراً من زاوية التقية إلى إعلان أهدافها ومطالبها بشكل صريح وواضح مفيداً من الهامش المتاح الذي وفره احتلال العراق وأفغانستان وضيقه نوعاً ما المشروع النووي الإيراني.
إن قسمات المرحلة تفرض على واضعي سياسة التشييع في عالمنا الإسلامي عدم اتخاذ سياسة موحدة يتم فرضها على كل الشرائح والشعوب المستهدفة، فما يصلح لهذا البلد لا يوافق ذاك، غير أن القاسم الوحيد المشترك في الحاكم لكل السياسات المنفذة من جاكرتا إلى نواكشوط هو ضرورة استغلال تلك الفترة الزمنية التي يعاني فيها العالم الإسلامي السني من ضعف شديد يحول بينه والقيام بمجابهة الزحف الشيعي، وملء الفراغ الناشئ عن غياب أو تغييب المؤسسات السنية العاملة في نطاق الدعوة الإسلامية، واتخاذ السلطات في معظم الدول العربية والإسلامية سياسة مترددة حذرة إزاء الأنشطة غير البريئة التي تجري على أراضيها، وتخوف تلك السلطات من ضغوط نجحت إيران في فرضها عبر الحكومات والمؤسسات الدولية الحقوقية وغير الحقوقية التي تكبح جماح أي سياسة مضادة، وإعطاء الغرب الضوء الأخضر أو حتى اقتناص الإيرانيين للفرصة السانحة بإقامة شراكات إفريقية وأسيوية تظلل عمليات التشييع التي لا تنظر كثير من حكومات تلك الدول "البراجماتية" لها بارتياب نظراً لأن إيران ـ عبر بعض جماعات العنف السنية الساذجة والمغرضة ـ قد نجحت في صبغ "مشكلة الإرهاب" العالمية بلون سني بخلاف فترة ثمانينات القرن الماضي على سبيل المثال، ثم تماهي تصعيد أصوات الأقليات الطائفية والإثنية مع استراتيجيات غربية لا تخبئ رغبتها في تفكيك الدول العربية والإسلامية بأكثر مما هي عليه الآن.
تتنوع الآليات بدءاً من حضور المؤتمرات الإسلامية المجمعة وانتهاءً بالمعارضات المسلحة والثورات والاضطرابات ومعاونة المحتل بشكل مباشر كما الحالة العراقية أو التمهيد له كما في بعض الدول الخليجية (التي قد تتعرض لموجة احتلالية شرقية هذه المرة وليست أمريكية أو أوروبية)، وتحمل في حقيبتها استقطاباً مالياً وآخر "أخلاقياً" لبعض وجهاء المجتمعات العربية وقادة الرأي، وإغراء الفقراء بالمال، وقيادة "الدراويش" بالاحتفالات الدينية التي لا تنقطع، وعلاج المرضى في المستشفيات وإقامة المدارس والجامعات في إفريقيا وآسيا الفقيرتين، وتشكيك المثقفين والجماهير بالصحابة ومن ثم العقيدة السنية برمتها، ومروراً بطرق تغيير التركيبة الديموجرافية للبلدان السنية عبر الهجرة إليها كما في الحالة العراقية التي تدفق عليها مئات الآلاف من الإيرانيين بعد الغزو (تشير بعض التقارير الصحفية إلى أن الرقم يتجاوز حدود الملايين إيراني عبروا من خلال الحدود السائلة بين إيران وعراق الحكم الشيعي)، وكما في إيران ذاته التي حدث فيها طمس نقاء الانتماء السني في مناطق السنة الخالصة بالتوطين والهجرة التي أوعزت بها الدولة إلى أبناء طائفتها، وتدفق العمالة الشيعية إلى الخليج بغزارة بحيث اختلت التركيبة السكانية وأحدثت إيران مشكلة أقلية في عدد من دول الخليج لم تكن موجودة من قبل، والتجنيس (وهي مسألة بعيدة زمنياً بعض الشيء) (15)، وإقامة تجمعات سكنية خاصة بهم سواء أكانوا من أبناء البلدان الأصليين كما في بعض حالات الخليج، أو لاجئين أو مهاجرين كما في بلدان كمصر وسوريا والسنغال ونيجيريا وغيرها.
وفي كل ذلك يجري العمل على إيجاد قواسم مشتركة مع كل القوى الرسمية وغير الرسمية في البلدان الإسلامية تمنح دعاتها نفوذاً وتأثيراً؛ فعملية التشييع أوجدت لها مشتركات ـ على سبيل المثال ـ مع بعض الطرق الصوفية باسم حب الأولياء والأشراف، والليبراليين باسم التحرر من النظم السلطوية ومحاولة تقديم إيران كنموذج ديمقراطي ـ رغم ثيوقراطيته الواضحة التي لا يراها المتعاطفون معها كأمثال الكاتب فهمي هويدي وغيره ـ، والناصريين في مصر باسم الثورة على الظلم والتي منحت الخميني قبل الثورة تعاطفاً مع الرئيس المصري الراحل، واليساريين عموماً باسم رفض الامبريالية الغربية والوقوف في وجه "الشيطان الأكبر" (وإن تراجعت تلك التسمية كثيراً مع خروج العلاقة الأمريكية الإيرانية إلى مرحلة العلن)، وتقدم للإسلاميين المقاومين السند المعنوي والمادي باسم الوقوف ضد أعداء الإسلام من الصهاينة وغيرهم.. وهكذا..
إن تلك الممارسة التشييعة الآخذة في النمو على أكثر من صعيد قد حققت نجاحاً لاشك فيه ليس قياساً بحجم المنفق عليها، فهو أكبر كثيراً من النتائج، لكن هذه الأخيرة لم يعد يستهان بها، وتؤكد على وجود استراتيجية متكاملة مهدت الطريق أمام تغيير الخارطة الدينية في أكثر من بلد استراتيجي ومهم للأمة الإسلامية، ليس بالضرورة تتطابق مع تلك الخطة الخمسينية المسربة التي راج التحذير منها في المواقع المتخصصة في تتبع الحالة الشيعية (16)
القابلية للتشيع
من نافذة استعداد بعض الشعوب لتقبل أفكار معينة بدرجة أعلى من غيرها، يمكن لكثير من دعاة الأيديولوجيات والعقائد التركيز على بعض المناطق التي تجد ترحيباً أكبر في قبول أفكار محددة والنفاذ إلى عقول وقلوب هذه الشعوب.
لا نزعم أن ثمة استعداداً فطرياً لقبول التشيع لدى بعض الشعوب، لأن التشيع في حقيقته مصادم للفطرة من عدة نواحٍ ليس هنا محل بسطها، لكن الأكيد هو أنه يقتات من عوامل تسهم في انتشاره، الذي يظل محدوداً على كل حال لكنه مؤثر، وتلك العوامل منها ما يتعلق بسمات عامة تنشر مظلتها فوق مجموعة من الدول ومنها ما يخص دولاً وشعوباً معينة بذاتها.
فمثلاً لدينا فيما يخص الجانب الأول، مسألة العلم والجهل، ويعني بها مسألة الاحتكاك المباشر مع الشيعة ومعرفة عقائدهم على حقيقتها، والواقع يشهد بأن حظوظ الشيعة في نشر أفكارهم بين الشعوب الأكثر احتكاكاً بهم ـ شريطة الجهر بتلك العقيدة والأفكار ـ هم الأقل حماسة لاعتناق أفكارهم، والعكس بالعكس.
إن عقيدة لا تنتشر إلا عبر تغليفها بالأكاذيب والتسول بالبحث عن المشتركات بينها والمجتمعات الأخرى، والتسويق لها بشكل خفي وخجول، لهي مدعاة للرفض وتحاشيها، وتستحيل أن تكون صحيحة على جادة الدين، وحيث تفيد من جهل الشعوب والمجتمعات بها في تمرير أفكارها بشكل متسلل والتوائي؛ فإنها تحكم على ذاتها بالفناء كلما نهض بوجهها العلماء والمثقفون، واستقر العلم بها.
والملالي يدركون في قرارة أنفسهم أن عليهم ـ كلما انكشفت مطامع القوم بين الناس ـ أن يلجؤوا إلى نشر عقيدتهم عند من يجهلونها ولا يدرون كثيراً عن خفاياها وأسرارها، ولذا؛ فإن مع تكشف كثيراً من ملفات إيران، عقيدة وسياسة، وتبيان عقائد الإمامية عموماً لدى جموع من مثقفي العرب؛ فإن الوجهة التي تولاها دعاة التشيع انحرفت إلى اتجاهات أخرى لم تكن تطرقها الدعوة الشيعية، فبدت إيران أكثر اهتماماً بإندونيسيا والغرب الإفريقي وغيرهما مع ذيوع الوعي بعقيدتها وما تكنه لشعوب المنطقة بشكل لافت في أعقاب مساهمتها مع الولايات المتحدة ودول أخرى في احتلال العراق وارتكاب مذابح دامية بحق العراقيين والفلسطينيين وقيام الميليشيات التابعة لها بارتكاب جرائم بحق أهل السنة في العراق.
ما يتبدى جلياً أن جهود نشر التشيع لابد أن تتجه إلى شعوب تجهل الأجندة الخفية لحكومة الملالي وتفتقر إلى المعلومات حول عقائد تتعلق بالنظرة إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والعلاقة مع أهل السنة والنظرة إليهم، وأخيراً ما يتعلق خصوصاً بالتقية واستخداماتها على الأصعدة "الشرعية الدينية" والسياسية (الدينية أيضاً)، وعلى هذا فكان التوجه لغير تلك الدول في نشر الفكرة الشيعية.
علينا أن نفرق هنا بين الرغبة في الهيمنة واستخدام الأدوات التابعة في الدول الإسلامية (السنية) وبين نشر التشيع كفكرة عقدية، وكلاهما لا علاقة مباشرة بينه وبين الآخر؛ فحين تعمل إيران على فرض التشيع في إيران والعراق، وتقوية العمل السياسي لأتباعها في الخليج؛ فإنها لا توازي ذلك بالقدر ذاته من العمل "الدعوي التبشيري" في تلك الدول بل تغادر إلى دول أكثر جهلاً بأيديولجيتها لنصب فخ جديد يفضي إلى ضم أتباع جدد إلى الفكرة الشيعية الدينية.
إذن، نحن نتحدث هنا عن قضية الجهل بالتشيع الإمامي كحافز مشجع لمد النفوذ الشيعي التعبوي واستقطاب عناصر جديدة، وهي قضية عامة تمس شعوباً وقطاعات عريضة في حوضنا الإسلامي غير العربي أو العربي البعيد (كدول المغرب العربي التي لا تتماس كثيراً مع مشاكل الشرق بحكم البعد الجغرافي).
هذه قابلية نموذجية تتعلق بالجهل بالتشيع يخالف النماذج الخليجية القريبة والتي يتزايد فيها النفوذ السياسي دون انتشار الفكرة الدينية الشيعية، وهو ما يحدده أيضاً هذا القول الذي أنقله عن معتصم سيد أحمد، وهو داعية شيعي بالسودان ، يقول فيها في حوار مع موقع المرجع الديني الشيعي المدرسي: "هنالك تربة خصبة للقارة الأفريقية، إذ نظرنا للجزء الشمالي من القارة الإفريقية من مصر والجزائر والمغرب والسودان نجد أن هناك حباً متجذراً في نفسية هذه الشعوب بالولاء لأهل البيت (عليهم السلام)، كذلك هنالك نوع من البساطة في قبول الطرف الآخر، فالإفريقي بشكل عام متسامح يقبل الحوار ويقبل الطرف الآخر بعكس بعض العقليات المتشددة الموجودة في البوادي" (17).
الجهل، ينضاف إليه تفاعلية المجتمعات مع الأفكار الجديدة عموماً، وهذا لا يقتصر عن التشيع فقط، وإنما عموم الأفكار التي يجري تصديرها للمجتمعات، فصعيد مصر يختلف عن شماله، ونجد الجزيرة العربية يختلف عن حجازها، وهو ما يتقدم من كلمات الداعية الشيعي هذا وغيره ممن ينصب جام حنقهم على من يسمونهم بـ"الأعراب"، والمقصود بهم العرب الأقحاح وليس ما ورد في كتاب الله عز وجل في محل الذم.
أما ما يخص الأمور المنفردة التي تغذي نشر التشيع وتجعل الطريق معبداً نوعاً ما نحوه؛ فهناك على سبيل المثال:
1 ـ مناطق تمركز الفكر الصوفي، وذلك لإمكانية امتطائه لنشر التشيع، ونعني هنا بالتأكيد بعض الطرق الصوفية التي تقترب فكرياً من أفكار التشيع، لاسيما ما يسمى بالطرق "العلوية" (نسبة للخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه)، إذ ليس كل الطرق الصوفية كذلك، ومنها ما يدعى بالطرق "البكرية" (نسبة للخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه)، ولذا فنحن نرى أن قاسماً مشتركاً كبيراً بين حركات التشييع في عالمنا الإسلامي يوجد حيث التربة الصوفية المتعلقة بشكل غير صحي بـ"آل البيت"، والتي تعظم أصحاب القبور والأضرحة ممن تتوسم فيهم الصلاح والولاية والقرب من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
2 ـ مناطق انتشار الهجرات القرشية في العالم العربي، لاسيما صعيد مصر والمغرب الأقصى وجنوب العراق، وهي مناطق أمكن استغلالها للتسويق لفكرة أن "الأشراف" كنسل ينبغي له أن يحمل إرث التشيع والولاء لـ"آل البيت" ومذهبهم الافتراضي، ويفيد بالتالي من "الامتيازات" التي يوفرها الانتساب إلى "السادة" في الثقافة الشيعية.
3 ـ الشعوب العربية التي لها ثأر مضاعف (أكثر ممن سواها من الأشقاء) مع الكيان الصهيوني من دول "الطوق" والتي يمكن أن يوفر لها "النضال الظاهري" لـ"حزب الله" في لبنان شعوراً بالارتياح والرضا والرغبة في رفد "نضاله" على الأقل بالعاطفة التي قد تتحول إلى قناعة ثم عقيدة على المدى القريب إذا ما توفرت لها محفزات أخرى مساعدة، ويضاف إلى تلك الدول أخرى في المغرب العربي تشهد دائماً أكبر تظاهرات مناوئة للكيان الصهيوني عند اعتداءاته الوحشية على الشعب الفلسطيني، لاسيما أن إيران تفترض أن قطاعات من تلك الشعوب تتمتع بقدر من "التسامح الديني" ـ إن جاز التعبير ـ لا يتوافر لغيرها من دول "البوادي" على حد تسمية الداعية الشيعي.
التشييع في المستقبل القريب
لا يتعذر حقيقة التكهن بما ستفضي إليه أنشطة نشر التشيع في العالم الإسلامي من حيث قدرة الإيرانيين والشيعة العرب على التسويق للأفكار الشيعية في المجتمعات السنية؛ فما يبدو جلياً لحد الآن رغم كل المؤشرات القوية على نجاح الشيعة الإمامية في نشر أفكارهم في الأوساط السنية العربية التي حصل لها نوع من الاطلاع على خفايا تلك المعتقدات أن بضاعة دعاتها ـ قياساً إلى التمويل المرافق لأنشطتهم ـ مزجاة وتدعو إلى الإحباط لدى جهاز تصدير الثورة الإيراني العامل منذ بدء الثورة الإيرانية تقريباً بلا توقف. لكن علينا الاعتراف بأن الترويج للتشيع قد نجح بشكل هائل في بلدان أسيوية وإفريقية بعيدة كثيراً عن العواصم المركزية التقليدية للمسلمين ودولهم الرئيسية ذات الجذور الإسلامية العميقة والوعي الديني المتقدم نوعاً ما عن غيره من البلدان البعيدة.
إن دولاً كإندونيسيا وغانا والسنغال والبوسنة والهرسك تعاني من ذيوع الفكرة الشيعية على نحو لم يكن متوقعاً ولم يكن في الحقيقة متفهماً نوعاً ما بالنظر إلى الاهتمام الذي أولته طهران للدول التي تمثل فسيفسائية الدولة الفارسية القديمة في أكبر توسعاتها، والتي هي محل توق فارسي قديم ومتجدد لإعادة "أمجادها"، غير أن السياسة بلا ريب ليست أسيرة للتاريخ وإن انحنت له كثيراً باحترام، وما تفرضه الحالة التي خلفها زيادة الوعي والتوجس معاً من المطامع الإيرانية والتي قادتها أفكار شيعية لم تجد غضاضة في التمهيد برسم خرائط الهيمنة الإيرانية بريشة ترتشف من محبرة الدم في العراق وإيران ولبنان، جعلت من العسير ضمان انتشار الفكرة الشيعية وإن تدثرت بالتقية مشفوعة بحديث نقي ظاهرياً عن "حب آل البيت" والثورة من أجلهم.
الاستثناء الوحيد في محيطنا السني العريض هو في النموذج السوري، والذي تحكمه أقلية نصيرية، وهو الحالة الوحيدة التي شهدت نوعاً من التشييع (ولو كان مرتهناً إلى "الرشاوى" العقدية التي تنفقها الحوزة الزينبية بسخاء على "المستبصرين" الجدد) في أرض الشام المعروفة تاريخياً باحتضانها لعاصمة الأمويين برغم وجود دويلات شيعية قليلة بها على مر التاريخ.
أما ما يتعلق باليمن؛ فهي لا تعد نموذجاً واضحاً للنجاح في نشر التشيع الإمامي إلا في النطاق الذي يتعلق باختراق الفرقة الزيدية ونقل بعض من قطاعاتها ومنتسبيها من خانة الاعتدال النسبي إلى الغلو المطلق من دون الإخلال بلافتة التشيع ذاتها، وإن ظلت تلك النقلة هي الأخطر بمراحل من النماذج الأخرى في المحيط السني بعد الحالة العراقية التي ساد فيها التشيع سياسياً (لا عددياً ولا فكرياً) باستيلائه على أدوات السيطرة في العراق.
نحن إذن إزاء مستقبل قريب لا يبدو غامضاً بعض الشيء؛ فالتحسن الذي طرأ على الوعي العربي السني جراء ما أنتجه غزو العراق، والتمرد الحوثي، والاجتياح الشيعي لبيروت، وما حصل في سوريا، والأزمة التي حدثت في مصر بسبب السياحة الإيرانية، وانكشاف كثير من الأفكار الشيعية عبر آلة إعلامية ضخمة وفرت للمتشككين وأصحاب الحلول الوسط قدراً من الشجاعة في تحديد مواقفهم، والتمايز الذي أفرزته الإساءات المتكررة بحق الصحابة في عدد من الصحف العربية لاسيما في مصر والكويت، وضياع المثال الديمقراطي المتوهم في انتخابات الرئاسة الإيرانية، وأزمات المعارض السودانية للكتاب، وغيرها من العوامل، كل ذلك قد أفضى إلى تصعيب المهمة كثيراً على دعاة التشييع في الدول العربية الرئيسية، لكنها لا تمنع من الخلوص إلى نتيجة تبقي على التشيع في غير هذه المناطق في حيز الانتشار والتوسع، إلى درجة تبدو خطيرة كما في النجاح في فرض الفكرة الإمامية على قطاعات لا يستهان بها من زيدية اليمن على سبيل المثال، فضلاً عما تقدم في أطراف الحوض الإسلامي الشاسع.
إن تنامي النفوذ الإيراني في العالم سيقود بلا شك إلى مزيد من النجاح في نشر التشيع في أكثر من صعيد، خصوصاً فيما يتعلق بالمراكز الإسلامية والجاليات المسلمة في الغرب، في غياب من الفعل السني المقابل.
وما تقدم، يحدونا إلى القول بأن إيقاف تلك العجلة أو فرملتها يحتم على دوائر التأثير النظر في ابتكار آليات جديدة غير تلك المستخدمة حالياً، والتي إن وفرت بعضاً من النجاح فإنها لم تكمله، ويعوزها المزيد من التعزيزات والأدوات المستحدثة، وبالتالي سيكون من الملائم الالتفات إلى حزمة من الآليات التي قد توفر حافظة لمعتقدات السنة حول العالم من بينها:
• تقنين الإصدارات التوعوية الخاصة بمناهضة عملية التشييع الجارية بقوة في بعض الدول، والابتعاد عن العشوائية في الطرح الحاصلة الآن، والاقتراب أكثر من الشرائح المستهدفة بعملية التشييع؛ فما يحتاجه المعنيون من الشعوب الواقعة تحت التأثير والتخطيط الإيراني يتنوع ما بين ضرورة فهم العقيدة الإسلامية الصحيحة ونظرتها لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودورهم الريادي في حفظ الدين عقيدة وسلوكاً ومنهاجاً وانتشاراً ، ومن ثم استخدام لغة مبسطة وواضحة ومباشرة ومقنعة وغير متشنجة ومختصرة في توعية الفئات المستهدفة بالتشيع.
• توظيف الإعلام السياسي في الكشف عن خفايا العلاقات الإيرانية/الأمريكية، والإيرانية/البريطانية، والإيرانية/الصهيونية، والعمل على دحض الشبهات الدائرة بأذهان الجماهير الإسلامية حول البطولات المتوهمة التي يراد تسويقها عن الأنظمة الحاضنة للتشيع، والقوى الدائرة في فلكه، واعتماد أساليب احترافية غير تهييجية أو زاعقة في هذا التوظيف.
• تنبيه البلدان العربية السنية بأنه كما أن إيران تعتمد تصدير الثورة كآلية لا غنى عنها لحماية تلك الثورة مثلما تضافرت على تأكيد ذلك أقوال الملالي وأركان الثورة في جمهورياتها الأولى وحتى الأخيرة؛ فإنه لا استقرار لتلك الدول ما لم تباشر بذاتها دوراً توعوياً خارج حدودها تقوم عليه المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية وفي مقدمتها الجامعات الإسلامية والجامع الأزهر وغيرها، وأن لا فكاك لها من دون المبادرة إلى تحصين الشعوب المسلمة في إفريقيا وآسيا فضلاً عن الدول العربية الأخرى.
• الخروج عن دائرة مخاطبة الذات المغلقة التي كثيراً ما يقع فيها مناهضي التشييع في عالمنا العربي، فأولويات المرحلة لا تقتضي أبداً تدوير المعلومات حول التشييع داخل الصفوف المتدينة الواعية بالعقيدة الإمامية، وإنما المأمول هو النظر إلى الشرائح الواقعة تحت التأثير الإيراني، أو التي يتوقع لها أن تُتخذ هدفاً لطموحاته بعين الاعتبار، وأن تكشف آليات الملالي في هذا الخصوص، سواء ما يتعلق منها بالتسويق للأفكار وإطلاق الشبهات، أو الإغراء بالمال من أجل التشيع، أو زواج المتعة المنتشر الذي يستدرج من خلاله بعض البسطاء.
• العمل على انتظام الجهود المشتتة التي تقوم بها مؤسسات نذرت نفسها لهذا المنحى المناوئ لانتشار التشيع في العالم الإسلامي السني، والعمل على ضمان ألا تتكرر الجهود نفسها، وأن تتخصص بعض تلك المؤسسات في الإعلام السياسي، وأخرى في الدعوي الشعبي، وثالثة في التوعوي النخبوي، والعمل على توعية المسؤولين في الدول الإسلامية الإفريقية والأسيوية بالتبعات التي يقود إليها ترك الدعوات إلى الطائفية في الانتشار في بلدانها.
• إعادة الاعتبار إلى العمل الخيري السني الذي انحسر على إثر الضغوط التي أعقبت أحداث 11 سبتمبر، والتي عملت جهات غربية وأخرى إيرانية على شيطنة العمل الخيري الإسلامي في الدول الفقيرة ومنعه من القيام بأدوار تثقيفية موازية لعمله.
• إعادة النظر في قضية تجيير كل الطرق الصوفية في خانة المتعاطف أو النظر إليها باعتبارها بيئة مناسبة لانتشار التشيع، فمع الإقرار حقيقة بوجود شيء من ذلك في بعض الطرق الصوفية؛ إلا أن من المتوجب إنصاف أخرى تقف حاجزاً منيعاً لاسيما في بعض الدول الإفريقية حيال انتشار التشيع فيها، واستذكار الدور الذي قام به التصوف في تركيا في مقاومة الدولة الصوفية قبل قرون، والدور الحالي الذي تقوم به بعض الطرق الصوفية في العراق في هذا الصدد إزاء الاحتلالين الأمريكي والإيراني لبلادهم، والتعاطي الإيجابي مع الأقرب فالأقرب من تلك الطرق إلى الجادة تقديراً للحظة التي تمر بها الأمة الإسلامية والأخطار المحدقة بها.
• مراقبة قنوات الأطفال الشيعية الموجهة إلى المحيط السني، وكذا الأعمال الدرامية التي تجسد الصحابة رضوان الله عليهم، وكشف أي تزييف أو تسويق لعقائد وأفكار وسلوكيات تخالف جادة الدين الإسلامي الحنيف، أو حقائق التاريخ، إن عجزت المؤسسات الإسلامية السنية عن إيجاد البدائل الجاذبة في هذا الصدد.
• كسر الدعاة والمصلحين وكبار العلماء في الدول العربية الرئيسية طوق العزلة التي قد يفرضه البعض على ذاته والقيام بجولات مكوكية متنوعة إلى الدول الإسلامية المستهدفة بالتشييع وطرق أبواب الخيرين في تلك البلدان عملاً على توعية الغافلين بحجم الأزمة.
• نشر مطويات تحمل شرحاً مبسطاً لاختلاف العقيدة بين السواد الأعظم من الأمة وغيرها بين الشعوب غير المدركة لتلك الفوارق، كجدول المقارنة المنصف والجاد الذي وضعه العلامة محب الدين الخطيب أو غيره من الأوراق المبسطة بأكثر من لغة عالمية.. الخ.
• لابد من إيلاء التيارات الإسلامية المخدوعة أو المستمرئة قياداتها بالتقارب أو التفاهم مع خصوم أهل السنة اهتماماً يتناسب مع تأثيرهم الشعبي الكبير، ومناصحتهم بالحكمة والموعظة الحسنة في ذلك، ومن جانب آخر، لابد من توعية الشباب بالعلاقة المستترة بين بعض جماعات العنف والنظم التي لا تريد خيراً لأهل السنة، والتي تصب جميع أعمالها في مصلحة تلك النظم.
• العمل على نشر قوائم بأبرز الشخصيات الطائفية العاملة في مجالي الإعلام والسياسة سواء في مراكز البحث الغربية أو الإعلام والنظم العربية والتي تدير أجندة تصب في صالح طهران في النهاية والطائفة بوجه عام.
ــــــــــــــــــــ
(1) موقع سني نيوز 2/8/2010
(2) المصدر السابق
(3) المصدر السابق
(4) حميد شايع الأحوازي ـ هل إهمال المنظمات الإنسانية للقضية الأحوازية مقصودا؟ ـ 28/7/2010 ـ موقع "حزم" الأحوازي المعارض
(5) يراجع : محمد سرور ـ أحوال أهل السنة في إيران
(6) انظر تقرير راند عام 2007 والذي نص تحديداً على ضرورة العناية بإندونيسيا
(7) دراسة حول التشيع في العالم ـ موقع البرهان
(8) د.عثمان عيسى/حتى لا يقال : كان السودان بلداً سُنّياً، باختصار وتصرف ـ مجلة البيان - مارس 2002
(9) الجذر التاريخي لنظام طهران الحالي
(10) فرنسوا تويال/الشيعة في العالم ـ استعراض إبراهيم الغرايبة ـ الجزيرة نت ـ 31/7/2007.
(11) أسامة شحادة ـ هيثم الكسواني ـ الموسوعة الشاملة للفرق المعاصرة في العالم ـ التجمعات الشيعية في الجزيرة العربية ـ صـ143
(12) هناك دول أخرى بطبيعة الحال تشهد نفوذاً متصاعداً لإيران لكنها قد لا يكافئ نفوذها انتشار التشيع بشكل كبير كالعراق ولبنان وغيرهما ليست محل البحث في الدراسة
(13) أسامة شحادة ـ التشيع في خدمة المشروع الإيراني ـ 20/3/2008 ـ موقع المسلم
(14) د. وليد الناصر ـ إيران دراسة عن الثورة و الدولة ـ الباب الثالث ـ المنشور بمجلة الراصد.نت عدد رجب 1425 هـ
(15) انظر: عبد الله الغريب ـ وجاء دور المجوس ـ ص311
(16) انظر: أضواء على الخطة السرية ـ دراسة في الأسلوب الجديد لتصدير الثورة الإيرانية ـ الأسباب – الخطوات – التطبيقات ـ نسخة إليكترونية ـ موقع البرهان
(17) موقع المرجع الديني الشيعي المدرسي