
الاستبداد الذي تَعُمّ عقوبته الناسَ أجمعين هو الاستبداد السياسي ، وكل استبداد دونه هو سيئة من سيئاته ، فإن الخَرَاج بالضمان..فمن تَنَعّم بالسلطة والحُكم تَحمَّل مسئولية إقامة العدل ، واستحقّ الذّمَ والعقوبة على الجور والإهمال. هكذا فهم الفاروق"لو عثرت بغلة في العراق لحسبت عمر مسئولا عنها: لِمَ لمْ يُسَوّ لها الطريق"؟ فأمير الناحية والقاضي والوزير ونحوهم ؛ جَوْرُهم من جور الحاكم ، وعدلهم من عدله " لأن أولي الأمر كالسوق ما نفق فيه جُلب إليه؛ هكذا قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. فإن نفق فيه الصدق والبر والعدل والأمانة جُلب إليه ذلك؛ وإن نفق فيه الكذب والفجور والجور والخيانة جلب إليه ذلك". ولهذا فالاستبداد ليس مرادِفا للظلم أو الفساد أو الترف. كلا.. بل هو هذه الخبائث كلها ، وزواله أو إزالته هو إزالة للظلم والفساد ، وتوطينٌ للحرية والعدل والحقوق..إذ لايمكن ولا يتصور إحلالها والعيش في كنفها مع الاستبداد..وقد أجمعت الشرائع والوقائع والعقول على وجوب مقاومة الاستبداد ، وعدم توريثه واستنساخه تحت أي ذريعة..
الاستبداد عَلَمٌ لايُستَدَلُّ لِقُبحِه وتجريمه..فاسْمُه قبيح ونِتاجه حَنظلٌ ، وهو مشتمل على مُوبقاتٍ ، كلُّ موبقةٍ منها مُحكمٌ تحريمها ومستقرٌّ في العقول والفِطَر فسادُها..ولقد تحالف عقلاء الجاهلية على نبذ الاستبداد وما ينتج عنه فيما عُرِف بحلف الفُضول ، تحالفوا "ليكونُنّ مع المظلوم حتى يؤدوا إليه حقه ، وفي التآسي في المعاش ، والتّسَاهم بالمال"..وقد شهده النبي صلى الله عليه وسلم وهو فتىً ، وزكّاه بعد نبوته وأحبّ تكراره " لقد شهدتُ في دار عبد الله بن جدعان حِلفا لو دُعيتُ إلى مثله في الاسلام لأجَبْتُ" قال ربيعة ابن أبي عبدالرحمن"كان تحالفهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن لا يَدَعوا لأحد عند أحد فضلا إلا أخذوه " فكم في بلاد الله من مظالم وحرمان وطبقيّة تحتاج إلى أحلاف فضول ؟. وهل نحتاج مع بداهة العقول إلى حشد النصوص الشاهدة على تحريم الظلم والفساد وآثارهما الوخيمة العاجلة ؟ وهل بعد قول الحق سبحانه "وَلَقَدْ أَهْلَكَنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا" وقوله "وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ" وقوله جلّ وعزّ "وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً" والفتنة العقوبة التي إذا نزلت لا تَخُصّ الظالمين وحدهم. وهل بعد قول الحق مُحذِّرا العقلاء عاقبة قيادة المفسدين للمجتمع "وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ" وقوله "وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا " وفرعون كان من المفسدين" آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ" وقارون الوزير الرأسمالي كان من المفسدين"وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ" والآيتان نَصّ في متلازمة الاستبداد والفساد ؛ فإن فرعون من أكابر المستبدين..وقارون من أكابر المستغلين للسلطة ؛ فإنه قد بَغَى على قومه وانحاز لمعسكر المستبد.
الظلم والفساد متلازمان ، وهما العمود الفقري للاستبداد. وأتحدى أن يأتي باحثٌ بِمُستبدٍ غير ظالم وغير مفسد على طول التاريخ البشري ؛ لسببٍ عَقلي بَدَهيّ وهو أن الاستبداد قائم على أساس قمع الرأي المعارض والاستئثار بمُتَع الحياة. .والناس شركاء في الرأي والمتاع..فإما شَراكةٌ وهي تستلزم العدل والشورى ، أو استئثار وهو الاستبداد..ولا ثالث لهما في تجارب البشر ، وإن كانت هناك صُورٌ مُحتملَةٌ في القِسمة العقلية.لكن ليس كل ما صحّ في الأذهان يقع في الأعيان.
الاستبداد والنهضة لايجتمعان..والتاريخ شاهد بذلك! فالإسلام صنع نهضة شاملة بعدما خلّص الأفراد من استبداد القبيلة وعنجهية الأنا ، وألّف بين القلوب. وأوربا الحديثة لم تنهض إلا بعد مقاومة استبداد الكنيسة ورجال الإقطاع..وقارِن بين شطري كوريا لترى العلاقة بين الاستبداد والتخلف ، والحرّية والنهضة.
الاستبداد مُفسِد لدين الناس ودنياهم ، والمستبِد مُنازِعٌ لله خصائصَ ربوبيته ؛ ألا ترون أنه لايزال يُرَوِّعُ الناس ويمنعهم حقوقهم حتى يكون خوفه ورجاؤه مضاهيا لخوف الله ورجائه في قلوبهم ! وأكثرُهم مع ذلك يُضْفي عليه من ألقاب التعظيم ، ولا يَعترِض على أَمْرٍ أمضاه أو قانونٍ سَنَّه ولو كان مُصادِما للشريعة مُفسِدا للأخلاق ؟؟
لذلك ولغيره فإن الاستبداد من أعظم المصائب التي اقتضى العقل ودَلّ الشرع أنها تجمع أشتات الناس ، حتى مع اختلاف أديانهم ومذاهبهم ، والمسلمون ليسوا استثناءً ، بل هم قد أصابهم أضعاف ما أصاب غيرهم من عذابات الاستبداد. ومقاومتُه في ديننا من أعظم الجهاد ؛ فقد صحّ "ألا إن أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر، ألا لا يمنعَنّ أحداً مخافةُ الناس أن يقول بالحق إذا شهده، أو عَلِمه". والمستبِدُّ حائزٌ قصَب السبق في الجور..
الاستبداد هو هادم اللذات ومُفَرِّق الجماعات وهم أحياء..ألا نعتبر بتشريد بني إسرائيل من مصر على يد فرعون وعصابته ، وفرار الصحابة من مكة لاجئين عند النصارى في الحبشة ، وشتات الملايين من أبناء العالم العربي في أصقاع الأرض؟. هل كان سيجرى ذلك كله لولا الاستبداد ؟.
وإنه بالاستقراء لافَرْقَ بين مستبد أجنبي ومَحَلّي ، بل كثيرا ما يكون المستبد المحلي أشد ظلما وقهرا للشعب ، وأكثر إفسادا وسلبا للخيرات من الأجنبي..وقد جَرّبت المنطقة العربية الاستعمار الأجنبي والاستبداد المحلي في قَرنٍ واحد ، وأظن أن الناس لو نطقوا لقال جمهورهم ما قال طرفة ..
وظُلْمُ ذَوي القُرْبَى أشَدُّ مَضَاضَةً على المَرْءِ مِنَ وقْعِ الحُسام المُهَنَّد
ولأطرقوا رؤوسهم تصديقا لما قال الرّضِيُّ
لِلذُّلّ بين الأقربين مضاضة والذلّ ما بين الأباعد أَرْوَحُ
وإذا رَمَتك من الرجال قَوارصٌ فسِهام ذي القربى القريبة أجْرَح
فمن هَوّن من شأن إزاحة الاستبداد ، أو اعتقد أن زوال الاستبداد ليس مصلحةً إلا إذا جاء وفق هواه وعلى مقاس مشروعه فقد تَحَجّر واسعا ، وتجاهل مشاعر الملايين ، ولم يُحسِن مشاركتهم أفراحهم..بل وتَجَاهل المكاسبَ الضخمة التي سوف تتحقق للناس من الشعور بالكرامة ، وللإسلام من الانتشار والظهور.
إن إزالة الاستبداد عبادة فلتكن نِيّة المقاومين للاستبداد صالحة وعملهم صوابا..وإن المستفيد من زوال الاستبداد هو الشعب الباحث عن هويته وكرامته ، وفي مقدمة فئات الشعب أصحابُ المشروع الإسلامي ، فنحن أحوج إلى مناخ الحرية من غيرنا ، ونحن سنستفيد من زوال الاستبداد أكثر من غيرنا ؛ لأن استبداد الأنظمة العربية هو استبداد بمرجعية عَلمانية. ولا ريب أن الفضائل تتوالى على أثَر زواله ، فهو قُفْلها وبابها المُوصد..فَشُكرُ الله متعين على عامة الشعب بهدم سور الاستبداد أعظم من شكر الرقيق رَبَّه على نعمة الإعتاق ؛ لأن زواله إعتاق لملايين الأرقاء..ومن لم يحتفل بزوال الاستبداد فهو قِنٌّ خِلْقَةً.. وإنه
منْ يَهُنْ يسهُلِ الهوانُ عليه ما لجُرحٍ بميّت إيلامُ
وهؤلاء يعاقبهم الله بالإقامة في الذل ، ويحرمهم نَسيم الحرية التي تهُبّ على الشعوب الكريمة على نفسها.. "وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ"
اللهم لاتجعلنا شماتة لخلقك ، ولا فتنة لعبادك.