من فضل الله على هذه الأمة، أنها ثبتت في مقاومة أشرس مؤامرة تغريبية في التاريخ الإنساني كله، بالرغم من استمرارها زهاء قرنين من الزمان، وبالرغم من أن الغرب استخدم فيها الغزو العسكري الوحشي المباشر وعندما اضطره المجاهدون إلى الرحيل كارهاً ومكرهاً ومكروهاً عمد إلى تنصيب عملائه المحليين لمتابعة تنفيذ المؤامرة، بالبطش والتنكيل الذي تجاوز همجية الغزاة الصليبيين أنفسهم!!
ولأن الأعداء ليسوا أغبياء، فإن خبثهم جعلهم يعون خطورة سلاحين لنشر التغريب وتخريبنا من الداخل، وإضعاف مناعتنا التي استفزت القوم كثيراً-وما زالت تستفزهم!!-، والسلاحان هما: التعليم والمرأة. وقد راهن هؤلاء الكفرة الفجرة على دمج السلاحين معاً بقدر استطاعتهم، ولو أن إيقاع مراحل التنفيذ قد تشهد سرعة في أحد المسارين وشيئاً من البطء في الآخر، ولكنه افتراق عابر وطارئ لا يؤثر في الخطة الأصلية.
لسنا هنا في فسحة تكفي لعرض تاريخ هذه المؤامرة السوداء، فقد صدرت في رصدها كتب ودراسات وبحوث رصينة ونوقشت رسائل علمية محترمة، لكن العناوين المعروفة تشير إلى البدايات في تركيا في أواخر الدولة العثمانية، وفي مصر باعتبارها قاعدة تأثير جوهري في المحيط العربي والإسلامي.
جرى إفساد التعليم وتشويه مناهجه ليوائم أهداف الغزاة وتوابعهم، كما سعى القوم إلى إخراج المرأة المسلمة من عفافها وحيائها، على مراحل متدرجة على طريقة بعض الهنود في تعويد أطفالهم على تجرع مقادير متصاعدة من السموم!!
نجحت المؤامرة ظاهرياً إلى حد بعيد، حتى أصبح وصف الإسلام بالغربة في كثير من مجتمعات المسلمين صحيحاً، فقد ساد سفور النساء وعم التعليم المختلط-باستثناء بلاد قليلة تُعَدّ على أصابع اليد الواحدة- وتغرب التعليم حتى بات مصدر هدم لهويتنا...
وفرح القوم أيما فرح في تلك الفترة، عندما زين لهم الشيطان ونفوسهم المريضة أنهم قضوا على الإسلام أو كادوا.لكن فرحتهم لم تدم إذ فوجئوا بصحوة الأمة من سباتها، وراحت تستعيد عافيتها رويداً رويداً...
المهم، أن بين يدي كتاباً-بل: كتيّباً فعدد صفحاته 42 لا أكثر- عنوانه: الغرب يتراجع عن التعليم المختلط، وهو من تأليف خبير تربوي غربي اسمه: بيفرلي شو، وقد ترجمه إلى العربية وعلّق عليه الدكتور وجيه حمد عبد الرحمن عضو هيئة التدريس بجامعة الملك عبد العزيز/المدينة المنورة.
وقد أحسن المترجم في اختياره، وما يزيد البحث قيمة أن الدكتور عبد الرحمن ليس مجرد شخص قادر على الترجمة بين لغتين، فهو من رجال التربية، وكان قد مضى عليه يوم ترجم الكتاب عشر سنوات من العمل في التدريس.
ومما ينبغي التنويه به أن مبادرة الدكتور وجيه مبكرة نسبياً، فعمرها زهاء ربع قرن من الزمان، ويومئذ كان التغريب في أوجه، وكانت صحوة المسلمين في بداياتها.
وتنبع أهمية البحث في أن مؤلفه( شو) لا يناوئ اختلاط الجنسين في المدارس والجامعات لأسباب أخلاقية، فمعلوم أن القوم هناك تحرروا من أي أثر للأخلاق في سائر مناشط الحياة العامة والخاصة، فجميع المؤقات مباحة في قوانينهم المعادية للفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها.
ربما يخالفني كثير من القراء في الثناء على تجرد المؤلف من الدوافع القيمية في تكوين موقفه، وهم على حق لولا أنني أعتبر سلوكه زيادة في إقامة الحجة على عبيد الغرب عندنا!!
فدعوته إلى إلغاء الاختلاط في التعليم مبنية على أسس تربوية عملية محضة.
وأنا بالطبع لا أوافق المترجم الفاضل في إسرافه في التفاؤل، الذي جعله يضع لترجمة البحث عنواناً يقول: الغرب يتراجع عن التعليم المختلط، لكن صدع رجالات بارزين في ميدان التربية عندهم باعتراضهم على الاختلاط الذي كان مجرد الهمس بشيء من عيوبه من المهلكات في عرفهم المنحرف.
وليت خبراء آخرين يتأسون بمبادرة الدكتور وجيه ويتابعون مثل هذه المراجعات وبخاصة في كل ما يتصل بقضيتي التعليم والمرأة.لا نريد ذلك لإقناعنا بقضايا معلومة لدينا من مبادئ ديننا السامقة وسمو أحكامه الفذة، ولكن المواجهة مع أذيال التغريب تتطلب استقطاب بعض الفئات المؤرجحة، والتي لا تمتلك الحد الكافي من التحصين الشرعي ومن الثقة بالذات.