قليلةٌ هي الكتب التي تحتفظ بقيمتها مع مرور الزمان. وكتاب: جهالات عصر التنوير، للقلم العملاق الراحل محمد جلال كشك واحد من هذه الكتب التي تبقى حاجة مهمة لأهل الثقافة الصادقين. فالكتاب تعرية علمية موضوعية لأبرز صنمين من أصنام التغريب في العصر الحديث، هما: قاسم أمين وعلي عبد الرازق، ولو أن المؤلف رحمه الله أضاف إليهما طه حسين لاختصر بذلك كهنة التغريب الأوائل الذين يسميهم أشياعهم حتى اليوم "الرواد"!!
فقاسم أمين هو الذي دعا منذ أكثر من 100 عام إلى إخراج المرأة المسلمة من عفافها وحيائها، لكي تواكب "حضارة" سادته الغربيين الذين انبهر بهم حتى عميت بصيرته، بالرغم من أنهم كانوا يحتلون معظم ديار الإسلام يومئذ، بما فيها بلده مصر. وعلي عبد الرازق دعا إلى العلمنة صراحة وإلى حصر الإسلام في العبادات الفردية من صلاة وصيام وزكاة وحج. ولم يكن أول الناعقين بالعلمنة وسلخ الدين عن الحياة، لكن أهميته عند القوم أنه اقترف تلك الجريمة عن سابق عمد وتصميم فهو شيخ أزهري ذو عمامة!!
هذان الصنمان اللذان يتغنى بهما عبيد الغرب من قبل ومن بعد، تناولهما كشك بقلمه الرائع وأسلوبه الساخر سخرية مُحِقّة محمودة، فأتى على أساساتهما لتغدو فتاتاً قبيحاً مسروقاً من فضلات موائد الآخرين. فهو يضع يده على الجرح منذ الصفحات الأولى من كتابه النفيس، فيقول ببلاغة صادقة صافية في معرض تشخيصه لاستحالة نجاح التغريبيين: (دعاة التغريب لا يمكن أن يُحْدِثوا تنويراً ولا تثويراً، لأنهم لا يختلفون عن كرومر ودنلوب-السياسيين الاستعماريين في مصر زمن الاحتلال البريطاني-لا جذور لهم في هذه الأمة، غرباء عن ضميرها أعداء لتاريخها، مهما تمكنوا من وسائل الإعلام، ومهما نالوا من حظوة وتأييد السلطان!! فلا سبيل لهم إلى قلب الأمة وعقلها الباطن وهما السبيل الوحيد لإحداث الانتفاضة الحضارية.. ذلك هو القانون الإسلامي: إن الله لا يُغَيّرُ ما بقومٍ حتى يُغّيروا ما بأنفسهم، لا بد أن يأتي التغيير من الداخل: مما في النفوس).
يُشَرّح المؤلف شخصية قاسم أمين بتناقضاتها المريبة والباعثة على الحيرة والشك، فهنالك ثلاثة كتب منسوبٌ تأليفها لقاسم أمين والفارق الزمني بينها ست سنوات لا غير، وهي كتب متنافرة يستحيل صدورها عن شخص واحد عاقل يتقلب هذه التقلبات الجذرية في بضع سنين.
فكتاب (المصريون) يدافع عن الإسلام بجدية وحماسة ومؤلفه يتجاوز الحق عندما يبرر عادات اجتماعية لاحقة على أنها من الإسلام.وبينما تراه هنا مصرياً وطنياً تجده بعد ذلك يفتري الكذب البواح بزعمه أن الاحتلال البريطاني حرر المصريين من الاستبداد!! ثم يهاجم ثوابت قطعية في الدين ويزدري اللغة العربية بصورة تستفز حتى المرء المنصف من غير العرب وغير المسلمين لأن حقده قائم على جهله بها إلى درجة تجعل طلبة المرحلة المتوسطة اليوم يسخرون من الأمثلة التي ساقها على أنها تخلف في لغة العرب عن لغات سادته الغاصبين.
وإذا كان كشك قد اختار قاسم أمين عن جدارة كنموذج لـ (غربة المهزوم) فإنه وصف علي عبد الرازق عن استحقاق بأنه (شاهد زور)، فلا جديد في كتابه التافه: الإسلام وأصول الحكم عما جاء لدى أسلافه المستشرقين سوى أن كتابه أشد ركاكة من لغتهم السقيمة، فكتابه فتنة لأنه أزهري ربما ينخدع العوام بهيئته ولقبه!!
ويقارن كشك بين بؤس عبد الرازق وضحالته وانعدام أمانة العلم عنده، وبين الشيخ الفاضل محمد الخضر حسين رحمه الله الذي رد على عبد الرازق وأفحمه بالحجج الناصعة، لكن هيمنة التغريبيين على الإعلام في ظل الطغاة جعلتهم يطمسون اسم عملاق كالخضر حسين ويضخمون تائهاً تافهاً مثل علي عبد الرازق الذي ليس له أي نتاج علمي باستثناء كتابه الفضيحة، والذي يرجح كثير من الباحثين أنه ليس من تأليفه ويقدمون لذلك شواهد وأدلة قوية تستحق التأمل والمناقشة.
وينسف المؤلف هراء عبد الرازق وجوقة المطبلين له من قبل ومن بعد، بمنطق سديد وحجج مُحْكَمة، وإن كانت سخريته اللذيذة لا تفارق سطوره من دون إسفاف، وللتمثيل فحسب، نكتفي بعبارته اللاذعة التي يفضح فيها انحطاط التفكير وغياب الأمانة لدى "فقيه التغريب والعلمنة" من خلال حديث عبد الرازق عن الصفة التي كتب بها الخليفة الأول أبو بكر الصديق إلى قبائل العرب، فيعلق كشك هازئاً بالشيخ المنحرف مستخدماً حتى كلمات عامية مقبولة في سياقها، يقول: (ومن الطبيعي جداً أن يُعَرّف أبو بكر من يكتب إليهم بصفته: من هو الذي يكتب إليهم وبأي صفة.هل كان يجب أن يكتب لهم: من أبي بكر الذي حل محل رسول الله في الدولة التي لم يُقِمْها رسول الله ليمارس الحكم الذي لم يمارسه رسول الله فلا تسمعوا ولا تطيعوا لَحْسَنْ الشيخ علي يزعل)!!
رحم الله محمد جلال كشك وجزاه خيراً عن تصانيفه –وأكثرها قيم ومتميز- وسوف يبقى الرجل ومؤلفاته شوكة في حلوق التغريبيين وسوف يبقى اسمه عَلَماً شامخاً بالرغم من مؤامرات التعتيم الرهيبة التي يخططونها وينفذونها، حقداً منهم على جرأته وقوة منطقه، وبخاصة لأنه بدأ حياته شيوعياً ملحداً أو نصف ملحد ثم هداه الله تعالى إلى الحق فثاب وأناب وسخّر قلمه السيال لنصرة الإسلام والذود عن أمته.