أبرزت أحداث الثورة السورية مجموعة من الشخصيات المعارضة التي اقتحمت أتون المعترك السياسي والدبلوماسي دون سابق خبرة أو معرفة، ووقع هؤلاء المعارضون في جملة أخطاء كان لها عميق الأثر في فقدان المجتمع الدولي ثقته بقدرة المعارضة على تقديم بديل ناضج للنظام.
ففي استحضار لدور رئيس "الجمعية السورية" شكري غانم الذي دعته فرنسا إلى مؤتمر السلام عام 1919 لإقناع الدول الغربية بعدم قدرة الأغلبية السورية على حكم نفسها؛ سربت بعض المصادر نص حوار دار بين شخصية سورية معارضة من طائفة الأرثوذكس مع وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلنتون عبر فيه عن قلق أبناء الأقليات من تزايد النبرة الدينية عند الأغلبية السنية، وطالب دول الغرب بالتعهد بحماية هذه الطوائف وتوفير الضمانات لها للمشاركة في الحراك الوطني، كما ربط انحياز الأقليات إلى الثورة بزيادة الدعم الغربي وعدم انفراد الدول "الإسلامية" بدعم المعارضة المسلحة حتى لا تفقد الثورة صبغتها "العلمانية"، وأضاف المصدر أن كلنتون قد استمعت لما قاله "المعارض"، ولكنها لم تعلق على مطالبه.
وفي خضم التصريحات غير المسؤولة؛ تسرب نص حديث "غير رسمي" لمعارِضة سورية مع مسؤولين غربيين هاجمت فيه الجيش الحر، وحذرت من مغبة الاستمرار في تسليحه، وتكررت مثل هذه التصريحات على لسان تلك المعارضة التي تتولى منصباً قيادياً في مجلس يدعم الجيش الحر، مما أدى إلى إثارة امتعاض بعض المسؤولين الغربيين الذين تحدثوا عن ضحالة التفكير الإستراتيجي لديها.
ويمكن استعراض العديد من هذه "التسريبات" التي تثير حفيظة المواطن السوري قبل أن تستفز الدبلوماسيين الغربيين الذين طالما تحدثوا عن ضعف أداء المعارضة وعدم استعدادها لاستحقاقات ما بعد سقوط النظام، لكن المشكلة الأكبر تكمن في صدور بيانات رسمية عن المعارضة، تتضمن نصوصاً تفتقر إلى أبسط مفاهيم الاحترافية في العمل السياسي، ولا تحترم مقتضيات السيادة الوطنية وثوابت المجتمع؛ ومنها وثيقة المرحلة الانتقالية التي تعرض رؤية المجلس الوطني لمرحلة ما بعد الثورة.
ويمكن استعراض أهم سقطات تلك الوثيقة في محورين رئيسين:
1-المحور الاقتصادي
في معرض الحديث عن الإجراءات التي سيتم اتخاذها بعد سقوط النظام؛ طلبت وثيقة المرحلة الانتقالية من الدول الأعضاء في مؤتمر أصدقاء سوريا: "التخطيط لمشروع مارشال لإعادة إعمار الاقتصاد السوري، وذلك من خلال تأسيس مجموعة عمل لترميم وتنمية الاقتصاد السوري، التي تكون مهمتها تأمين الدعم المالي والفني اللازم من أجل التحضير لقياس أثر الخراب الذي خلفه النظام السوري، والتنسيق بين الدول المانحة، وتحضير السياسات الاقتصادية والإصلاحية اللازمة، وإشراك رجال الأعمال في التحضير".
وحددت الوثيقة اختصاصات عمل المجموعة الدولية في القيام: "بعمل ترميم وتنمية الاقتصاد السوري بمساعدة سوريا لتكون إحدى القوى الاقتصادية الصاعدة في العالم، وذلك من خلال إعداد ثلاث خطط:
- خطة من اليوم الأول بعد سقوط النظام إلى ستة أشهر، وهي الخطة الإسعافية
- خطة من ستة أشهر إلى سنتين؛ خطة إعادة الإعمار
- 5 سنوات وهي الرؤية الاقتصادية المستقبلية في كل القطاعات".
وتكمن الخطورة في أن الوثيقة أعلاه تقدم تنازلات سيادية على مستوى إدارة الاقتصاد الوطني، حيث تخول دولاً خارجية صلاحيات شبيهة بتلك التي تخول لأنظمة الوصاية أو الانتداب، ومنها: ترميم وتنمية الاقتصاد السوري، والإسهام في تقييم خسائر مرحلة الثورة، والمشاركة في صنع القرار الداخلي فيما يتعلق بالسياسات الإصلاحية اللازمة!
والأدهى من ذلك هو أن تنص الوثيقة على منح هذه الدول الخارجية حق المشاركة في التخطيط واتخاذ القرار في الشأن الاقتصادي لمدة خمس سنوات تسهم من خلالها هذه الدول في تشكيل الرؤية الاقتصادية المستقبلية في كل القطاعات!
وبالنظر إلى فحوى ذلك النص تثور تساؤلات مقلقة عن مدى استيعاب المعارضة لأبسط مفاهيم السيادة على الاقتصاد الوطني؟ ومن الذي خول هذه الجهات حق تسليم الاقتصاد الوطني لمدة خمس سنوات إلى يد مجموعة دولية تتولى عملية التخطيط والتنمية؟ وهل يسوغ أن تتحدث الوثيقة عن هذه الدول وكأنها هيئات خيرية "تساعد" سوريا لتكون: "إحدى القوى الصاعدة في العالم"؟!
لا شك في أن الرؤية الاقتصادية التي تبناها المجلس تتضمن تجاهلاً للكوادر الوطنية السورية المشهود لها بالخبرة في مجالات التخطيط والتطوير والتنمية، ويبدو أن هاجس بعض أعضاء المجلس في تحقيق الاعتراف الدولي قد دفعهم إلى صياغة رؤية تتناسب مع رغبات الدول الصديقة أكثر من مواءمتها مع إمكانيات الشعب السوري الذي أثبت من خلال ثورته المشرفة القدرة على صياغة رؤية لمستقبل البلاد، وهو أمر لا يسوغ التنازل عنه إلى الحلفاء و"الأصدقاء".
وتكمن المشكلة في أن المجلس الوطني قد شرع في تطبيق بنود هذه الوثيقة بالفعل؛ ففي الاجتماع الأخير لمجموعة أصدقاء سوريا الذي عقد في أبو ظبي في شهر مايو 2012، حث المجلس الوطني الدول الأعضاء على: "تفعيل الحراك الدولي في إطار دعم التصور العام لمستقبل الاقتصاد السوري، ووضع الخطط الشاملة للنهوض بالدولة في الفترة التي تلي سقوط نظام الأسد".
وأعلنت دولة الإمارات العربية المتحدة وألمانيا في ختام الاجتماع تشكيل مجموعة عمل تتولى: "إعادة بناء وتنمية الاقتصاد السوري"!
كما تم إقرار خطط عمل مبدئية تضمنت:
- اتخاذ إجراءات فورية قصيرة المدى (في مرحلة ما بعد الأزمة) قدمها ممثل المملكة المتحدة!
- التنسيق بين المانحين وقدمتها المفوضية الأوروبية!
- رسم السياسات الاقتصادية وقدمها ممثل ألمانيا!
- دعم دور رجال الأعمال وقدمها ممثل دولة الإمارات!
أما دور ممثلي "المجلس الوطني السوري" فقد تمثل في الترحيب بتشكيل مجموعة العمل، والإعراب عن التزامهم بالتعاون الوثيق معها، مشيرين إلى أنهم سيقومون بالتحضير وبصورة مشتركة لمرحلة إعادة الإعمار الاقتصادي والتنمية في سوريا ما بعد الأزمة.
2-المحور الأمني والعسكري
تبدو في نص الوثيقة ثغرات خطيرة في استيعاب متطلبات الأمن في المرحلة الانتقالية، وذلك من خلال الفقرة التي تنص على: "تولي قوات الجيش الحر والقوات النظامية واللجان الشعبية حفظ الأمن خلال المرحلة الانتقالية بالإضافة إلى قوات حفظ سلام عربية أو دولية مشتركة"، حيث يتكرر الحديث عن الاستعانة بالعنصر الخارجي دون تحديد الحالة التي تسمح بذلك، والضوابط التي يمكن من خلالها أن تسهم في حفظ الأمن الداخلي.
ويتكرر الخطأ ذاته في الحديث عن دور القوات المسلحة في المرحلة الانتقالية حيث تنص الوثيقة على الاستفادة من: "القوات المسلحة النظامية التي لم تستخدم في أعمال القمع، مع قوى حفظ سلام عربية، للمساعدة في ملء فوري للفجوة الأمنية".
لقد استبعدت معظم الدراسات التي حاولت استشراف كيفية سقوط النظام عنصر التدخل العسكري الخارجي على النمط الليبي، ورجحت في الوقت ذاته إحدى حالات التحول في كل من: تونس، ومصر، واليمن، وذلك لأن دول الجوار السوري والقوى الغربية غير مستعدة للتدخل العسكري إلا في حالة توجيه ضربات جوية محددة، وإرسال عدد محدود من القوات الخاصة لتأمين أسلحة الدمار الشامل، أما مشاركة هذه الدول في عمليات برية واسعة فقد استبعد بالكامل.
فلماذا تبادر الوثيقة إلى شرعنة التدخل العسكري الأجنبي ومنحه حق المشاركة في "حفظ الأمن" دون ذكر الشروط والضوابط لمثل هذه الحالة الاستثنائية والتي لا تزال مستبعدة في حسابات الدول العربية والغربية على حد سواء؟
لقد خاض الشعب السوري ثورته لتحقيق الحرية والسيادة الوطنية في مواجهة النظام الذي استنجد بالمنظومة الإيرانية ضد مواطنيه، فهل يعقل أن تكون ثمرة هذا النضال وثيقة تُعدّ لإدخال قوى خارجية أخرى دون ضوابط أو شروط؟
كما يظهر الخلط المقلق في المفاهيم لدى حديث الوثيقة عن إمكانية: "الاستعانة بقوات حفظ السلام من الدول المجاورة لسورية لتنسيق جهود تأمين الحدود"، حيث لا تميز بين مفهوم قوى حفظ السلام بتخويل أممي، وبين التنسيق مع الدول المجاورة لحفظ الحدود المشتركة، بل إن الوثيقة تفترض خطأ أن "الدول الصديقة" ستشكل قوة عسكرية تأتمر بأمر السلطة الانتقالية، إذ تنص على أن: "تقوم السلطة الشرعية الجديدة على الفور بإرسال قوات حفظ سلام دولية أو مشتركة لتأمين المناطق التي قد تشهد عمليات انتقام طائفي خلال الفترة الانتقالية في المناطق الموالية للنظام من أجل حماية السكان"!
تبدو مفاهيم الأمن الداخلي والأمن الإقليمي مختلطة على من صاغ نص هذه الوثيقة، إذ إنها تتحدث عن عدة صيغ من التدخل العسكري الأجنبي لحفظ الأمن وحماية المواطنين وحراسة الحدود، دون أن تذكر آلية التفويض التي ستتحرك بها هذ القوى الخارجية داخل البلاد، خاصة وأن الوثيقة تعد هذه القوى الخارجية بتمكينها من الاشتراك في: "السيطرة على أعمدة الأمن الرئيسية، مثل إغلاق الحدود البرية والبحرية وإغلاق المجال الجوي، وتأمين الأماكن والمؤسسات الحيوية والمقرات الحكومية الحساسة، والسجون، والمطارات، ومنشآت الطاقة، وتأمين أماكن الأسلحة الخطيرة الكيميائية والبيولوجية... إلخ"!!
استحقاقات المرحلة الانتقالية وتبعاتها
يمكن الإحالة إلى مجموعة من الوثائق والبيانات التي أصدرتها أطياف من المعارضة الخارجية في منأى عن الشعب السوري، وكانت السمة الأغلب لهذه المبادرات هي خطب ود الخارج دون أخذ الاعتبارات الداخلية بعين الاعتبار.
ولا شك في أن سياسات نظام أسد الخرقاء قد حولت الجمهورية السورية إلى "دولة ساقطة" بالمفهوم الإستراتيجي، حيث تواجه هذه الدولة عداوة مستحكمة مع الشعب وتشن ضده حرباً شاملة في سائر المحافظات، وقد نتج عن تلك السياسات الفاشلة انهيار أعمدة الدولة المتمثلة في الإدارة الداخلية والاقتصاد الوطني والأمن وحماية الحدود، مما سيفرض على الحكم الانتقالي طلب الدعم الاقتصادي والأمني.
إلا أن الضعف الذي ينتاب الكيان الجمهوري لا يمثل مبرراً لدى زعماء المعارضة في التنازل عن مقومات السيادة الوطنية في الأمن والدفاع وإدارة الاقتصاد الوطني، بل يتعين على المعارضة أن توضح الضوابط والشروط الاستثنائية لإتاحة الحد الأدنى من التدخل الخارجي، والحصول على الدعم الخارجي دون خرق للسيادة الوطنية.
ولا بد من الاعتراف بأن خطاب المعارضة السورية لا يرقى إلى مستوى الثورة، ولا يقدم البديل المقنع لنظام يوشك على الانهيار، فوثيقة المرحلة الانتقالية تعكس مراوحة الخطاب المعارض في المنظومة السياسية التي قامت الثورة لأجل استئصالها.
ومن حق الشعب السوري أن يطمح إلى رؤية سياسية تتعامل مع الملفات العالقة مثل: توتر علاقة الدولة بالمجتمع، ومشكلة علاقات المجموعات الإثنية والمذهبية مع أغلبية المجتمع، ونزوع الأقليات إلى المبالغة في مطالبها، وآليات الفكاك من الارتباط بالمحور الإيراني في المنطقة، ومن ثم كيفية إعادة بناء منظومة إقليمية جديدة تقوم على الأمن التعاوني والأمن المشترك، ولتحقيق ذلك فإنه لا بد من أن تتضمن مشاريع إصلاح المجلس الوطني إعادة النظر في الائتلافات السياسية الهشة التي شكلت زعامته، وصراعات القوى بين أحزاب ينتمي بعضها إلى الإرث السياسي الذي قامت الثورة على نبذه والتخلص منه، ولا بد من نظرة جدية إلى استقطاب عناصر ذات خبرة في الإدارة المحلية وعلم بالنظريات السياسية والإستراتيجيات الدولية ومفاهيم الأمن وخبراء الاقتصاد لاستدراك النقص الذي ظهر جلياً في وثيقة المرحلة الانتقالية.
وبدلاً من السعي إلى خطب ود القوى الخارجية ومحاولة تحقيق الاعتراف الدولي يتعين على القوى الوطنية أن تتبنى مشروعاً سياسياً شاملاً يهدف إلى استعادة مكانة سوريا كمحور توازن إقليمي، بحيث يكون الشعب السوري هو محور هذه الإستراتيجية، فهو الذي أطلق الثورة، وهو الأقدر على الأخذ بزمام المبادرة في مقابل الأطراف الإقليمية التي تسعى للتوافق فيما بينها لتحقيق مصالحها وحماية أمنها واستقرارها.
ولا يتحقق ذلك للمعارضة الخارجية إلا من خلال تقوية آليات التواصل مع الداخل السوري، وحشد جميع المكونات الشعبية: السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والثقافية والديبلوماسية لطرح نفسها كطرف في المعادلة إذا أرادت أن تمثل البديل، والعمل على تأسيس ثقافة سياسية وإعلامية ناضجة تنبع من الداخل، ولا ترتكز في شعاراتها على استجداء التدخل الدولي، ومطالبة الأطراف الخارجية بمواقف لا تحقق مصالحها، فمصدر قوة المعارضة لا يأتي من اعتراف دولة أو تردد أخرى، وإنما تنبع من تخويل الشعب السوري لها في الداخل والخارج، ومن قدرة هذه القوى على التواصل مع أبناء شعبها.
وتتمثل المعضلة الأكبر في تركيز القوى الوطنية على تحقيق الاعتراف الدولي بها قبل أن تستكمل بنيتها الأساسية، وسعيها لأن تصبح ناطقة عن طموحات الشعب ومطالبه دون استيفاء جهود التواصل مع مختلف أطيافه، ونتيجة لذلك فهي لا تزال بعيدة عن استيعاب أبعاد المعادلة الإستراتيجية.