هيجليج: معركة ترسيم الحدود ؟!
22 جمادى الثانية 1433
طلعت رميح

تبدو المعارك العسكرية للسيطرة على منطقة هيجليج، واحدة من اهم الاحداث التى سترسم معالم الوضع الاستراتيحى والكلى للسودان ما بعد الانفصال او ما بعد المرحلة الاولى من تفكيك هذا البلد .ولن تقتصر تاثيراتها على رسم العلاقة الحالية والمستقبلية بين السودان الشمالى والسودان الجنوبى. لقد شنت قوات الحركة الشعبية المسيطرة على الجنوب اعتداءها وانجزت احتلالها لهيجليج رغم انها منطقة غير متنازع عليها مع السودان الشمالى، بل هى منطقة مستقر على ملكيتها واستقرارها فى داخل الجزء الشمالى او ضمن ارض السودان الشمالى بلغة اليوم، ومن بعد اعلن السودان الشمالى التعبئة العامة ووصل حافة الحرب مع الجنوب، وقام الجيش السودانى بالهجوم وتحرير المنطقة وطرد قوات الحركة الشعبية .وبعد تحريرها اصدر اعلانا بالقبض على خبراء اجانب وفدوا مع قوات الحركة الشعبية متخصصين فى مجال التخريب التقنى الممنهج للمنشات البترولية، بما القى ظلالا كثيفة حول طبيعة الهجوم الجنوبى على هيجليج وعلى القوى المساندة وربما التى خططت لهذا الهجوم .

 

جاءت مباغتة الهجوم العسكرى الجنوبى، من حدوثه فى وقت كان يجرى التفاوض فيه بين وفدين للشمال والجنوب على الاراضى الاثيوبية، كما جرى الهجوم فى وقت كانت تجرى فيه تحضيرات لزيارة رئيس الجنوب سلفاكير للخرطوم، لاجراء مفاوضات مع الرئيس البشير بهدف احداث دفعه للمفاوضات المباشرة الجارية فى اثيوبيا .وكذا جرى الهجوم فى وقت بدى للجميع ان الامور تسير نحو تهدئة عامة بعد تدخل المبعوث الافريقى وبدء حلحلة بعض القضايا الخلافية  فى المفاوضات .

 

وكان اللافت ان حملت التصريحات التى صدرت عن قيادة الجنوب عقب القيام باحتلال هيجليج، دلالات مهمة وواضحة تكشف ابعاد خطيرة لهذا الهجوم .لقد اعلن الجنوب ان منطقة هيجليج تتبع ارض الجنوب لا الشمال وان ما جرى ليس الا استعادة لارض مستولى عليها من قبل الشمال .كما صدر تصريح اخر يقول، ان القوات الجنوبية لن تنسحب من هيجليج، الا اذا انسحبت قوات الشمال من منطقة ايبى المتنازع عليها على الحدود بين البلدين، وهو ما اكد توصيفا بان عملية احتلال هيجليج جاءت فى اطار المساومة على ايبى بصفة مباشرة، وان هذا العدوان العسكرى جاء على خلفية الضغط التفاوضى لاجل حل القضايا المعلقة بين الطرفين وبشكل خاص قضية ترسيم الحدود .فهل الامر كذلك، ولم نقول ان ما جرى سيرسم مستقبل العلاقات استراتيجيا وكليا ولن يقتصر تاثيره على حل قضية الحدود وعلى المفاوضات الجارية حاليا.

 


القضايا العالقة

واقع الحال ان الحركة الشعبية شكلت دولة فى اقليم الجنوب وصار معترف به دوليا فى نهاية مطاف مرحلة انتقالية وافق عليها الطرفان فى اتفاقات وبرتوكولات نيفاشا، غير ان السنوات الانتقالية الخمس –التى اتفق عليها فى الروتوكولات-لم ينجز خلالها صياغة علاقة انفصال حقيقية وناجحه تؤسس لعلاقة ثابتة ومستقرة، بين الشمال والجنوب، الا على صعيد انسحاب القوات الشمالية من الجنوب واقرار الشمال للجنوب بحقوقه كدولة .

 

لقد اصطف الجنوب خلال تلك الفترة الانتقالية الى جانب اى وكل قوة خارجية او داخلية كانت تعمل لاسقاط الحكم فى الشمال، الذى كان يسارع الخطى للاسف لانجاز فصل الجنوب، هروبا للامام من حالة الحصار الاستراتيجى التى تعرض لها، اقتصاديا وسياسيا وداخليا عبر تمرد دارفور وضغط القوى السياسية الشمالية وبسبب تقديم الرئيس البشير للنيل منه امام المحكمة الجنائية الدولية ..الخ .

 

وخلال تلك المرحلة الانتقالية لم يترك الجنوب للشمال فرصة حقيقية للتفاوض حول قضايا ما بعد الانفصال السياسى والجغرافى، اذ اعتمدت قيادة الجنوب استراتيجية تقوم على تعليق كل القضايا وغدم حسم ابا منها، الى حين ان تكتسب مشروعية دولية عبر حالة الانفصال ولكى يكون لها جيشها المستقل لتحقيق مكاسب اعلى خلال التفاوض اللاحق ما بعد التقسيم او بعد ان تحصل على الدولة.ولذا ظلت قضايا الحل النهائى –باستعارة التعبير من المفاوضات الفلسطينية الصهيونية-معلقة لكى يتمكن الجنوب من بعد من اثارتها فى الوقت الذى يراه اكثر مواتاة له على صعيد استراتيجية تحقيق اهدافه .

 

لقد كانت -وما تزال -قضية الحدود عالقة بين الطرفين، والان يثير الجنوب قضية الحدود وفقا لمرجعيات ما فعله المستعمر البريطانى بعد اقراره وتنفيذه قانون المناطق المقفلة فى عام 1920 .الجنوب يبادل حدود عام 1956 بحدود عام 1925، ليختار ايها الافضل له او لتعطيل المفاوضات والقفز على الاتفاقات التى حددت اسس التفاوض على تلك الحدود فى اتفاقيات نيفاشا .وفى التفاوض حول قضية نصيب الجنوب فى ديون الدولة التى انفصل عنها، تمترس الجنوبيون عند عدم تحملهم اى نصيب فى تلك الديون، وهو ما كان يعنى بالنسبة للشمال فى حال اقراره، عدم القدرة على التسديد والتحول الى دولة مدينة على نحو ينهى قدرتها على استمرار البقاء تقريبا، اذ الجنوب يكون قد حصل على مصادر الثروة النفطية من جهة وافلت من تسديد الديون من جهة اخرى، وترك الشمال متحملا دين الجنوب وبلا مصدر لسداد تلك الديون .وهكذا كان الحال فى قضية الجنسية وعدم عودة الجنوبيين ومن يتحمل كلفة عودتهم، كما ظلت قضية رسوم عبور نفط الجنوب من اراضى الشمال ذاهبا للتصدير الى الخارج، قضية معلقة هى الاخرى .

 

والاهم فى كل ذلك ان احداث هيجليج لم تكشف لم ماطلت قيادة الحركة الشعبية فى الوصول الى حل لكل تلك القضايا خلال السنوات الخمس التى مضت، او انها لم تكشف فقط ان استراتيجية قيادة الجنوب رات الانتظار الى ما بعد الانفصال لتصبح فى وضع اقوى، بل هى طرحت بعدا جديدا فى تلك الاستراتيجية يقوم على فكرة التحول الى حالة الهجوم والضغط العسكرى او الاعتماد على استخدام القوة العسكرية لتحقيق اهداف استراتيجية ابعد من فكرة ترسيم الحدود والثروة النفطية والجنسية وغيرها، وان هذه المعركة كشفت عن الاستراتيجية الحقيقية للجنوب، والتى تقوم على ممارسة الضغط والفعل العسكرى لتفكيك السودان الشمالى وانهاء وجوده، وفقا لتلك التصورات التى كان اعلنها جون جارانج زعيم حركة التمرد فى الجنوب وهى انهاء الهوية العربية الاسلامية للسودان كله ..لا فصل الجنوب فقط، ايا كانت حدوده والمناطق الجغرافية وطبيعة الثروة النفطية التى حصل عليها .

 

ما قبل هيجليج
لقد سجل هجوم جيش الجنوب على الشمال، تحولا استراتيجيا يجرى لاول مرة فى تاريخ الصراع .كان الصراع يجرى تاريخيا على اساس وجود جيش السودان فى كل ارجاء السودان، وفى وضع المطاردة لقوات الحركة الشعبية فى الجنوب –مثل ما هو حادث فى دارفور حاليا -وكان جيش الحركة يمارس بالمقابل لعبة الكر والفر الاستراتيجى مع هذا الجيش .وحين تم الاتفاق على الانفصال او التقسيم كان مضمون الرؤية للوضع الجديد ان يتوقف جيش الشمال عن الانتشار والمطاردة لقوات الحركة بالمقابل فى ارض الجنوب، غير ان الهجوم الاخير سجل تحولا تقوم فيه قوات الجنوب على الهجوم على ارض الشمال واحتلال جزء من ارض الشمال، وهو ما يعنى حدوث تغيير هو الاخطر منذ بداية ازمة الجنوب فى عام 1955.  
لا يمكن فهم ابعاد معركة هيجليج بالنظر اليها فى ذاتها، كمعركة عسكرية او كنمط من انماط تسوية ملفات الخلافات الحدودية، بل من خلال فهم دور الحركة الشعبية عسكريا واستراتيجيا فى تفكك دولة الشمال، وانهاء وجود هذا الكيان العربى .

 

تلك المعركة لا يمكن فهمها الا فى اطار فهم اسباب استمرار وجود لوائين عسكريين من قوات الجنوب على ارض الشمال، يعملان ضمن ما سمى بفرع الشمال فى الحركة الشعبية، وهما يعملان بشكل خاص فى النيل الازرق وجنوب كردفان، اى ان الحركة الشعبية ما يزال لها قوات تقاتل بالتحالف مع اشكال تمرد اخرى ضد دولة الشمال، كما لا يمكن فهم معركة هيجليج دون ادراك خطورة ما اعلن عن وجود قادة حركات التمرد من مختلف ارجاء السودان على ارض الجنوب وتوفير كل الحماية والتمويل والتدريب والتسليح لها .وكذا لا يمكن فهم معركة هيجليج دون ادراك مغزى عرض الكيان الصهيونى على الامم المتحدة توفير جنود صهاينة جاهزين للمشاركة فى حماية اتفاقات وحدود الشمال مع الجنوب او للتواجد ضمن اطار قوات الامم المتحدة فى المناطق المتنازع عليها، وكذا لابد من ادراك مغزى ان كانت اول زيارة لرئيس الجنوب الى تل ابيب وان افتتاح سفارة الجنوب لدى الكيان الصهيونى، لم يجر فى تل ابيب بل فى القدس –وهو ما لم تفعله امريكا نفسها حتى الان-وان تسليح وتدريب جيش الجنوب يجرى اسرائيليا وامريكيا..الخ .

 

المعنى الاستراتيجى الانقلابى هنا، ان جيش الجنوب الذى حدد استراتيجية هجومية ضد الشمال واحتل جزء من ارضه، وتاتى خطورته مرتبطة بتنامى علاقات الجنوب مع دول معادية للشمال، ومرتبط باستراتيجيات تلك الدول التى كانت هى صاحبة الدور الاساس فى دعم حركة التمرد فى الجنوب والتى قامت بالضغط على السودان واحاطته استراتيجيا وتهديده عسكريا حتى رضخ لخطة لخطة فصل الجنوب، وهو ما يعنى اننا امام استراتيجية متكاملة مترابطة نامية او متصاعدة باتجاه تفكيك السودان ولسنا امام معركة ترسيم حدود .

 

ما بعد هيجليج
معركة احتلال هيجليج سجلت نمطا جديدا فى العلاقة الاستراتيجية بين الشمال والجنوب تنعكس فيها عوامل القوة والقدرة والرؤية، وتتحول فيها دولة الجنوب الى نقطة ارتكاز استراتيجى فى استمرار المخططات المعادية للسودان .وهى ان كانت قد بدت نقطة ضغط لاجل تحقيق مصالح حدودية او للضغط على عصب الاقتصاد السودانى لاضعاف الحكم امام الجنوب لكى يسلم بطلبات الجنوب، لكن الاساس الذى وضع هنا، ان ثمة مرحلة جديدة من الصراع لاجل تفكيك السودان، وان المعركة كانت اعلانا باطلاق قاعدة لوجستية هى دولة جنوب السودان لخدمة الخطط الغربية ضد السودان، او كانت اعلانا بتحول الحركة الشعبية من خدمة المخططات الغربية ضد السودان، من خلال استراتيجية الانهاك على ارض الجنوب الى حركة مرتكزة الى ارض ومشروعية دولة، ومن مجموعات من العصابات الى جيش نظامى متطور متصاعد القوة،  وهو ما يعنى قوة واندفاع للمخططات المعادية للسودان.

 

لقد صدرت تقديرات سودانية بان الهجوم الذى شنته قوات جنوب السودان، جاء مدعوما من دول فى الاقليم خاصة اوغندا، ومن دول اخرى خارج الاقليم لم تحدد بالاسم من قبل المسئولين السودانيين .هذا التقدير السودانى يعنى ان ثمة تحالفا اقليميا ودوليا صار يطلق النار على السودان من ارض الجنوب.

 

لقد تحولت دولة الجنوب الى قاعدة استراتيجية للكيان الصهيونى والولايات المتحدة وحلفاؤهم فى الاقليم خاصة اوغندا واثيوبيا، لانفاذ خططهم بشان السودان وفى الاقليم ايضا .وهو ما يطرح تساؤلات حول الوضع فى هذا الاقليم .اذ صار الخط الواصل بين تل ابيب وواشنطن واديس ابابا واوغندا وجنوب السودان، يمثل حلفا استراتيجيا كبيرا وخطيرا، اذا وضعنا فى الاعتبار ما تقوم به اثيوبيا فى القرن الاقريقى وما تقوم به اوغندا فى منطقة وسط افريقيا .
معركة هيجليج، اعلام بتحولات استراتيجية كبرى، سيكون اول اهدافها، تفكيك السودان وانهاء ما تبقى له من تماسك !