درجت الكتابات السياسية المعاصرة على تحميل نظام البعث مسؤولية تعطل الحياة السياسية في سوريا، وتدهور النشاط الحزبي، وغياب منظمات المجتمع المدني.
لكن تطورات الثورة السورية قد ألقت الضوء على مجموعة من الظواهر السلبية الأكثر تجذراً في الممارسة السياسية وفي بنية الكيان الجمهوري الذي ارتبط منذ ظهوره بمعادلة إقليمية يصعب الفكاك منها؛ إذ إن الأهمية الإستراتيجية لسورية تمتد إلى أقاصي الحدود السياسية للعالم العربي، وتقع على خط المحور الرئيسي لإستراتيجيات القوى الكبرى.
ويعاني البحث العلمي المعاصر من ندرة الدراسات التي تُعنى بتأثير العوامل الداخلية على الأمن الإقليمي والدولي، ويأتي ذلك النقص كنتيجة لعدم اعتراف مدارس "الواقعية" و"الليبرالية" بوجود عوامل مؤثرة على الأمن الدولي خارج إطار الدول، لكن مجريات الأحداث منذ 11 سبتمبر 2001 قد أكدت وجود عناصر فاعلة خارج هذا الإطار، ومن أبرزها: العلاقة بين القوميات والدول، وتعامل المجموعات الإثنية والمذهبية فيما بينها ضمن إطار المجتمع، وارتباط الفرد بالدولة وشعوره فيها بالمواطنة والانتماء.
وعلى الرغم من التدخل الخارجي في ثورات تونس ومصر وليبيا واليمن؛ إلا أن استعار خلاف المجتمع الدولي حول الحالة السورية واصطفافه في معسكرين متنافسين؛ قد أثبت ضرورة تقصي تأثير التطورات المحلية على الأمن الدولي، ومن ذلك: دور العناصر غير التابعة للدول في تأجيج النزاعات الإقليمية وتأثيرها على منظومات الأمن العالمي، وأثر التفاعلات الداخلية في تأجيج الخلافات الإقليمية، إضافة إلى النزعات الانفصالية، والفتن الطائفية، ومشاكل الحدود.
وكان محمد أيوب قد نشر دراسة قيمة حول تأثير المشاكل الداخلية على الأمن الدولي، أشار فيها إلى أن الجمهوريات الحديثة قد عانت من نقص تجربتها في تشييد أركان الدولة القومية إثر انفكاكها عن تراثها التاريخي، وأدى قصر تجربة بناء الدولة وتطور أنظمة الحكم إلى ارتكاز الدول الحديثة على قواعد ضيقة من الفئات الحاكمة التي تستند إلى القوة العسكرية وليس إلى التأييد الشعبي، ونتيجة لذلك فإن مهددات الأمن لهذه الدول غالباً ما تأتي من الداخل بسبب ضعف بنيتها وعدم قدرتها على تشكيل علاقة متوازنة بين الدولة والمجتمع، ثم تأتي عوامل: الضعف الاقتصادي، وسوء توزيع الثروة، والتوتر بين مختلف المجموعات الإثنية والمذهبية داخل المجتمع كأمراض فتاكة تنخر في جسد هذه الدول، وتمنعها من تشكيل نظام أمني متوازن، وتؤثر بدورها على منظومات الأمني الإقليمي.
وتجمع الدراسات المعاصرة على أن هذه الأمراض قد تمكنت من جسد النظام السوري وآذنت بانهياره؛ إلا أن فشل المعارضة في توفير بديل سياسي ناضج يدرأ عن دول الجوار مخاطر الانفلات الأمني قد أخر ذلك السقوط.
وعلى الرغم من أهمية التفاعلات السياسية المعاصرة، وما ستسفر عنه هذه التفاعلات من تأثير على مستقبل البلاد؛ إلا أنه لا بد من التأكيد على أن مشاكل الممارسة السياسية في سوريا تعود إلى فترة سابقة لحكم البعث (1963-2012)، إذ إن الأحزاب السياسية في حقبة الانتداب (1920-1946) وفترة الحكم الديمقراطي (1946-1963) قد عانت من مشاكل مستعصية على الأصعدة الجيوسياسية، والبنيوية، ويمكن تفصيل أبرزها فيما يأتي:
إشكاليات الجغرافيا وتأزم العلاقة مع المحيط الإقليمي
كانت فترة الانتداب الفرنسي حاسمة في تاريخ سورية الحديث، ففي هذه الفترة وضعت أسس نظامها الجمهوري الوليد، ورسمت حدوده، ونشأت مؤسسات الحكم، وتم انتخاب أول رئيس للجمهورية سنة 1932، وأقر فيها أول دستور للبلاد.
وفي هذه الأثناء سعت سلطة الانتداب الفرنسية إلى ترسيخ هيمنة الأقليات، فأنشأت مجموعة من الدويلات الطائفية، وقسمت الحدود فيما بينها لتعطي الكانتونات الطائفية الصغيرة القدر الأكبر من موارد الحياة، ونتيجة للمظالم التي استحدثتها فرنسا في خارطة الكيان السوري؛ لم يبق للجمهورية الحديثة من ساحل الشام الممتد أكثر من 800 كم بين كلكيلية وسيناء سوى 183 كم، أما الباقي فقد توزعته كل من: فلسطين على طول 240 كم، ولبنان على طول 200 كم، ولواء الاسكندرونة الذي يمتد ساحله لمسافة تزيد عن 200 كم، وبذلك فقد حيل بين مناطق سورية الداخلية والمنافذ البحرية لها، فحرمت دمشق على سبيل المثال من الوصول إلى مينائي حيفا وبيروت القريبة منها، وحرمت حمص من الوصول إلى ميناء طرابلس، وحرمت حلب من الوصول إلى ميناء الاسكندرون القريب منها.(1)
وبمجرد استقلال سوريا عن الحكم الفرنسي سنة 1946 وجد رجال الحكم المدني أنفسهم في مأزق كبير؛ إذ أصبح من المتعين عليهم لدى تسنم المناصب العليا في الدولة أن يقسموا على صيانة الكيان الذي كافحوا لمنع قيامه طوال فترة الانتداب، وكانت غالبية الأحزاب السورية التي نشأت في تلك الفترة غير مؤمنة بإمكانية استمرار الكيان الجمهوري وفق الصيغة التي رسمها لهم الاستعمار، فكانت برامجها السياسية تمني المواطن السوري بالتوصل إلى نمط من أنماط الوحدة العربية التي يمكن أن تحقق الاستقرار المنشود الذي سلبته منهم سياسة الحلفاء من خلال ترسيم الحدود السياسية وفق أهوائها؛ فقد تبنى الحزب القومي السوري تحقيق مشروع سورية الكبرى، ووضع حزب البعث من أهم أهدافه تحقيق الوحدة العربية، في حين كان غالبية أعضاء حزب الشعب يميلون نحو تحقيق فكرة الهلال الخصيب، وعمد الحزب الوطني إلى التقارب مع السعودية ومصر لمنع قيام وحدة تتسبب في حدوث اختلال توازن إقليمي، وفي هذه الأثناء كانت تداعب الكثير من الساسة أحلام إعادة توحيد بلاد الشام بإقامة مملكة هاشمية كبرى.
وفي أتون الصراع الإيديولوجي حول كيفية تحقيق الوحدة أصبحت أطراف الطيف السياسي والعسكري في سوريا تتراشق تهم: "الخيانة" و"العمالة" و"التآمر" وغيرها من الكلمات التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من قاموس المصطلحات السياسية السورية في مرحلة ما بعد الاستقلال، ونتيجة لتلك التشوهات الجسدية في بنية الكيان الجمهوري؛ فقد ورثت سوريا في عهد البعث علاقات متأزمة مع جميع دول الجوار، وتعامل نظام آل أسد بعدوانية ملفتة مع النظامين العراقي والتركي، وسعى إلى التدخل في الشؤون الداخلية للأردن، وزج بقواته في لبنان، كما حاول احتكار القضية الفلسطينية في سياسته تجاه الكيان الصهيوني.
ونتيجة لتراكم أخطاء السياسة الخارجية؛ فقد تعامل النظام السوري بحساسية كبيرة تجاه أي عمل سياسي سوري أو عربي يأتي من الخارج، كما شنت أجهزة استخباراته حملة تصفيات طالت العديد من خصومه خارج القطر السوري.
ومن الملفت للانتباه أن تكون مشاكل تأثير السياسيات الخارجية على الشأن الداخلي هي أول بوادر الخلاف بين قوى المعارضة السورية في مرحلة الثورة الثانية (2011-2012)، حيث برزت إشكاليات تحديد الموقف من التدخل العسكري، وطلب الحماية الدولية، والتدخلات الإيرانية والروسية، كمسببات رئيسة للخلاف بين الأطراف المعارضة.
البنية الديمغرافية والتوزيع السكاني
اتبعت الدولة العثمانية مع الأقليات الدينية في بلاد الشام نظام "الملة" الذي منحهم قضاءهم المستقل وإدارتهم الخاصة، واعترفت لهم بـحماية قناصل الدول الغربية، وعندما قامت الدولة القومية في العهد الفيصلي دعت إلى إلغاء هذه الامتيازات ولم تظهر أي مراعاة للخصوصية التي كان يدعيها أبناء الطوائف، ولذلك فقد طالب النصارى في لبنان بحكم مستقل، وبينما كان النصارى البروتستانت في سورية يميلون نحو الإنجليز؛ كان الكاثوليك يفضلون الانتداب الفرنسي.(2)
وأظهرت بعض الأقليات الإثنية من الشركس والأكراد والأرمن قدراً مماثلاً من الضغينة لدعاة الفكر القومي، حيث دأبت السلطة الفرنسية على تجنيدهم في جيش الشرق لقمع الثورات التي اندلعت ضد الاحتلال في مختلف المحافظات السورية.
وتجد المعارضة السورية اليوم نفسها في موقف مشابه؛ حيث تواجه صعوبة كبيرة في استقطاب الجزء الأكبر من أبناء الطوائف والأقليات التي لا تزال تقف على هامش الثورة، وتعبر عن قلقها من تولي الأغلبية السنية حكم البلاد، مما يمكن أن يفقدها الكثير من المميزات التي تمتعت بها منذ زمن بعيد.
ولا بد من التأكيد على أن مشكلة الأقليات لا تقف عند مطالب هذه الفئات بالمحافظة على الامتيازات التي منحها لهم النظام الفرنسي ورسخها حكم آل أسد، بل تمثل في حقيقتها مشكلة ديمغرافية يتعين التعامل معها بواقعية وحذر؛ فقد أدى تفوق عنصر الأقليات في المؤسسة العسكرية إلى هيمنة هذه الفئات على الحكم المدني في فترة الانقلابات العسكرية، مما أدى إلى ظهور العنصر العسكري-الطائفي في إدارة البلاد.
وفي مقابل تدهور الحياة السياسية وفشل الأحزاب المدنية؛ مثلت "الطائفة" لهذه الأقليات المحضن الآمن أمام التقلبات السياسية، إذ كان الانتماء إلى الأقليات الطائفية لا يقتصر على الانتماء الاعتقادي فحسب، بل كان يمثل انتماء إقليمياً وعشائرياً لأبناء الطوائف في آن واحد، ولا بد من التأكيد على أن هذه المشكلة لا تعود إلى فترة حكم نظام البعث، بل هي متجذرة في بنية الكيان الجمهوري منذ ولادته، ولابد من التعامل معها من هذا المنظور؛ فعلى الرغم من أن أبناء الطوائف كانوا يشكلون أقليات صغيرة في سورية إلا أنهم تمتعوا بميزات لم تكن متاحة للأغلبية من أبناء السنة، حيث مثلت الطوائف بالنسبة لهم انتماء اعتقادياً-عشائرياً-إقليمياً، وهو الأمر الذي لم يكن متاحاً للمسلمين السنة أو حتى للمسيحيين، وسيكون من الصعب إقناع هؤلاء بالتنازل عن مكتسباتهم، أو تحقيق نمط من التمثيل السياسي المدني في المحافظات (أو الأحياء) التي تكثر نسبتهم فيها، وقد لخص هذه المشكلة القنصل البريطاني في دمشق عام 1945 بقوله:
"لقد أفسد الفرنسيون أبناء الطوائف بإضفاء الحماية عليهم وتفضيلهم على غيرهم، وبالتالي زرعوا في نفوسهم الشعور بالاستعلاء مما جعلهم يبالغون في المطالبة بحقوقهم أو التعبير عن مظالمهم. وإذا استطاع هؤلاء أن يتخلوا عن هذه المشاعر والتصرف على أساس أنهم مواطنون سوريون بالدرجة الأولى فإنه لن يكون هناك مبرر لشعورهم بالخوف".(2)
ضعف الأحزاب السياسية ومؤسسات الحكم المدني
كانت معارضة الانتداب الفرنسي هي العامل الذي وحد الكثير من الأحزاب السياسية ووضعها في خندق واحد، إلا أن هذه الأحزاب لم تثبت جدارتها في المرحلة التي أعقبت الاستقلال، ففي غضون ثلاث سنوات؛ فشلت خمس حكومات مدنية في مواجهة التحديات السياسية والاقتصادية.
وشهدت الفترة: 1949-1954، تشكل نحو إثنا عشر حكومة، تراوحت مدتها بين سبعة أشهر ويوم واحد (!)، وكذلك كان الحال في السنوات التسع الممتدة ما بين عامي 1961 و1970؛ حيث تشكلت سبعة عشر حكومة تراوحت مدة أغلبها ما بين سبعة أشهر وشهرين.
وتعود المشكلة إلى هشاشة بنية الأحزاب المدنية في مقابل الدعم الذي حظيت به المؤسسة العسكرية في فترة الانتداب؛ فالأحزاب الرئيسة كحزب الشعب والحزب الوطني لم تكن تتبنى إيديولوجية محددة، ولم يعتبرها المراقبون سوى ائتلاف بين أطراف سياسية واقتصادية مستفيدة تسعى إلى استبعاد مناوئيها عن السلطة بشتى الوسائل، وقد أدى ذلك إلى ظاهرة تقلب الولاءات السياسية بين أعضاء البرلمان، وتذبذب السياسة السورية بين اليمين واليسار دون وجود عنصر توازن للنظام الجمهوري.
وقد انعكست حالة الفوضى السياسية بصورة مروعة في انتخابات سنة 1947 حيث تنافس 1800 مرشح على 140 مقعداً، وسادت أحداث العنف في سائر أنحاء البلاد، وأسفرت الانتخابات عن مجلس مفكك كانت غالبية أعضائه من المستقلين.
وعلى إثر انعتاق القطر السوري من خمسة أنظمة انقلابية عسكرية في الفترة: 1949-1954؛ عقدت انتخابات نيابية أخرى تنافس فيها تسعمائة مرشح على 142 مقعداً، وأسفرت عن عجز أي كتلة في تحقيق أغلبية تمكنها من تشكيل الحكم.
وبالإضافة إلى ضعف التأصيل الإيديولوجي وتغلب النزعة الفردية لدى الأحزاب السورية، انتشرت بين الأحزاب الأصغر حجماً ظاهرة الارتباط بالعسكر والتغلغل في صفوف الجيش السوري، كطريق أقصر للوصول إلى سدة الحكم، فقد كان الشعور السائد لدى أغلب السياسيين بأن مفاتيح السلطة بيد المؤسسة العسكرية مما دفع بالعديد من المغامرين السياسيين لزج الجيش في أتون المعارك الانتخابية وتشجيع الفكر الانقلابي، وكان لزعماء حزب البعث والحزب القومي السوري النصيب الأوفر من التمثيل في صفوف الجيش.
وكانت الظاهرة الأبرز في فترة ما بعد الاستقلال هي كثرة الانقلابات العسكرية، حيث شهدت سوريا خلال الإحدى وعشرين عاماً الممتدة منذ سنة 1949 وحتى 1970 إحدى وعشرون انقلاباً ومحاولة انقلابية وحركة تمرد أو عصيان قام بها بعض ضباط الجيش السوري.
وأدت هذه الانقلابات إلى شل حركة المؤسسات الدستورية، وتعطيل الحريات العامة، وفرض الرقابة على الصحف وأجهزة الإعلام، وتعزيز دور أجهزة الأمن والاستخبارات. وفي هذه الأثناء أقدم ثلاثة من رؤساء أركان الجيش السوري على تولي سائر السلطات التشريعية والتنفيذية وتبوء رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، وأصبحت المناصب السياسية ألعوبة بيد العسكريين؛ ففي عام 1952 قرر رئيس المجلس الحربي الأعلى فوزي سلو تولي منصب رئيس مجلس الوزراء إضافة إلى منصب رئيس الدولة! ثم أعلن عن استحداث منصب نائب رئيس الوزراء، وقرر العقيد أديب الشيشكلي أن يتولى هذا المنصب بنفسه، ثم قرر الشيشكلي ترقية نفسه إلى رتبة زعيم (عميد) أما سلو فرفع إلى رتبة لواء، ثم قرر سلو تولي منصب وزير الدفاع إضافة إلى توليه رئاسة الدولة ورئاسة مجلس الوزراء! وتولى الشيشكلي منصب وزير الداخلية إضافة إلى نيابة مجلس الوزراء! (4)
وكانت المناصب التي تولاها أمين الحافظ مثار سخرية الشارع السوري، حيث أسندت إليه أكثر من عشرة مناصب في آن واحد منها تعيينه: رئيس مجلس قيادة الثورة، وقائد الجيش، ورئيس الجمهورية، ونائب رئيس الوزراء، ووزير الدفاع، ووزير الداخلية، ونائب الحاكم العسكري، كما أصبح في 12 نوفمبر 1963 رئيساً للوزراء مع احتفاظه بمناصبه السابقة، إضافة إلى عضويته في كل من القيادة القومية، والقيادة القطرية لحزب البعث!
مشكلات المعارضة السورية في مرحلة الثورة (2011-2012)
لم يبذل نظام الحكم في سوريا خلال الفترة 1970-2012 جهوداً كبيرةً لتبني إصلاح اجتماعي يحقق التوازن بين فئات المجتمع، وإنما قامت سياسته على ترسيخ الإرث الفرنسي المتمثل في نظام حكم مدني ضعيف وأحزاب سياسية لا تملك نظرية سياسية ناضجة، في مواجهة مؤسسة عسكرية تشكل عنصر التوازن الفعلي في الإدارة المحلية والأمن وتبسط نفوذاً كبيراً على جهاز الحكم المدني، وذلك بالاعتماد على الأقليات الطائفية التي استند عليها الفرنسيون للإضعاف من المقاومة التي قامت ضد سلطة الانتداب.
لقد أدرك حافظ أسد في الثلث الأخير من القرن العشرين بأن الشق الحزبي-المدني هو الحلقة الأضعف بين الفئات المتصارعة على السلطة، فأعطى لمؤسساته نمطاً شكلياً يقتصر على قطاع محدود في أجهزة الإدارة والحكم، وجعل توازن النظام يقوم على مؤسسة عسكرية تبسط نفوذاً واسعاً، واعتمد في ذلك على العنصر الطائفي-العشائري-العائلي لأنه يعتبر الأكثر ضماناً بالنسبة لتحقيق معادلة التوازن الصعبة داخل المؤسسة العسكرية.
وقد مثلت هذه السياسة تراجعاً كبيراً في مجال تطوير أنظمة الحكم والإدارة، فالأنظمة العائلية ذات النمط العائلي-العشائري تعتبر بحد ذاتها عودة إلى الإرث الإقطاعي الذي قام حزب البعث على نبذه والتبرؤ منه.
والحقيقة هي أن المشكلات التي عانت منها الأحزاب السياسية السورية في الفترة المعاصرة لا تخرج عن إطار المشكلات التي اعترضت العمل السياسي في الفترة السابقة لحزب البعث، وتتمثل في: غياب الفكر السياسي الناضج، ونزوع المؤسسة العسكرية إلى الاستئثار بالسلطة، ومنح الامتيازات للأقليات الطائفية في مواجهة الأغلبية السنية من أبناء المجتمع، ولذلك فإن هذه الأحزاب قد فشلت في التوصل إلى موقف موحد تجاه القضايا الرئيسة، ولم تفلح جهودها في اعتراف المجتمع الدولي بقدرتها على توفير البديل السياسي والأمني، ومنع الانفلات الأمني والصراع الإثني والطائفي الذي سيؤثر سلباً على دول الجوار.
ونتيجة لتلك الإخفاقات المتتالية؛ فإن المعارضة الخارجية تعاني من انفصامها عن الحراك الثوري في الداخل، وذلك لأنها لم تنجح في الانعتاق من إرثها التاريخي وتطوير منطلقاتها الإيديولوجية، مما أدى إلى التعامل معها باعتبارها جزءاً من البنية السياسية التي قامت الثورة ضدها، فهي لم تقدم في العقود الخمسة الماضية نماذج جيدة من النزاهة والاحتراف، ولم تنجح في تسويق نفسها كبديل ناضج عن السلطة القمعية، وتؤكد شواهد الحراك الثوري بأن التيار العارم في الداخل يتعاطف أكثر مع المستقلين، ولا يقيم اعتباراً كبيراً للسياسيين القادمين من الخارج.
وتكمن المشكلة في أن ضعف أداء الأحزاب السياسية، وعجزها عن مواكبة الحراك الثوري، لا يقتصر على إبطاء مسيرة الثورة وعرقلة حركة التغيير فحسب؛ بل سيمتد تأثيره السلبي إلى مرحلة ما بعد انهيار النظام، خاصة وأن التناقضات التي سبقت قيام البعث قد بدأت تستيقظ من سباتها العميق، وتشكل في مجملها تحديات لا تملك الجمهورية السورية بدائل سياسية مدنية ناضجة في مواجهتها.
وليس من الإنصاف تحميل حزب البعث وحده المسؤولية تعطيل الحياة السياسية ووأدها، فقد كان حزب البعث منذ تأسيسه عام 1947 واحداً من مجموعة أحزاب تتحمل وزر فشل الحكم المدني وتسلط العسكر عليه، مع الاعتراف بأن قيادات البعث كانت الأحرص على إدخال الجيش في أتون السياسية والوصول إلى الحكم عبر ظهور الدبابات بدلاً من صناديق الاقتراع.
ولا بد من التأكيد على أن المشاكل الكامنة في البنية السياسية للقطر السوري لا تقتصر على أخطاء فترة حكم الحزب الواحد، بل تعود جذورها إلى مرحلة نشوء الكيان الجمهوري، ولا بد من التعامل مع هذه الإشكاليات بصراحة وواقعية لا تشوبها المناورات السياسية أو المجاملات، مما يفرض على القوى الفاعلة أن تبادر إلى وضع أسس جديدة للعمل السياسي تضع في الاعتبار: التعقيدات الإقليمية، والتحولات الفكرية، والتطور السكاني، إذ إنه لم يعد من الممكن التغطية على فشل الأحزاب السياسية بتشكيل ائتلافات مصلحية، وإطلاق شعارات رنانة، وإصدار بيانات تخطب ود القوى الخارجية بدلاً من مخاطبة الفئة الشبابية الجديدة التي أوقدت جذوة الثورة واصطلت بنيرانها في سبيل تحقيق الحرية والكرامة.
ـــــــــــــــــــــــــ
Benjamin Miller, States, Nations, and the Great Powers, (Cambridge Studies in International Relations, 2007), pp. 12-15.
Mohammed Ayoob, Regional Security in the Third World, (Westview Press, Colorado, 1986), p. 6.
(1) عبد العزيز عثمان ومحمد التقي عبد الرحمن (1954)، سورية ولبنان: دراسة شاملة للجغرافية الطبيعية والحياة البشرية والاقتصادية، مكتبة ربيع بحلب. ص.ص 45-46.
(2) زين نور الدين زين (1971)، الصراع الدولي في الشرق الأوسط، بيروت. ص 104.
(3) Bourne. K, and Watt, D.C. edits. (1985) British Documents on Foreign Affairs, 'Weekly Political Summary' (E2706/8/89), 27 April 1945.
(4)جوردون توري (1969)، الجيش والسياسة في سورية، ترجمة محمود فلاحة، بيروت، ص 227.