الحصانة الشرعية ودورها في تشكيل الشَّخصيَّة الإسلاميَّة 2/3
15 صفر 1433
خباب الحمد

حتى لا نقع في الانحرافات

إن الصفة الأولى لمن يتَّبع الحق أنه يدور مع الأدلة الشرعية حيث تدور،فهمُّه التسليم لكلام الله ورسوله؛ لأنه عابدٌ لله، ولا يكون العبد مسلماً لله إلا إذا ابتعد عن هواه وسلَّم عقله ونفسه لحكم الله وأمره، أمَّا من يريد بلوغ الحق بتتبع أقوال من عُرفوا بالزيغ والهوى،فإنَّه لن يصل إلى المنهج الإسلامي الصحيح! ومن دلائل معرفة هؤلاء أنَّهم يبعدون النجعة كثيراً عن الأدلة الشرعية،ولا يتحاكمون إلاَّ إلى أهوائهم زاعمين أنها عقولهم ومن ثمَّ يختارون من الشريعة ما يوافق هواهم، بل ل وقيل لبعضهم :: إنَّ هذا القول خطأ والدليل عليه من كتاب الله كذا وكذا، لضجُّوا وأكثروا وقالوا أنت رجل مماحك ؛ فما أشبههم بقوله تعالى:: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45]،: نسأل الله العافية والسلامة!

 

ومن هنا يلزم كلِّ متبع لمنهج أهل السنة أن يكون فكره مبنياٌ على كتاب الله وسنة رسول الله بالفهم المنضبط على منهج أهل السنة والجماعة، خشية الوقوع في الشبهات ووصولها إلى ذهنه، ومن ثمَّ صعوبة الانفكاك عنها، حيث ترسَّخت في العقل، ولعلَّ هذا يفسِّر لنا ما ذكره الإمام أب وبكر بن العربي عن أبي حامد الغزالي ـ رحمهما الله ـ حيث إنَّه من المعلوم أنَّ الإمام الغزالي تنقل في عدة أطوار عقدية ومنهجية من اعتزالية فلسفيَّة، فكُلاَّبيَّة، فصوفية، فأشعريَّة، ثمَّ أراد الانفكاك عنها والخروج من لوازمها، لكنَّه لم يستطع أن يتقيأ كلَّ ما انغرس في فكره من تلك العقائد البدعية، فقال عنه أب وبكر بن العربي:: (شيخنا أب وحامد دخل في بطن الفلاسفة، ثمَّ أراد أن يخرج منهم فما قدر) ([16]) وكذا الإمام أب والحسن الأشعري فقد كان معتزليَّاً، ثم هداه الله إلى عقيدة أهل السنة والجماعة، وألَّف كتابين جليلين هما:: (الإبانة عن أصول الديانة) وكتاب:: (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلِّين) ولكنَّه مع ذلك لم يَخْلُ من بعض الأخطاء بسبب التكوين العقدي المركَّب في عقله، وممَّن ألمح لذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ حيث قال:: (لم يستطع التخلُّص من مذهب المعتزلة لأنَّه نشأ عليه مع قلَّة خبرته بمذهب أهل السنَّة وعدم تمكنه من علم الكتاب والسنة)([17]).

 

لقد أشرتُ إلى هذين النموذجين لأبيِّن دور البناء والتأصيل للتكوين العقدي في الخريطة الذهنية لدى الفرد المسلم، وأنَّ الانفكاك عن كلِّ ما يَعْلَقُ بالذهن من الأخطاء العقديَّة قد يكون صعباً،: إلاَّ من أراد الله له ذلك فتحرر فكره من كلِّ مخالفة شرعيَّة.

 

استدراك لابدَّ منه

لا يعني التحذير من قراءة كتب أهل الزيغ والهوى، أ ومتابعة آرائهم وأفكارهم بأي حال ؛ ألاَّ يُنتَدَب أناس مَنَّ الله عليهم بالعمق العلمي في معرفة منهج أهل السنة، ورصانة الدفاع عنه، مع ما آتاهم الله من قوة وحجَّة في الكلام، وجزالة في المعاني والتبيان، بالتصدِّي لأهل البدع والضلالات، وكشف زيف شبههم ؛ فإنَّ أهل السنة محتاجون أشد الحاجة لأولي العلم الربانيين المتمكِّنين، وخاصة في هذا الزمان، الذي كثرت فيه الشبهات وتسلط فيه الجهال على منابر الإعلام، وانتشر فيه الرويبضات الذين ينطقون في أمر العامة، فإننَّا بحاجة ماسَّة لمن منَّ الله عليهم بذلك وتكونت لديهم الحصانة العقدية، لأن يُنتدَبوا لدحض أراجيف الزائغين، ومناقشة: أباطيل المغرضين، وقد كان في السابق من أهل العلم من ينتدب لذلك إذا رأى الشبهات قد كثرت، بل قد يناظر ويجادل أمام العامة، إذا خشي أن تتسرب الفكرة الضالة إلى عقولهم من أهل الضلال، حماية لهم منهم، ورداً لكيد الضُّلاَّل في نحورهم، كما ناقش الإمام أحمدُ بن حنبل رأسَ فتنة القول بخلق القرآن ابنَ أبي دؤاد، وكما جادل الكنانيُّ بِشْرَ المريسي، وابنُ تيميةَ علماءَ الأشاعرة، وغيرهم كثير .

 

وكانت هذه الحالة عند العلماء استثنائية،: فالأصل عدم مناظرة هؤلاء، أ والاستماع إليهم، إلاَّ إذا اضطروا إلى ذلك، وخشوا أن تستفحل الفتنة أكثر فأكثر ؛ فإنَّ أهل السنَّة استحبُّوا أن ينهض الربَّانيون لمجادلة الضلاَّل .

 

وممَّن نبه على ذلك من علماء الإسلام:: الآجرِّي ـ رحمه الله ـ بقوله عن أهل الضلالة والبدع:: (فإن قال قائل: فإن اضطر في الأمر وقتاً من الأوقات إلى مناظرتهم، وإثبات الحجة عليهم ألا يناظرهم؟ قيل: الاضطرار إنَّما يكون مع إمام له مذهب سوء، فيمتحن الناس، ويدعوهم إلى مذهبه، كفعل من مضى، في وقت الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: ثلاثة خلفاء امتحنوا الناس، ودعوهم إلى مذهبهم السوء، فلم يجد العلماء بدَّاُ من الذبِّ عن الدين، وأرادوا بذلك معرفة الحق من الباطل، فناظروهم ضرورة لا اختياراً،فأثبت الله ـ عزَّ وجل ـ الحق مع الإمام أحمد بن حنبل، ومن كان على طريقته، وأذلَّ الله العظيم المعتزلة وفضحهم، وعرفت العامة أنَّ الحقَّ ما كان عليه أحمد بن حنبل ومن تابعه إلى يوم القيامة)[ 18].

 

ولهذا فلا يُذْكَر أن: أهل البدعة أفحموا علماء أهل السنة: في مناقشاتهم، أ ومناظراتهم لهم ـ ولله الحمد والمنة ـ لأنَّ الله هاديهم، ومنوِّر طريقهم، وحقَّاً:

إذا تلاقى الفحول في لَجَبٍ *** فكيف حال البعوض في الوسط

 

أمَّا من أرادوا جرَّ أهل البدع والهوى لمناقشات لا يحسنون الجدل معهم فيها، بل يلقون في أذهانهم شبهاً تلجلج في عقولهم أيَّاماً حتى يفرجها الله بإزالة تلك الإشكالات من أهل العلم الربانيين، بعد أن يطوف عليهم هؤلاء المغمورون...إنَّ هؤلاء القوم لا يقال لهم إلاَّ:: لا تعرضوا أنفسكم للفتنة، فتكونوا للناس فتنة، حين لا يجدون لديكم قوَّة في الحجَّة، وعمقاً في المناظرة، وكم أُتِيَ أهل السنة والجماعة من أمثال هؤلاء!

وقد قيل: (كثيراً ما يكون الباطل أهلاً للهزيمة، ولكنَّه لا يجد من ه وأهل للانتصار عليه).

 

وحين كان يتحدَّث الإمام ابن تيميَّة عن مناظرة أهل السنة لأهل البدع والهوى، بيَّن ـ رحمه الله ـ أنَّ أهل السنة والجماعة لا يؤيِّدون أن يتصدى لمناظرة أهل البدع من كان قليل العلم، فقال:: (وقد ينهون عن المجادلة والمناظرة إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجَّة وجواب الشبهة، فيخاف عليه أن يفسده ذلك المضلُّ، كما يُنهى الضعيف في المقاتلة أن يقاتل علجاً قويَّاً من علوج الكفَّار، فإنَّ ذلك يضرُّه ويضرُّ المسلمين بلا منفعة)([19]).

 

وعلَّة ذلك أنَّه حين المناقشة يظهر السنِّي غير المؤهل أمام أهل الضلال والهوى بمظهر ضعف، وعدم قوَّة في الاحتجاج والطرح، فيسبِّب ذلك له ولبعض أهل السنَّة حيرة وفتنة في دينهم، وقد تحدَّث ابن تيمية في موضع آخر حول هذه القضيَّة قائلاً: (وكثيراً ما يعارضهم من أهل الإسلام من لا يحسن التمييز بين الحقِّ والباطل، ولا يقيم الحجَّة التي تدحض باطلهم، ولا يبيِّن حجَّة الله التي أقامها برسله، فيحصل بسبب ذلك فتنة)([20]) حلُّ إشكال قد يقع في البال !

 

قد يقول بعض إنَّنا نعيش في زمن الانفتاح، والقرية الكونية ؛ التي فرضت نفسها على المجتمعات، وقد يصلح ما أكتبه لبعض المجتمعات المنغلقة على كينونتها الخاصَّة بها، أ وأزمنة سابقة، وكثير من الناس يعيش في بلاد يكثر بها أهل الهوى والابتداع، فليس من بدٍّ إلا أن يستمع للأفكار حسنها وسيئها، وقد يكون غير محصَّنٍ فكرياً وعقدياً، كما تزعم أهميَّته، فما قولك؟!

 

فالجواب عن هذا الإيراد: أنَّ هذا الطرح فيه شيء صحيح وباطل، فأمَّا الصحيح فإنَّ هناك مجتمعات لها خصوصيَّتها الفكرية والعقدية، وهناك مجتمعات تكثر فيها المذاهب العقديَّة، والآراء الفكرية المغايرة لمنهج أهل السنَّة والجماعة، ولكن...هل نقف عند هذا الحد، ولا ننتقي ونختار علماء أهل السنَّة الموجودين في كلَّ مكان من الأرض، ممَّا يساعدنا على البناء العقدي المتين ؟

ثمَّ من الذي قال لهؤلاء احضروا لمن تشاؤون، لقلَّة أهل السنَّة والجماعة الموجودين في أراضيكم؟

 

أليس النَّبيُّ ـ عليه الصلاة والسلام ـ أخبرنا بأنَّه سيأتي زمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر؟! وذلك لأنَّ صحابة رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ يجدون على الخير أعواناً وهؤلاء القابضون على الجمر لا يجدون على الحقِّ أعواناً.

 

ألم يخبرنا بأنَّه لا يأتي زمان إلا والذي بعده شرٌّ منه حتى نلقى ربنا ؟ وأوصانا بأن نصبر حتَّى نلقاه على الحوض غير مبدلين ولا مغيرين؟ كما قال القائل:

تزول الجبال الراسيات وقلبه *** على العهد لا يلوي ولا يتغيَّر

ثمَّ هناك فرق بين أن يجلس إنسان مسلم في مجلس فيتحدَّث متحدثٌ بكلام خاطئ، ويكون المسلم الجالس في ذلك المجلس عَرَضَاً لا قصداً، فإنَّ الأعمال بالنيَّات كما أخبرنا المصطفى ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ والأمور بمقاصدها، وقد رُفِعَ الحرج عن هذا وأمثاله حين حضر هذا المجلس، ولكن ليس له إن علم ضلال قول ذلك المتحدِّث أن يبقى جالساً في المجلس ذاك، بل يجب عليه مفارقته، وخاصَّة إن كان قليل العلم، وقد قال أب وقلابة ـ رحمه الله ـ: (لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، فإنِّي لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أ ويلبِّسوا ما تعرفون)([21]).

 

إنَّ فرضيَّات الواقع والتي يغلب عليها اللغة الانهزاميَّة، والأفكار المضلِّلة، تقتضي أن نكون أشدَّ إصراراً في مفاصلاتنا العقدية، وأصلب عوداً في التلمُّس الجاد لوجود أهل السنة المعينين لنا بالإبقاء على استنبات الفطرة التي ولدنا عليها، وأهميَّة معرفة مصادر التلقي لنتصورها ونعتقدها مستمسكين بها، ولدينا أهل العلم وحملته الربانيُّون، فلنسألهم ولنستوضح منهم ما أشكل من أصول ديننا.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[16]) "درء تعارض العقل والنقل1/5"
[17]) مجموع فتاوى ابن تيميَّة.
[18])) الشريعة للآجرِّي، ص: 66.
[19]) درء تعارض العقل والنقل :: (7/173)
[20]) مجموع الفتاوى:: (35/190).
[21]) (الإبانة2/437).