الحصانة الشرعية ودورها في تشكيل الشَّخصيَّة الإسلاميَّة
8 صفر 1433
خباب الحمد

- 1-

يعيش المسلمون في زمن انفتحت فيه الدنيا على مصراعيها؛ فقد تعدَّت مقولة العيش في قرية واحدة حَرْفِيتها، وأصبحنا  نعيش في عالم يجتمع في غرفة واحدة، فالقنوات الفضائية دخلت البيوت، والمواقع الإلكترونية استقطبتها أروقة الدور والعمل، فصار المرء يتلقَّى آراء عديدة، وتوجهات متغايرة، تجعله يتابعها وهو في غرفته ليل نهار!

 

وفي خِضَمِّ هذه التحديات، والاختلافات البينة يجدر بالمسلم، أن تكون لديه رؤية ناضجة في كيفية التعامل مع هذه المعطيات، فإنَّ فيها الحق والباطل والغث والسمين، ومواجهتنا لهذه التحديات الثقافية تتطلَّبُ منَّا قوَّة عقدية، وركائز ثابتة، تأخذ بأيدينا إلى برِّ الأمان، وشاطئ النجاة بإذن الله.

 

وليس من شكٍّ أنَّ الله ـ تعالى ـ قد منَّ علينا بنعمة عظيمة، هي: نعمة العقل، التي يُعرف من خلالها ـ في كثير من المسائل ـ الخير من الشر، والهدى من الضلالة، والصواب من الخطأ، بيد أنَّ الإنسان إذا استقلَّ بها وأعرض عن الوحي، فسيرتكب ما تهواه النفس، ولذا نزلت الشريعة الإلهية لمنفعة عباد اللَّه، فهي تميِّز للناس ما يفيدهم ويضبط عقولهم، فتتوازن الحياة، وتنضبط المسيرة.

 

والعقل على شرف منزلته، لن يستقلَّ بالهداية إلاَّ باتِّباعه لشريعة الإسلام، وشريعة الإسلام لن تتبين مراداتها إلّا بواسطة العقل، فلن يعارض العقل الصحيح النقل الصريح أبداً كما بيَّنه علماء الإسلام.

 

ما هي (الحصانة الشرعية):

من أهمِّ القضايا العلميَّة في دين الإسلام معرفة حقائق الأشياء وتعريفاتها؛ لتكون الصورة واضحة في الذهن، جليَّة في الفكر: (إذ المرء ما لم يحط علماً بحقائق الأشياء التي يحتاج إليها يبقى في قلبه حسكة)، كما يقول ابن تيمية([1]).

 

ومن خلال تأمُّل فكري لاستخراج تعريف لهذا المفهوم: (الحصانة الشرعية) وتبيين المقصود منه، أرى أنَّه: (البناء العقدي المتين من خلال الفهم الناضج لمنهاج الله كتاباً وسنَّة، ووقاية الفكر والعقل عن كلِّ ما يخلُّ بهما من الآراء الفاسدة، المخالفة لمنهج أهل السنَّة والجماعة في التلقي والاستدلال).

فالحصانة الشرعيَّة مشابهة لجهاز مناعة واقٍ من أن يتسرَّب إليه شيء من الخلل والعطب، فيفسده ويخلُّ به.

 

وهكذا المسلم، فإنَّه محتاج لما يحفظ عقيدته ويرعاها حقَّ رعايتها من أن تتلقَّى شيئاً من شبه أهل الضلال، فيقع في قلبه شيء من الانخداع بها، فيزيغ قلبه ـ عياذاً بالله من ذلك ـ فيهلك مع الهالكين.

 

وجميعنا نعلم أن الإنسان يخرج من بطن أمه ليس في ذهنه رصيد معرفي، ولا خبرة عملية، كما قال الله ـ تعالى ـ: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78]، فالمرء المسلم ما دام يتواصل –ولا بد- مع بني الإنسان، فسيجد اختلافات في الآراء، وتباينات في المناهج، وكلٌّ منها يدَّعي الحق والصواب.

فما موقفه إذن من هذه التضاربات الفكرية؟وكيف يستطيع أن يميِّز بين الصواب والخطأ؟

 

هناك خطوات لتحقيق ذلك، أهمها:

1-  تلقي العلم من منابعه الأصيلة:

ليس من شك في أنَّ الإنسان المسلم إذا لم يتلقَّ العلم من منابعه الأصيلة، وروافده الصحيحة، أخذاً من الكتاب والسنة على هدي السلف الصالح، فإنَّه سيخبط خبط عشواء ويتلقَّى العلم من جهات لا يعلم توجُّهاتها العقدية، ولا أصولها الشرعية، ويقع في عدة مزالق يتباين حجم خطئها وضلالها، ولهذا كان علماؤنا السابقون يوصون بتلقي العلم ممَّن صدقوا الله في تعلمهم وتعليمهم، ولاحت قوة حججهم أمام خصومهم، وفي المقابل يحذِّرون طلابهم من أهل الزيغ والهوى، لئلا يقعوا فيما وقع فيه أولئك المبتدعة، فكان الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود ـ رضي اللَّه عنه ـ يقول: (لا يزال النَّاس بخير ما أخذوا العلم عن الأكابر، وعن أمنائهم وعلمائهم؛ فإذا أخذوا من صغارهم وشرارهم هلكوا).

قال ابن المبارك ـ رحمه اللَّه ـ في تفسير(الأصاغر): (يعني أهل البدع)([2]).

 

ولذلك كان  الإمام عبد الله بن المبارك ـ رحمه الله ـ يوصي طالب العلم قائلاً له:

أيها الطالب علماً ائت حمَّاد بن زيد
فاكتسب علماً وحلماً ثمَّ قيِّده بقيد
ودع الفتنة من آثار عمرو بن عبيد([3]).

 

وممَّن نبَّه على ذلك أبو حامد الغزالي ـ رحمه الله ـ حيث ألمح للمسلم الذي يريد أن يكون ذا عقليَّة واعية بأنَّه لا بد أن يعمل على تحصين عقليته من الانحرافات الفكرية، وخصوصاً إن كان في منطقة يكثر بها أهل البدع والهوى، فقال: (فإن كان في بلد شاع فيه الكلام وتناطق الناس بالبدع فينبغي أن يصان في أول بلوغه عنها بتلقين الحق؛ فإنه لو أُلقي إليه الباطل لوجبت إزالته عن قلبه وربما عسر ذلك، كما أنه لو كان هذا المسلم تاجراً وقد شاع في البلد معاملة الربا وجب عليه تعلم الحذر من الربا)([4]).

 

وحين يبحث المراقب لتفسير ضلال من ضلَّ وحادَ عن طريق الهدى وعلائم الحق، يجد أنَّ من أسباب ذلك ضعف الحصانة الشرعية، ممَّا يؤدِّي لولوج المشتبهات في فكره وعقله، وقد نبَّه على ذلك  ابن بطَّة العكبري فقال: (اعلموا إخواني أني فكرت في السبب الذي أخرج أقواماً من السنة والجماعة واضطرهم إلى البدعة والشناعة، وفتح باب البلية على أفئدتهم وحجب نور الحق عن بصيرتهم فوجدت ذلك من وجهين: \

أحدهما: البحث والتنقير وكثرة السؤال عما لا ينبغي، ولا يضر العاقلَ جهلُه، ولا ينفع المؤمنَ فهمُه.

والآخر: مجالسة من لا تؤمن فتنته، وتفسد القلوبَ صحبتُه)([5]).

 

وقد يتساءل بعض المستشكلين عن علَّة الاهتمام والتَّشبُّث بنقاء مصادر التلقي؛ والسبب في ذلك، لئلاَّ تختلط المناهج في الذهن، وتتضارب التصورات، فتكون النتيجة المنطبعة بعد ذلك في العقل الإسلامي منهجاً غوغائياً لا تلزمه ضوابط، ولا تحكمه قيود.

 

فالمطلوب لمن أراد الهداية والثبات على سلَّم الشريعة؛ ليدفع بها الأهواء، ومكائد أهل الضلال، أن يكون معتنياً بحماية عقله، بسياج الشريعة الإسلاميَّة وأصولها، والتي تكوِّن له ثوابت عقدية تحميه ـ بعون الله ـ من سريان الأفكار المضلِّلَة إلى منهجه، من أهل الأهواء والعصرنة والعلمنة.

 

أمَّا الهلاك فيقع عندما يظنَّ العبد بنفسه امتلاك ناصية العلم لمجرد قرأ شيئاً في عقيدة أهل السنة والجماعة أنَّه صار مدركاً لها بالكليَّة، أو مفكِّراً ألمعياً، ثمَّ يطالع كتب أولي الأهواء والبدع، ويشاهد بعض البرامج الدينية أو الفكرية في بعض القنوات الفضائية، بحجَّة الاستنارة وعدم التعصُّب الفكري، أو بغية العثور على فكرة ضالة، فيبدأ مشاهداً ومطالعاً متوجساً من كلام المتحدث، وما إن تمضي عدَّة شهور أو سنوات، حتَّى يدمن ذاك الذي ظنَّ أنَّه قد أحاط علماً بأصول الإسلام، على مشاهدة الفضائيات وملاحقة الصحف والمنتديات الثقافية، فتبدأ الشبهات تقع في ذهنه، لقلَّة علمه، بل قد يأتي بعضهم لأهل العلم في مجالس خاصة أو عامة، يحدثونهم سراً أو علانية، بأنَّ في ذلك البرنامج الفلاني، أو الصحيفة الفلانيَّة، ذكر الكاتب كذا، وأقام الأدلة على حديثه، فهل كلامه صواب؟ وكيف نرد عليه؟! والحقُّ أنَّ هؤلاء أحسنهم، وإلاَّ فقد ينخدع هؤلاء ببعض أهل الهوى ممَّن أوتوا فصاحة وبياناً بل علماً خليطاً، فتختلط المعايير لديهم، ويضطربون فكرياً، ثمَّ يلتفتون مرَّة أخرى إلى منهجهم الذي ساروا عليه سنوات فيدَّعون أهمِّية نقضه ونسفه، ومعاودة النظر في كلام علمائه بحجَّة أنَّهم رجال وعلماء السلف رجال؛ لأنَّه لم يقم على الأصول العلمية الصحيحة!!

وصدق عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـالقائل: (من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل)([6]).

 

2-  الحذر من مخالفة منهج أهل السنَّة والجماعة:

من يتابع مسيرة سلفنا الصالح ـ رضوان الله عليهم ـ يجدهم يتحاشون الاستماع لأهل البدع والهوى، أو محادثتهم، أو مجالستهم، وفي هذا يقول سفيان الثوري: (من أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة، وهو يعلم، خرج من عصمة الله، ووكل إلى نفسه، وقال كذلك: من سمع بدعة فلا يحكها لجلسائه، لا يلقها في قلوبهم.

 

وقد علَّق الإمام الذهبي على مقولة الإمام سفيان الثوري بقوله: أكثر الأئمة على هذا التحذير يرون أن القلوب ضعيفة والشُّبه خطَّافة)([7])، وقد أحسن من قال:

لا تستمع إلاَّ لقول صادق *** يغنيك عن خطل من الأقوال
فالأذن نافذة العلوم وخيرها *** أذنٌ وعت ذكراً تلاه التالي

يُقال ذلك لحفظ لعقول المسلمين، والاحتياط لدينهم من سماع كلام أهل الضلال، استدلالاً بقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68].   

وقوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء:140].

 

ومن الأدلَّة على ذلك قوله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ: (وإنَّه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين، تمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ وإيَّاكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كلَّ محدثة بدعة وكلُّ بدعة ضلالة)([8])، فإنَّه ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ حذَّرنا من محدثات الأمور، ودعانا إلى اجتنابها.

 

ومن الأدلة كذلك ما رواه عمران بن حصين عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنَّه قال: (من سمع بالدجَّال فلينأ عنه، من سمع بالدجَّال فلينأ عنه، من سمع بالدجَّال فلينأ عنه، فإنَّ الرجل يأتيه وهو يحسب أنَّه مؤمن، فما يزال به بما معه من الشبه حتَّى يتَّبعه) ([9]).

 

بل إنَّ المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين أتاه عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه عليه، غضب ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقال: (أوفيَّ شكٌّ يا ابن الخطَّاب؟! لقد جئتكم بها بيضاء نقيَّة، لا تسألوهم عن شيء فيخبرونكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به. والذي نفسي بيده، لو أنَّ موسى كان حيَّاً ما وسعه إلاَّ أن يتبعني) ([10]).

 

كان ذلك منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ تربية لأصحابه على أن يكون الينبوع الذي يتلقون منه واحداً عذباً نقيَّاً: (يسقى بماء واحد)، ليفارقوا أهل الضلالة، لأنَّ مفارقتهم من منهج أهل السنة والجماعة، وليست من إنشاءات بعض المتشدِّدين كما يزعمه بعضهم، ويكفينا أنَّه ـ سبحانه وتعالى ـ يقول في محكم التنزيل لمن يطلب النظر في غير كتاب بدعوى عدم الحجر الفكري: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51].

 

وأمَّا ما يدَّعيه بعضهم من أولي التوجهات الحديثة العصريَّة: بأنَّ ذلك التحفظ من باب الحجر على الأفكار، والاسترقاق الفكري، والإرهاب الثقافي تجاه الناس، وأنَّه لا بأس بأن يستمع من شاء إلى من يشاء، سواء أكان سنِّيَّ المنهج أو نقيضه، بلا توجيه أو رعاية أو تربية وعناية؛ بزعم أنَّ الحق أبلج ناصع، ومن خلال نصاعة الحق سيتبين للناس أنَّه حق ويأخذون به،لأنَّ الله يقول: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد:17]،  ويقولون: إنَّه ليس من إشكال أن يقلِّب المرء بصره في كلام الناس، ويستمع لجدال المجادلين، ثمَّ يرى من كان كلامه حقاً فيأخذ به.

 

فالجواب عن ذلك: بأنَّ هذا الطرح متولد من العقلية الغالية في تحكيم النصوص، والتي تزايد في إعطاء العقل ما لا يقدر عليه، ولم يُبْنَ على الأصول الشرعية، وإلَّا فإنَّ هدي رسول الهدى ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ والصحابة والتابعين ممن بعده يقوم على تحصين الأفكار، وصيانة العقول من الاستماع لكلِّ من هبَّ ودبَّ، وعلى هذا قام منهج أهل السنَّة والجماعة، ورحم الله عمر بن عبد العزيز، حين قال: (سنَّ رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ وولاة الأمر بعده سنناً، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعته، وقوَّة على دين الله، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في رأي من خالفها، فمن اقتدى بما سنُّوا فقد اهتدى، ومن استبصر بها بصر، ومن خالفها واتَّبع غير سبيل المؤمنين ولاَّه الله ما تولى وأصلاه جهنَّم وساءت مصيراً)([11]).

 

وحين جاء رجل للإمام الأوزاعي ـ رحمه الله ـ فقال: أنا أجالس أهل السنَّة، وأجالس أهل البدع. قال الأوزاعي: (هذا رجل يريد أن يساوي بين الحقِّ والباطل)([12]).

 

وكم أعجبتني فتوى الشيخ  محمد رشيد رضا ـ رحمه الله ـ حين سئل: ما هو حكم الله فيمن يطالع الكتب السماوية الأخرى مثل التوراة بقصد الإحاطة خبرًا بما جاء في غير شريعتنا، وهل كان النهي عن قراءتها عامًّا، وإذا سلمنا ذلك تكون الشعوب غير الإسلامية متميزة على المسلمين بعدم منع أنفسهم إجالة النظر في القرآن، فيستفيدون مما جاء فيه من الآيات البينات، ويحتجّون به علينا، ونحن لا نقدر أن نقابلهم بالمثل؛ لأن كتبهم مغلقة في وجوهنا. أفيدونا بما علمكم الله؟.

فأجاب فضيلته: بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
الأمور بمقاصدها، فمن يطالع كتب الملل بقصد الاستعانة على تأييد الحق وردّ شبهات المعترضين ونحوه وهو مستعد لذلك، فهو عابد لله تعالى بهذه المطالعة، وإذا احتيج إلى ذلك؛ كان فرضًا لازمًا.

 

وما زال علماء الإسلام في القديم والحديث يطلعون على كتب الملل ومقالاتهم، ويردّون بما يستخرجونه منها من الدلائل الإلزامية، وناهيك بمثل ابن حزم وابن تيمية في الغابرين، وبرحمة الله الهندي صاحب إظهار الحق في المتأخرين، أرأيت لو لم يقرأ هذا الرجل كتب اليهود والنصارى، هل كان يقدر على ما قدر عليه من إلزامهم وقهرهم في المناظرة، ومن تأليف كتابه الذي أحبط دعاتَهُم في الهند وغير الهند، أرأيت لو لم يفعل ذلك هو ولا غيره أما كان يأثم هو وجميع أهل العلم، وهم يرون عوام المسلمين تأخذهم الشبهات من كل ناحية ولا يدفعونها عنهم؟

 

نعم إنه ينبغي منع التلامذة والعوام من قراءة هذه الكتب لئلا تشوش عليهم عقائدهم وأحكام دينهم، فيكونوا كالغراب الذي حاول أن يتعلم مشية الطاووس فنسي مشيته ولم يتعلم مشية الحجل، والله أعلم).

 

ولنفترض جدلاً أنَّ علماء أهل السنَّة والجماعة فتحوا المجال للنَّاس أجمعين ليطالعوا ما يشاؤون، ويشاهدوا ما  يريدون، فالظنُّ أنَّه سيخرج كلُّ واحد منهم بمنهج يدَّعي أنَّه الحق الذي لا مرية فيه، وخاصة إذا استصحبنا أنَّ في القلوب بعامة ليست بمنجاة من الهوى، وتزيين السوء باسم المصلحة تارة والحق أخرى ووجهة النظر ثالثة والحرية رابعة، وتكون النتيجة المحصِّلة لنا من هذه الآراء؛ التمذهب بمذهبية الـ(حيص بيص!) في المعتقدات والأفهام، والكل يقول أنا الذي! دع عنك حبَّ الاستئثار بالرأي لدى البشر، وتعظيمهم لأقوالهم، ومن ثمَّ إخراجهم للكتب والمؤلفات لنصرة رأيهم،والانتصار لفكرتهم (وكم كتاب صنع ليطعن حقَّا)([13]) كما قال الشيخ محمد الخضر حسين.

 

والحقيقة أنَّنا إذا نظرنا في حال الذين يزعمون أنَّهم عقلانيون، فسنجدهم قد صاروا إلى أقوال متباينة، وأفكار غريبة، وقلَّ أن نراهم يوافقون الحق والصواب المدَّعى من قِبَلِهم؛ لأنَّ المعيار بلا معيار لا يكون، والعقول تختلف، والآراء تتباين، والأفكار تتضارب، فتتكون لديهم رؤية مبعثرة غير متَّزنة، تسفُّها الرياح العاتية، وتتلاعب بها الأعاصير الجارفة، وقد قيل: (للناس بعدد رؤوسهم آراء!) ولهذا فلم نرَ من كبارهم إلَّا الندم والحسرة على تلك الأيام التي خلت حين كانوا يضربون الأخماس في الأسداس في ماهية المنهج الصائب،حتَّى انتهوا بلا نهاية،وقالوا:

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا *** سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

 

وللَّه درُّ الإمام ابن قتيبة حيث قال عن هؤلاء المتَّبعين للمنهج "الأرأيتي": (وقد كان يجب ـ مع ما يدَّعونه من معرفة القياس وإعداد آلات النظر ـ أن لا يختلفوا كما لا يختلف الحُسَّاب والمسَّاح، والمهندسون، لأن آلتهم لا تدلُّ إلاَّ على عدد واحد، وإلا على شكل واحد، وكما لا يختلف حذَّاق الأطبَّاء في الماء وفي نبض العروق؛ لأنَّ الأوائل قد وقفوهم من ذلك على أمر واحد؛ فما بالهم أكثر الناس اختلافاً، لا يجتمع اثنان من رؤسائهم على أمر واحد في الدين)([14]) وصدق الله عز وجل القائل: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراًؤ [النساء:82].

 

وأمَّا ما ادَّعاه بعضهم من تصويب الفكرة القائلة: بأن يقلِّب المرء ناظريه بين الأقوال المتضاربة، ويرى الحق الذي يبدو له في بعضها فيختاره، ثم يرى أنَّ هناك شخصاً تَعَقَّبَ ذلك الحق الذي اتَّبعه فجعله باطلاً، ثمَّ أبدى ما لديه من حق، فيأتي المرء ليختار الحق الذي اختاره ذلك الشخص المتعقب لكلام من قبله، ثمَّ يأتي شخص ثالث فيبطل القولين ويصوِّب القول الذي اختاره بعناية وتحقيق، فيأتي هذا المرء المسافر بين عقول هؤلاء ليختار قول هذا الرجل، لأنَّه قوي في المناظرة، رابط الجأش في المجادلة، وهكذا....فإنَّ هذا الرأي المطروح ليس صواباً؛ لأنَّ دين الله لم يأت ليحاكمه العقل البشري، بل ليستسلم له ويطيعه، ولهذا فإنَّ المنهج العقلي وإنْ ادعى أصحابه  أنَّه منهج المنطقية والعقلانية، فإنَّه في الحقيقة منهج الحيرة والضلالة، لأنَّ هذا المنهج وإن كانت له قيود، فقيوده متفلِّتة، وقواعده متسيِّبة، فينتج من ذلك واحد ثلاثة أمور:

1)      إمَّا أن يصاب أصحابه بتبلّد الإحساس فيختاروا قولاً، يبقون عليه إلى أن يُقْبَضُوا مع تعصب مقيت، وهوى متَّبع.
2)     وإمَّا أن يصطدموا بما لا طاقة لعقولهم به فيردُّوا الشريعة جملة وتفصيلاً.
3)     وإمّا أن يصاب أصحابه بالارتحال الفكري، والتجوال بين عقول البشر، ومناهج الفلاسفة أو المفكرين العصريين، فيعانوا من الدُّوار مع القلق الفكري، وتغلب عليهم الحيرة والاضطراب المنهجي ـ عياذاً بالله من ذلك ـ وقد ابتلي بعض من سار على هذا المنهج بذلك مثل: الفخر الرازي، والشهرستاني، والجويني، والكرابيسي، والخونجي، وشمس الدين الخسروشاهي، وابن واصل الحموي، والآمدي، وإبراهيم الجعبري، وغيرهم، وإن كان بعض هؤلاء قد منَّ الله عليهم بالرجوع لمنهج أهل السنة والجماعة قبل وفاتهم ـ ولله الحمد والمنَّة ـ.

 

وحين جاء رجل للإمام مالك يقال له أبو الجويرية ـ متَّهم بالإرجاء ـ فقال له: اسمع منِّي،فقال مالك: احذر أن أشهد عليك. فقال هذا الرجل: والله ما أريد إلَّا الحق،فإن كان صواباً، فقل به، أو فتكلَّم. فقال مالك: فإن غلبتني. فقال الرجل: اِتَّبِعْني.فقال مالك: فإن غلبتك، قال: اتَّبعتك. فقال مالك: فإن جاء رجل فكلَّمنا، فغلبنا؟ قال: اتَّبعناه.فقال مالك: يا هذا، إنَّ الله بعث محمداً ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ بدين واحد، وأراك تتنقل!!)([15]).

 

ولا يعني ذلك بحال ألاَّ يتطلب المسلم الحق ويبحث عنه، فإنَّ هذا الأمر غير ذاك،والفارق بينهما أن من يريد تتبع الحق في أصول الإسلام وقضاياه الكلية يرجع إلى كتاب الله، وسنَّة رسوله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ فيستقي منهما الحقَّ والصواب،على طريقة علماء أهل السنَّة والجماعة، ومنهجيَّتهم في الاستدلال.

 

________________________

[1]) الفتاوى: 10 /368".
[2]) أخرجه عبد الرزاق في المصنَّف: (20446 و20483، بسند صحيح).
[3]) ديوان ابن المبارك للدكتور: مجاهد مصطفى: صـ45،
[4]) إحياء علوم الدين: (1/29)
[5]) الإبانة: 1/390
[6]) تأويل مختلف الحديث ص: 115).
[7]) سير أعلام النبلاء: 7/261"
[8]) أخرجه أحمد في مسنده (4/126) والترمذي برقم (2676) وقال: حديث حسن صحيح.
[9]) أخرجه الإمام أحمد في المسند: (4/431) بسند صحيح،وجوَّد إسناده الإمام ابن مفلح في الآداب الشرعية(1/220).
[10]) أخرجه أحمد في مسنده (3/338)، وابن أبي شيبة في مصنَّفه (6/228) بسند حسَّنه الألباني.
[11]) أخرجه الآجري في الشريعة ص: 48.
[12]) أخرجه ابن بطَّة في الإبانة(2/456) والَّلالكائي (252) في شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة والجماعة.
[13]) في كتابه: نقض كتاب الشعر الجاهلي ص: 4.
[14]) تأويل مختلف الحديث ص 63
[15]) سير أعلام النبلاء 8/99ـ106.