الشهيد البطل المرحوم فرعون!
26 ذو القعدة 1432
أسماء عبدالرازق

ما كان يخطر على بالي أبداً أن يتعاطف أي كائن بشري مع الهالك القذافي مهما حدث له، لكن دعاة الحرية والديمقراطية والإنسانية إسلاميوهم وعلمانيوهم يأتون دائماً بالأعاجيب. تخيلوا أن ثمة من يقول: رحم الله الشهيد البطل القذافي! وعد بالجهاد! حتى آخر قطرة من دمه وأوفى بما وعد كجده المختار! أرعب الغرب وأرهبه وقاتل حلف الناتو حتى الموت! طبعاً لا نقول أن هؤلاء يتعاطون حبوب الهلوسة لأن حقوق العبارة محفوظة للعقيد الهالك وابنه الطريد.

 

العجيب أن جل هؤلاء كانوا يدعون بالويل والثبور على الطاغية المتجبر، ويتمنون ذهابه للجحيم، فلما رأوا المجرم متجرداً من جبروته، ذليلاً أمام معتقليه، غشيت قلوبهم الرحمة، وسيطرت على عقولهم معاني المثالية والإنسانية! وهذا دأبهم مع كل طاغية؛ فصدام سيد شهداء الطغاة! وحرام أن يذل مبارك بطل الحرب والسلم، ومنفذ الطلعة الجوية على "إسرائيل"!

 

قد يقول قائل: الرحمة صفة غريزية، وكل شخص سوي لابد أن يشعر بالشفقة على الضعاف والضحايا. قد يكون هذا صحيحاً لكن من أعنيهم ليسوا كذلك! يتجردون من هذه الخصلة تماماً حينما يكون الضحية مجاهداً يرفع راية الإسلام دون مواربة، وما سمعناه بعد مقتل بعض المجاهدين من عبارات التشفي لم نسمع بعشر معشارها لهؤلاء المجرمين مجتمعين! بل واحدة من الجماعات الإسلامية لم تكلف نفسها الترحم على بعض المجاهدين –وما أكثرهم- في بيان رسمي، بل بشرت العالم بنهاية الإرهاب بمجرد موت أحدهم! ولم يفتح الله عليها ببيان من سطر واحد تبارك فيه ذهاب فرعون ليبيا!

 

القاسم المشترك بين هؤلاء على اختلاف مذاهبهم ومعتقداتهم هو محاولة الظهور بمظهر المتحضر المتمدن الإنساني لكن بحسب التعريف الغربي الذي يرونه راقياً وتقدمياً وعصرياً!

 

وربما تغلغل هذا الإحساس في نفوس بعضهم وأشربته أرواحهم حتى صاروا ملكيين أكثر من الملك نفسه كما يقال! فعدد من الصحف البريطانية (الحضارية بمفهومهم) شمتت بمصرع طاغية ليبيا ورددت في شماتة مقالة رئيسهم كاميرون: هذا–أي مقتله- عن لوكيربي، وعن آيفون فليتشر، وضحايا متفجرات الجيش الجمهوري الآيرلندي!

 

بل وصفته صحيفة المترو البريطانية بأنه كلب مسعور في حياته، وجرذ جبان في لحظاته الأخيرة الوحشية.

 

وأما هؤلاء فيقولون الثوار الهمجيون أهانوه وهو جريح، وأساؤوا إليه وهو في مقام آبائهم، واستسلموا للعواطف وتخلوا عن المبادئ، ولا يصح أن يعاملوه بالمثل إن كانوا دعاة عدالة فعلاً لأن العدالة لا تتجزأ ولا تنحاز! بالله ما الذي يتوقع ممَنْ ظفروا بمَن دكَّ بيوتهم فوق رؤوسهم، وحرَّق أهليهم وهم أحياء، وهتك أعراضهم، وبطش وظلم، وطغى وبغى، وتوعد لآخر أيامه بأن يحول بلادهم لجمرة حمراء؟ وما الذي  كان سيفعله هؤلاء المتفلسفون المثاليون لو كانوا في مكانهم؟ وكانت الضحايا أخواتهم وإخوانهم آباءهم وأمهاتهم؟! هل كانوا تاركيه ليذهب بكل أدب واحترام إلى المستشفى ليعالج، ثم يطالبون بمحاكمته، ومراعاة لحالته الصحية تؤجل المحاكمة، ثم يفرج عنه بضمانة برلسكوني، ويسمح له بزيارة صديقه شافيز ليقضي فترة النقاهة التي تطول بضع سنوات لإصابته بالاكتئاب والانهيار العصبي، يستهلك فيها ما سرقه من مال الشعب الليبي، ثم يسلم لمحكمة العدل الدولية ليقضي بقية أيامه رهن الحبس الملوكي الفاخر الذي يليق بأمثاله من الزعماء. هذه هي العدالة العصرية التي لا تنحاز ولا تتجزأ؟!

 

والمضحك أن بعض العلمانيين يزعمون أن الثوار أساؤوا للإسلام، وخالفوا أحكامه في التعامل مع الأسرى، وفضحونا مع الغرب، والتي تهمهم طبعاً هي الأخيرة. بنفس المنطق فإن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أساء للإسلام وخالف أحكامه لما صعد فوق أبي جهل ووضع رجله في عنقه ثم احتز رأسه وكان أبو جهل مثبتاً! ولايبعد أن يكون أبو جهل بطلا وشهيدا عند هؤلاء لأنه أصر على قتال النبي صلى الله عليه وسلم حتى النهاية وقتله لم يكن بمحاكمة! وفرعون كذلك بطل لأنه أصر على القضاء على موسى عليه السلام وطارده حتى غرق!

 

ربما كان القذافي يعرف أن الغرب حريص على التخلص منه خوفاً من أن يفضحهم، فهو عميلهم الذي جاء على ظهر الدبابة الأمريكية، وهو الذي يخدم مصالحهم في المنطقة ولو تظاهر بغير ذلك كدأب الزعماء الثوريين في إيران ولبنان وسوريا وغيرها. لذا لم يكن له خيار غير اللجوء لأهله والاحتماء بقبيلته. وما زيارة كلينتون لطرابلس يوم الثلاثاء ودعوتها لأسر القذافي أو قتله إلا مؤشر على ذلك. كما أنه كان يعرف أن في المجلس الانتقالي من كان محسوباً في عداد أتباعه، وتقديمه للمحاكمة سيجرجر آخرين، لذا فهو مقتول لا محالة ولن يحرص على حمايته إلا قرابته الذين يعدون حمايته واجباً لا ينبغي التخلي عنه. فالزعيم مكره لا بطل، ولو لم يقتله الثوار لبادر لقتله غيرهم.

 

المهم في الأمر أن صاحب الكلمة الأولى في تحديد ما الذي ينبغي فعله، هو من اكتوى بجحيم حكم الهالك المستبد، ثم دفع أغلى الأثمان ليقضي على تسلطه وجبروته، أما المتفرجون فليحتفظوا بأفكارهم ومثالياتهم، وليطبقوها في بلدانهم إن كان فيهم فائدة ترتجى.