البوطي.. انحراف في العقيدة وخلل في المنهج!!-4
7 شوال 1432
منذر الأسعد

4: على درب الكوثري المتعصب

في هذه الحلقة يتابع الأستاذ عبد القادر حامد مناقشته للبوطي في ما سماه وقفة مع ابن تيمية ليكشف مدى تجنيه على الحقيقة والعلم،فيقول الكاتب المتميز:
مر معنا في المقال السابق تصوير البوطي لابن تيمية، وقد كانت تلك الصورة على ما قد بيناه من استهزاء وبعد عن الإنصاف، وحطة في الأسلوب تعكس نفساً قلقة بعيدة عن الاتزان.

 

وقد حاول البوطي جهده في رسمه تلك الصورة أن يضع في وهم قرائه أن ديدن ابن تيمية هو هكذا: اضطراب وتطويح وتناقض، وصال وجال مشيراً إلى هنة هنا، وهنة هناك، مما يعتبره هو مآخذ على ابن تيمية، ولكن حينما أحس أن هذه الهنات قد لا تقنع قراءه برأيه في ابن تيمية هز كتفيه ونفض كنانته؛ فأخرج منها هاتين الفاقرتين:

1- المسألة الأولى: تعليق لابن تيمية على كتاب (مراتب الإجماع) لابن حزم.
2- المسألة الثانية: رأي ابن تيمية في مسألة الكسب عند الأشاعرة.

 

أما المسألة الأولى؛ فهي مسألة حاول أعداء ابن تيمية قديماً وحديثاً أن يستخدموها للنيل منه، والبوطي يسير على هدي الكوثري المتعصب عند تعرضه لهذه المسألة، ورأي الكوثري في ابن تيمية معروف ومشهور. أما تحليل هذا الموقف وأسبابه فلا زال يحتاج إلى مزيد من إلقاء الضوء عليه، لأن نتائج هذا التحليل لها صلة بالمنهج العام الذي تُقْبَل بمقتضاه الأقوال أو تُرَدُّ، ويقوم على أساسه فهم المسلم لتاريخه الفكري، وتتضح على ضوئه المؤثرات التي كان لها أثرٌ سيئ في حياة المسلمين خلال القرون الماضية. وشخص كالكوثري في تركيبته الفكرية وخلفيته التربوية لا يمكن إلا أن يكره ابن تيمية وكل ما جاء به.

 

فابن تيمية له رأي فذ في العلاقة بين العرب والإسلام، وارتباط الإسلام باللغة العربية، ويرى أن كره العرب نفاق، هذا مع أنه يقول: (فضل الشخص لا يستلزم فضل الجنس) والكوثري أبسط ما يقال فيه من هذه الناحية: إنه شعوبي، وشعوبيته قد أدخلته مداخل صعبة وعنته عناء يعرفه من قرأ له.

 

وابن تيمية حر التفكير، حرب على التقليد والجمود، لا يسير خطوة دون الاهتداء بالدليل، والكوثري مقلد جامد ومتعصب ضيق العطن، حبس نفسه في حدود المذهب الحنفي، ويرى أن الإسلام هو هذا المذهب فقط، فهو لذلك حرب على الشافعية، والمالكية، وسم زعاف على الحنابلة، أما كبار علماء الحديث فأقل ما يقوله فيهم: إنهم (حشوية)، أما ما يقوله في كل واحد منهم على انفراد: من تجن وتحامل وتعسف، ومن تهم باطلة، ومن بعد عن منهج العلماء في النقد؛ فأمره مشهور وشرحه يطول. وهكذا فقد حجّر واسعاً، ورسم لنفسه دائرة ضيقة من دخلها فهو منه، ومن لا فلا!

هذا هو الكوثري الذي يسير البوطي على خطاه، فهل مثل هذا الصنف من يُقْبَل قولُه في خصمه؟! أَخَصْمٌ وَحَكَمٌ؟!

 

ولنعد الآن إلى المسألة التي اعتبرها البوطي مقتلاً من مقاتل ابن تيمية، وهي ما جاء في تعليقه على مراتب الإجماع لابن حزم والتي قامت لها قيامة البوطي.

 

ونريد أن نناقش بعض ما ساقه من الدعاوى واحدة واحدة باختصار، فنقول: هل صحيح أن ابن تيمية (يكفر خصومه لأدنى المواقف الاجتهادية التي قد يخالفهم فيها)؟! لم يسق لنا البوطي دليلاً واحداً على ذلك، بل إن هذه المسألة التي اهتم لها وحشد لها بعض ما في جعبته من رخيص التهم العشوائية دليل على أن ابن تيمية ليس ممن يهجم بالتكفير لأدنى المواقف الاجتهادية التي تخالف رأيه، ولينظر الشيخ البوطي في هذه المسألة هادئ النفس والنَفَس وسيتبين له ذلك، وكذلك فإن لابن تيميه كلاماً في غير موضع من كتبه يدلي بصريح العبارة على عكس ذلك، فمن ذلك قوله: (... هذا مع أني دائماً - ومن جالسني يعلم ذلك مني - إني من أعظم الناس نهياً عن أن يُنْسَب مُعَيّنٌ إلى تكفير، وتفسيق، ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة؛ وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى، وأني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية، والمسائل العملية) [مجموع الفتاوى 3/299].

 

ومن ذلك أيضاً قوله: - مما يصلح أن يكون ضابطاً للتكفير ودرساًً للذين يلقون الكلام على عواهنه-: (ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ} وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم.

 

والخوارج المارقون الذين أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين. واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم حتى سفكوا الدم الحرام وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم بدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفار. ولهذا لم يسب حريمهم ولم يغنم أموالهم.

 

وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟ فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن تكفر الأخرى ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضاً؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعاً جهال بحقائق ما يختلفون فيه.

 

والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض لا تحل إلا بإذن الله ورسوله. قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لما خطبهم في حجة الوداع: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا" وقال -صلى الله عليه وسلم-: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه" وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ذمة الله ورسوله" وقال: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار"، قيل: يا رسول الله؛ هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: "إنه أراد قتل صاحبه" وقال: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض"، وقال: "إذا قال المسلم لأخيه يا كافر! فقد باء بها أحدهما"، وهذه الأحاديث كلها في الصحاح.

 

وإذا كان المسلم متأولاً في القتال أو التكفير لم يكفر بذلك كما قال عمر بن الخطاب لحاطب بن أبي بلتعة: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنه شهد بدراً، وما يدريك أن الله قد اطلع على أهل بدر، فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟" وهذا في الصحيحين.

 

وفيهما أيضاً: من حديث الإفك: أن أسيد بن الحضير قال لسعد بن عبادة: إنك منافق تجادل عن المنافقين، واختصم الفريقان، فأصلح النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهم. فهؤلاء البدريون فيهم من قال لآخر منهم: إنك منافق، ولم يكفر النبي -صلى الله عليه وسلم- لا هذا ولا هذا، بل شهد للجميع بالجنة.

 

وكذلك ثبت في الصحيحين عن أسامة ببن زيد أنه قتل رجلاً بعد ما قال لا إله إلا الله، وعظم النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك لما أخبره، وقال: "يا أسامة، أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟" وكرر ذلك عليه حتى قال أسامة: تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ. ومع هذا لم يوجب عليه قوداً، ولا دية ولا كفارة، لأنه كان متأولاً ظن جواز قتل ذلك القائل لظنه أنه قالها تعوذاً.

 

فهكذا السلف قاتل بعضهم بعضاً من أهل الجمل وصفين ونحوهم وكلهم مسلمون مؤمنون كما قال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} فقد بين الله تعالى أنهم مع اقتتالهم، وبغي بعضهم على بعض إخوة مؤمنون، وأمر بالإصلاح بينهم بالعدل.

 

ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضاً موالاة الدين؛ لا يعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض، ويأخذ بعضهم العلم عن بعض ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض؟ مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك.

 

وقد ثبت في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأل ربه "أن لا يهلك أمته بسنة عامة فأعطاه ذلك، وسأله أن لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم فأعطاه ذلك، وسأله ألا يجعل بأسهم بينهم فلم يعطه ذلك" وأخبر أن الله لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم يغلبهم كلهم حتى يكون بعضهم يقتل بعضاً وبعضهم يسبي بعضاً.

 

وثبت في الصحيحين لما نزل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ} قال: "أعوذ بوجهك" {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: "أعوذ بوجهك" {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} قال: "هاتان أهون".

 

هذا مع أن الله أمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن البدعة والاختلاف، وقال: {فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة" وقال: "الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد" وقال: "الشيطان ذئب، الإنسان كذئب الغنم والذئب إنما يأخذ القاصية والنائية من الغنم" [مجموع الفتاوى 3/283-286].وكذلك يشير إلى ضوابط تكفير أهل البدع في 3/353 من مجموع الفتاوى فليراجع.

 

فلا ندري بعد ذلك ماذا سيقول الشيخ في هذه النصوص من أقوال ابن تيمية، لعله يهز كتفيه ويقول: يعني ماذا؟ لقد أثبتنا في كتابنا هذا أن ابن تيمية متناقض!وعندها يكون السكوت أفضل.

 

وبعد أن سقنا من أقوال ابن تيمية ما يكذب الدعوى بأنه (يكفر خصومه لأدنى المواقف الاجتهادية التي يخالفهم فيها) نقول أيضاً: إن هذه المسألة التي يتواصى بها خصومه شاهد على عكس ذلك، أي على أن ابن تيمية يتريث، ويبحث،ويتوثق قبل أن يحكم. ويتحرج من إلقاء تهمة الكفر، أو إعلان الإجماع عليها دون تثبت. فكيف ذلك؟ فلننقل عبارة ابن تيمية التي نقلها البوطي، وتحكم فيها ما تحكم، وحذف منها ما حذف، وفهم منها ما فهم، وسخر منها ما سخر، ولنضعها بين حاصرتين ولننظر فيها نظر من يريد أن يفهم؛ لا من يريد أن يصطاد ويشوه.

 

يقول ابن تيمية: (قلت: أما اتفاق السلف وأهل السنة والجماعة على أن الله وحده خالق كل شيء فهذا حق. ولكنهم لم يتفقوا على كفر من خالف ذلك، فإن القدرية الذين يقولون: إن أفعال الحيوان لم يخلقها الله؟ أكثر من أن يمكن ذكرهم من حين ظهرت القدرية في أواخر عصر الصحابة إلى هذا التاريخ. والمعتزلة كلهم قدرية، وكثير من الشيعة، بل عامة الشيعة المتأخرين، وكثير من المرجئة والخوارج وطوائف من أهل الحديث والفقه نُسِبوا إلى ذلك منهم طائفة من رجال الصحيحين.ولم يجمعوا على تكفير هؤلاء). [نقد مراتب الإجماع 168]
ما معنى هذا؟
إن هذا النص سيق أصلاً للرد على من ادعى إجماع السلف من أهل السنة والجماعة على تكفير من خالف هذه المقدمة: (الله وحده خالق كل شيء).

 

فالمسألة هنا ليست مسألة إثبات هذه الحقيقة ونفي عكسها؛ وإنما هي إثبات دعوى الإجماع على أمر آخر، وهو تكفير من قال قولاً يخالف ما انطوى عليه هذا العموم، فالسلف وأهل السنة والجماعة الذين اتفقوا على أن الله خالق كل شيء؛ لم يتفقوا على تكفير من خالف ذلك، أي إن منهم من كَفّر؛ ومنهم من لم يُكَفّر. ثم استطرد ابن تيمية مفصلاً، فذكر من هؤلاء الذين لم يجمع السلف على تكفيرهم: القدرية، وكثير من الشيعة، بل عامة الشيعة المتأخرين، وكثير من المرجئة والخوارج، وطوائف من أهل الحديث والفقه، بل وبعض رجال الصحيحين نسب إليه القول بأن: (أفعال الحيوان لم يخلقها الله).

 

إذن؛ هناك رجل (وهو ابن حزم) يقول: اتفق السلف على كفر من خالف القول بأن الله خالق كل شيء. ورجل ثان (وهو ابن تيمية) يقول: لا، لم يتفق السلف على كفر من خالف ذلك: فمنهم من كفر، ومنهم من لم يهجم بالتكفير. ورجل ثالث (وهو الكوثري)، يتتبع الثاني بما لا طائل تحته. ورجل رابع (وهو البوطي) يؤيد الأول، ويستصغر الثالث، ويتهم الثاني (بالخلط والتخبط) طبقاً لمبدأ (رمتني بدائها وانسلت)!

 

أما الأول: فساق القضية مجردة عن الدليل، على سبيل التعداد. وأما الثاني: فذكر أدلته فقال: دليلي على أن لا إجماع على القول بالتكفير لمن خالف منطوق أن الله خالق كل شيء أنني وجدت طوائف من المسلمين (وسماهم) لم يتفق السلف وأهل السنة والجماعة على تكفيرهم، بل تنازعوا في كفرهم، ومعلوم أن ابن تيمية ينقل ما يعرف، وهو الذي عاش في أواخر القرن السابع وأوائل القرن الثامن، ومن يدري فلربما لو كان البوطي معاصراً، له وبلغه قوله هذا لأثبته، كأن يقول: أما ما قاله البوطي في كتابه السلفية: (غير أنني ما سمعت وما رأيت إلى هذا اليوم أن القدرية يعتقدون أن أفعال الحيوان لم يخلقها الله، وها هي ذي كتب الفرق والملل والنحل أمامنا، ولم أجد في شيء منها مثل هذا النقل عنهم) فيقال له: ما دامت كتب الفرق والملل والنحل أمامكم فافتح منها الجزء الثالث من: (الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم) ص 54 واقرأ:

(قال أبو محمد: اختلفوا في خلق الله تعالى لأفعال عباده، فذهب أهل السنة كلهم، وقل من قال بالاستطاعة مع الفعل؛ كالمريسي، وابن عون، والنجارية، والأشعرية، والجهمية، وطوائف من الخوارج، والمرجئة، والشيعة؛ إلى أن جميع أفعال العباد مخلوقة، خلقها الله عز وجل في الفاعلين لها. ووافقهم على هذا موافقة صحيحة من المعتزلة: ضرار بن عمرو، وصاحبه أبو يحيى حفص الفرد. وذهب سائر المعتزلة، ومن وافقهم على ذلك من المرجئة، والخوارج والشيعة إلى أن أفعال العباد محدثة، فعلها فاعلوها، ولم يخلقها الله عز وجل).
فماذا عسى البوطي يقول بعد ذلك؟ أيصر على تكذيب ابن تيمية ويجمع إليه تكذيب ابن حزم الذي يدافع عنه؟ هذا لا يكون! لأن القضية تسقط برمتها حيث سقط موضوعها.

 

لقد كان البوطي في غنى عن هذه النهاية التي انتهى إليها لو أنه قرأ كلام ابن تيمية كاملاً، ولم يحذف منه ما حذف ومع ذلك تراه يقول: (هذا هو كلام ابن تيمية بطوله)!، والقارئ يعجب ويحار في تفسير هذا الحذف في هذا الموضع: هل هو الحرص على تكذيب ابن تيمية وعدم الثقة فيما ينقل، مع أن الرجل لم يرمه أحد من خصومه بالكذب والتقول، وخاصة في نقل آراء الناس والفرق، بل المشهور عنه أن الناس تضبط ما عندها من آراء الفرق والمذاهب على نقله. أم لأنه ذكر الشيعة فيمن ذكر ممن يقول بخلق أفعال العباد؛ فخاف البوطي من تبعة النقل، أو جامل على الأقل، عادّاً ذلك من الحكمة مثلاً! أم هو دافع العجلة والتسرع وغليان الدم؟ الله أعلم أي ذلك كان! إن الشيخ يثير الشفقة حقاً.يثير الشفقة حينما يحرص على أن يصم ابن تيمية بالتناقض. ويثير الشفقة حينما يخلط اجتهاداته بكلام الكوثري.

 

ويثير الشفقة حين يقول: (ودونك فاستعرض ما هو مدون في مجموع فتاوى ابن تيمية تجده يكرر الحكم بتكفير من ينساق وراء أحد هذين الوهمين في كل مناسبة).

ويثير الشفقة حينما يعد بنقل بعض من تلك النصوص، لكنه لم يفعل، ولكن؛ألم يعلق الأمر على مشيئة الله؟! إذن، فلا لوم عليه!
تبقى مسألة أخيرة تتعلق بهذا الجدل غير المتكافئ، فالقارئ لتعليق البوطي يخرج بنتيجة وهي أن ابن تيمية يرى رأي هؤلاء الذين يقولون: (إن أفعال العباد محدثة، فعلها فاعلوها، ولم يخلقها الله عز وجل).

 

بل يفهم القارئ - من حدته وخوضه يميناً وشمالاً - أن لا أحد يقول بهذا القول إلا ابن تيمية، وهذا واضح من نفيه أن يكون أحد قد قال بذلك، وأنه (ما سمع ولا رأى)، لا هو ولا "العلامة المحقق الكوثري" أن القدرية يعتقدون ذلك، ولا يدري أن رأي ابن تيمية فيمن يقول بهذا القول يوجد في غير هذا الوضع الذي يختص - فقط - في بيان حقيقة بعض الإجماعات التي يدعيها بعض الناس؟ وقد أشار رحمه الله إلى ذلك بعبارة تبين مقصوده، وتدفع كل توهم فقال: (والمقصود هنا الكلام على ما يظنه بعض الناس من الإجماعات). أي لا مجال هنا لتفصيل القول فيمن قال بالتكفير ومن لم يقل، لكن (الهوى يعمي وبصم) كما كتب الكوثري في واحد من تعاليقه، وما أصدق هذا القول فيه وفي من يمشي على خطاه.

ويدعي البوطي أيضاً أن ابن تيمية (يمارس سعادة ولذة كبيرة في نقده معظم الأئمة والعلماء).

 

والجواب على ذلك: أما أن ابن تيمية ينقد كثيراً من العلماء فهذا حق، ولا حرج عليه في ذلك إن شاء الله، فلم يزل العلماء ينقد بعضهم بعضاً ويرد بعضهم على بعض، وهذا مما يفتخر به الفكر الإسلامي، ونعتبره مظهراً من مظاهر حرية الفكر التي طبعت هذا التاريخ، وأما أنه يمارس سعادة ولذة كبيرة في النقد فهذا يحتاج إلى بينة: إما من إقرار ابن تيمية نفسه؛ كأن يقول مثلاً: ما أسعدني حين أنقد عالماً! أو: ما ألذ الهجوم على فلان من العلماء؛ أو ما في معنى ذلك! أو أن ينقل لنا البوطي شيئاً مما نقد به ابن تيمية غيره، ويضع أصابعنا على تلك السعادة وتلك اللذة! وحيث إنه لا إقرار من ابن تيمية، بل عكس ذلك كثير ومبثوث في تضاعيف مؤلفاته؛ ولا نقل من البوطي، ولم يَدَعْ هو لنا -كما لم نعهد عنده - القدرة على التدسس في مشاعر وأحاسيس ونوايا غيره؛ فستظل هذه دعوى لا تضر إلا مدعيها.

 

ويتطرف البوطي في أوهامه وتقديراته، فيرى أن ابن تيمية يستسيغ ويستجيز تبرئة الفلاسفة القائلين بِقِدَم العالم من الكفر إذا كان في ذلك وسيلة لتخطئة ابن حزم وبيان جهله! وهذه عبارته: (.. إذ لما كان في الانتصار لمذهب الفلاسفة في هذه المسألة، بإبعاد تهمة الكفر عنهم بسببها على أقل تقدير، ما يُظْهِر ابن حزم في الإجماع الذي نقله، في مظهر المخطئ المتسرع الذي لا يتثبت في الأحكام، فلقد كان للجنوح إلى مذهب الفلاسفة وتهوين القول بالقدم النوعي للمادة، ما يبرره! ولعل – من أقوى المبررات في نظره وشعوره أن يصل إلى تخطئة ابن حزم وبيان جهله!)[كتابه ص 173].

 

وحتى يكتمل عجبنا من هذه الجرأة، (ونستحي أن نسميها بغير هذا الاسم) لنستمع إلى رأي ابن تيمية بابن حزم الذي يدافع عنه البوطي هذا الدفاع المبطل، ويرى أن ابن تيمية يستحل الكفر إذا كان ذلك سبيلاً إلى ماذا؟! إلى أمر بسيط بالنسبة للكفر؟ تخطئة ابن حزم وبيان جهله!

 

يقول ابن تيمية معقباً على ذم العلماء لابن حزم بسبب اتباعه الظاهر، ونفيه المعاني في الأمر والنهي والاشتقاق، وما في كلامه من الوقيعة في الأكابر، والإسراف في نفي المعاني، ودعوى متابعة الظواهر: (... وإن كان له من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة ما لا يدفعه إلا مكابر، ويوجد في كتبه من كثرة الاطلاع على الأقوال والمعرفة بالأحوال، والتعظيم لدعائم الإسلام ولجانب الرسالة ما لا يجتمع مثله لغيره. فالمسألة التي يكون فيها حديث يكون جانبه فيها ظاهر الترجيح، وله من التمييز بين الصحيح والضعيف والمعرفة بأقوال السلف ما لا يكاد يقع مثله لغيره من الفقهاء) [مجموع الفتاوى 4/19-20].

 

ولا ندري بعد هذا كيف نوفق بين هذه الشهادة التي يشهدها ابن تيمية في ابن حزم، وبين الشهادة التي يستخلصها البوطي ويقول: إنها ديدن ابن تيمية لا مع ابن حزم بل مع معظم الأئمة والعلماء! والأعجب من هذا أنه يعتبر هذه الافتراءات والترهات التي أوصله إليها تفكيره دفاعاً عن ابن تيمية حيث يقول: (ولعل خير دفاع عنه -عن ابن تيمية- في تحليل أسباب هذا التناقض العجيب الذي تلبس به، أن نتذكر طبيعته النقدية لمعظم الأئمة والعلماء، حتى لكأنه يمارس سعادة ولذة كبيرة في ذلك). أرأيت إلى هذا الدفاع؟! ألا يذكرك بتسمية هجوم إسرائيل وإغارتها على ما حواليها من الدول واحتلالها أرضها دفاعاً؟!

 

بل لا يستحي من تكرار هذا المعنى عندما يقول: (إن هذا التحليل لهذا الاضطراب المتناقض في موقف ابن تيمية في هذه المسألة هو - بنظري - أقرب ما ينسجم مع الدفاع عن عقيدته الإسلامية التي لا نحب أن نرتاب فيها)، والحمد لله على أن وضع هذا الاحتراس: (بنظري) في ثنايا هذه النتيجة التي وصل إليها، فهو احتراس جميل بقدر ما هو منصف، حيث لم يسد الباب أمام أنظار أخرى تقرأ لابن تيمية وتحكم عليه.

 

المسألة الثانية: نظرية الكسب:

ينسب البوطي لابن تيمية مخالفته عامة أهل السنة والجماعة. ومن يسميهم عامة أهل السنة والجماعة هنا هم الأشاعرة.وعلى عادة البوطي في الإيهام والعبارات الملتوية، يدعي على الخصم ادعاءات، ثم يبني على هذه الادعاءات نتائج، ثم يضع هذه النتائج في قوالب المُسَلّمات التي لا تقبل الجدل كما فعل هنا. فبعد أن أشار إلى رأي الفلاسفة القدماء من أن الأشياء تكمن فيها أسباب ذاتية بالطبع؛ وإلى رأى بعض الفلاسفة (الإسلاميين) كالفارابي وابن رشد من أن الأشياء فيها أسباب أودعها الله فيها؛ ويضع قاسماً مشتركاً بين أولئك وهؤلاء، وهو أن في الأشياء فاعلية كامنة في ذاتها تسمى العلة أو السبب، ليصل إلى نتيجة موافقة ابن تيمية - القائل بالأسباب - للفلاسفة، وهذا ما لا يغتفر.

 

ومن حيث الأصل فإن الحكم بصحة الرأي لا ينبني على موافقته لهذا الفريق من الناس مهما كانوا، أو عدم موافقته، بل لا بد أن يكون هذا الرأي صحيحاً في نفسه حتى لو أعرض عنه من أعرض، أو أخذ به من أخذ، ولكن العجب لا ينقضي من البوطي الذي يتجاوز عن الغزالي في تبنيه منطق اليونان برمته، وحكمه بـ(أنه من لا يحيط به فلا ثقة بعلومه أصلاً)، بل يقرر أن ذلك ما هو جدير أن يشكره عليه ابن تيمية وغيره؛ فإذا ما قال ابن تيمية برأي وتبين أن للفلاسفة قولاً يوافقه كانت جريمة، وأي جريمة!

 

نقول هذا ونتحفظ كثيراً على أن ابن تيمية وافق الفلاسفة، فهكذا أراد البوطي، وإلا فابن تيمية يرى رأيه مستنداً قبل كل شيء وبعده إلى الكتاب والسنة – وهذا شأنه دائماً - وحتى في هذه المسألة فإن رأيه في غاية الوضوح والسطوع، ولا يعكر عليه إلا الابتسار والتشويه والتدخل المغرض في ليِّ عباراته والتقول عليه، وبتر ما يدفع أي شبهة في فكر الرجل وعقيدته، وكمثال على هذا البتر المغرض فإن البوطي نقل عنه قوله: (ومن قال: إنه يفعل عندها لا بها، فقد خالف ما جاء به القرآن، وأنكر ما خلقه الله من القوى والطبائع، وهو شبيه بإنكار ما خلقه الله من القوى التي في الحيوان التي يفعل الحيوان بها، مثل قدرة العبد). فسكت البوطي هنا، ووقف، ووقوفه مريب جداً حيث إن تتمة الفقرة تقول: (كما أن من جعلها (أي الأسباب) هي المبدعة فقد أشرك بالله وأضاف فعله إلى غيره). [مجموع الفتاوى 3/112].

 

واستبعاد هذه العبارة من الاستشهاد يهدم تهويلة البوطي من أساسها من أن (ابن تيمية يثبت بكلامه هذا العلة الأرسطاطاليسية صراحة (!) ويكرر نظرية الغريزة بمعناها الفلسفي الذي يعطي المادة فعالية ذاتية مستقلة. وبتعبير أدق: إن ابن تيمية يثبت من خلال كلامه هذا في السبب (ماهية) هي في الحقيقة مسبب السبب (!)، وبهذا يخرج ابن تيمية هنا عن روح المذهب الإسلامي، ويعتنق أكبر الأفكار التي يقوم عليها المنطق الأرسطاطاليسي كما يقرر الدكتور علي سامي النشار)[كتابه 175].

 

ومرة أخرى ننبه إلى أن البوطي هنا خلط كلامه بكلام النشار، فبينما يبتدئ الفقرة فتظن أن هذا كلامه؛ إذا به يختتمها محيلاً على النشار، لكن أين ينتهي كلامه؛وأين يبدأ كلام النشار؛ فهذا غير مهم عنده.

 

ونحن هنا ننقل عبارة النشار للمقارنة، فهو يقول: (.. أو بمعنى موجز إنه أثبت العلية الأرسططاليسية (زاد البوطي هنا: صراحة!) فأثبت بقوله هو الغريزة أو النحيزة، أو الخلق (اجتهد البوطي هنا فأضاف كلمة: نظرية، وأضاف القوسين، وأضاف جملة: بمعناها الفلسفي الذي يعطي المادة فاعليه ذاتية مستقلة. وهذا حتى يثبت إضافته على ما جاء به النشار، فكم ترك الأول للآخر) أو بمعنى أدق: أثبت في السبب (ماهية) وجوهراً هو مسبب السبب (عبارة البوطي: (ماهية) هي في الحقيقة مسبب السبب)! وبهذا خرج عن روح المذهب الإسلامي، واعتنق أكبر الأفكار التي يقوم عليها المنطق الأرسططاليسي).

 

البوطي والنشار:

لابد هنا من كلمة تضاف حول النشار، نضعها لما لها من مساس بمنهج البوطي، فقد قرأت ما كتبه النشار في كتابه (مناهج البحث عند مفكري الإسلام) وخاصة ما كتبه عن الغزالي وابن تيمية، ووجدته في الأغلب ينصف الرجلين،ولا يجانب الصواب إلا في هذا الرأي الذي يقّوِّم فيه رأي ابن تيمية في نظرية(الأسباب)، والنشار بالدرجة الأولى دارس فلسفة، وقد يكون معذوراً في اعتباره أن أهل السنة والجماعة هم الأشاعرة فقط، وأن من خالف الأشاعرة فقد خالف أهل السنة، وأن نصيبه من الاعتماد على الأدلة - الشرعية في بحثه قليل إن لم يكن معدوماً.

 

وإنما قصاراه أقوال يجمعها لهذا وذاك، ومقارنات بين آراء فلاسفة اليونان والغرب؛ وفلاسفة المسلمين، وعلى هذا فإذا قال ما قال بحكم التقليد فهذا ما أداه إليه علمه، على أن له في تقييم تراث ابن تيمية ما يغضب البوطي ويضيق به صدره، فهو القائل في ابن تيمية: (وليس هناك في الحقيقة من تكلم - فيما قبل العصور الحديثة بما تكلم به ابن تيمية. لقد وصل حقاً إلى أوج الدرج في فلسفة المنهج التجريبي بنقده للمنطق اليوناني القياسي، وبدعوته إلى المنطق الإسلامي التجريبي، وعبر عن روح الحضارة الإسلامية الحقة في عصر الانهيار الحضاري الإسلامي الذي عاش فيه).

 

ويقول عن كتاب ابن تيمية: (الرد على المنطقيين): (أعظم كتاب في التراث الإسلامي عن المنهج، تتبع فيه مؤلفه تاريخ المنطق الأرسططاليسي والهجوم عليه، ثم وضع هو آراءه في هذا المنطق في أصالة نادرة وعبقرية فذة).

 

من المؤكد أن الشيخ البوطي قد مر على هذه الآراء في كتاب النشار، ولكن لم يختر إلا ما يوافق هواه بغض النظر عن صحته. وكمقارنة بين الرجلين: النشار والبوطي؛ فإن النشار يكتب عن ابن تيمية بعقلية العالم الحيادي، وحتى لو أخطأ في بعض آرائه فلا يمنعه التعصب والهوى أن يعلن ما يعتقد أنه صواب، وما يبدو من خطئه فمرجعه إلى ما أَلِفَه واعتاده من آراء، أما البوطي فيكتب عن ابن تيمية بعقلية الذي يصيح: يالثارات الغزالي، وعلم الكلام، وابن حزم، والصوفية، وابن عربي، ونظرية الكسب، يالثارات كل الأشخاص، وكل المسائل التي تعرض لها ابن تيمية وعصف بها.

 

وفي الجملة؛ فمن الصعب عليه أن ينصف من يرى أن مصلحته في الهجوم عليه، إنه قد يوهمك أنه يحاول الإنصاف، ولكن طبيعته لا تطاوعه في ذلك، وهذه كتبه هل ترى فيها شيئاً من إنصاف من ينزل بساحتهم، بل هذا كتابه (السلفية) اقرأه وقلب النظر فيه، فإنك لن تعثر فيه على رائحة إنصاف.

 

ومما عرضناه حول هاتين المسألتين اللتين جاء بهما البوطي ليستدل على تخبط وتناقض ابن تيمية تبين لنا: من هو المتخبط ومن هو المتناقض؟ على أن عدم الأصالة في الفهم؛ وعدم إصابة المعنى الصحيح للكلام قد تُغْتفر، فالناس أفهام وطاقات. لكن الذي لا يغتفر هو البعد عن الأمانة في النقل، وتحريف الكلام ليوافق الهوى.

 

وكلمة أخيرة: فالبوطي ليس مبدعاً في التعرض لهاتين المسألتين: لا من حيث اختيارهما؛ ولا من حيث معالجتهما. ولم يفعل سوى أن دلل على قدرة لا يُحْسَد عليها في ادعاء اجتهادات ليست له، ويا ليتها كانت اجتهادات صحيحة! إذن لهان الخطب! ولكنها اجتهادات خاطئة بل مغرضة فأصبحت بتبني البوطي لها وتعليقه عليها خطأ مركباً أو ذات هوى مركب.