البوطي.. انحراف في العقيدة وخلل في المنهج!!-3
23 رمضان 1432
منذر الأسعد

3: عقدة ابن تيمية

عن: عبد القادر حامد "بتصرف"

شيخ الإسلام ابن تيمية جبلٌ شامخٌ ظل كذلك على مدى القرون، تعاوره ناس من طبقات شتى، وناشته أسلحة عمالقة وأقزام، كلهم يحاول جهده، ويجرب حظه! ولكن أين هؤلاء، ومن يذكرهم؟! ومن يقرأ لهم؟ نحن نجيب: لا يقرأ لهم - في الأغلب - إلا من يريد أن يجرب حظه مع ابن تيمية من جديد، ليجرد عليه أسلحة ثبت أنها إما كليلة أو فليلة.

 

مجلدات، رسائل مجردة، فتاوى، قصائد، ترجمات.. كلها ساهمت في هذه الملحمة التي بدأت في حياة ابن تيمية ولمّا تنته بعد: أهواء يختلط فيها الحسد والغيرة، بالتصوف الأعجمي المتطرف، بالعداء للسنة، بالحقد على الصحابة، بالحرص على المنصب، بحب الظهور عند جهة مدخولة العقيدة، بالشعوبية المبنية على كره كل ما هو عربي، بالتعصب للمذاهب والأشخاص، بكثير مما يصعب حصره من الدوافع التي تظهر خطوطها في كلام أصحابها بادية للعيان، أو تلك التي تتوارى وتتدثر، ولكن تدل عليها رائحتها وفحيحها من وراء الكلمات. كل ذلك وأكثر منه قد أُرصِد ويُرصَدُ كي يخفت صوت ابن تيمية، ويسدل الستار على المنهج الذي نصب له جهده وحياته.

 

هذا أمر ومنهج قد استتب، وهو إلى قوة وانتشار بحمد الله ومنه وكرمه. إننا لا ندافع عن ابن تيمية، فابن تيمية يدافع عن نفسه بأسلوبه، وعلى الرغم من ضياع كثير مما كتب، ففيما بقي من تراثه كفاء خصومه، وإذا أشرنا إلى فقرات من آرائه في مؤلفاته، فهذا ليس تعبيراً عن تعصب للرجل، بل إنصافاً للحق المجرد الذي نؤمن به وندين الله عليه، فإذا أحبه محبوه فللحق الذي ينافح عنه،وإذا تحامل عليه من تحامل فللباطل الذي يمدون إليه بسبب أو أكثر.

كما لا نظن بابن تيميه العصمة، فهو بشر يصيب ويخطئ، ولكن المناقشة العلمية شيء، والتحامل الصارخ، والتشفي العاري شيء آخر.

ووقفة البوطي مع الشيخ العملاق، تؤكد تهافت هذا النموذج في البغضاء التي تتستر وراء قناع علمي زائف.

 

من هنا،تتجمع خصائص البوطي في التأليف والجدل، وتحتشد على نحو بارز وطريف حينما يتصدى لابن تيمية (منبهاً إلى أخطاء وقع فيها ومعتذراً له!)، وحتى يكون لتصديه هذا مؤيدون فلا بد من اللجوء إلى رمز له جمهوره، وهكذا فما إن افتتح البوطي اللعبة التي سماها: «وقفة مع ابن تيمية»، حتى دلف وألقى الرمز بين يدي جمهوره! هذا الرمز هو الغزالي..

 

والمجيء بالغزالي إلى هذا المعمعان حيلة يراها البوطي ناجحة، فلا بد من إثارة العواطف، وهذه لا تثور إلا بندب وتفجع وتوجع! ولا بد أن يكون موضوع هذا الندب والتفجع والتوجع رمزاً معروفاً، ولعله يستخدم هذه الوسيلة تأثراً بالذين يستغلون حب المسلمين قاطبة لآل البيت من أجل الوصول إلى أهـداف أخرى.وهو الذي تحول مؤخراً إلى الاحتطاب بحبلهم!

 

وسبب آخر وهو تحويل المعركة من طرفين يشك الجمهور في تكافئهما؟ وهما: البوطي وابن تيمية، إلى طرفين قد يوجد من الناس من يقول بتكافئهما وهما:الغزالي وابن تيمية! والتبعة على البوطي ستكون أخف وأهون - أو هكذا يظن- إذا ما جعل هذين الإمامين يتصارعان وعندها قد يقف على مبعدة منهما يفرك يديه ضاحكاً قائلاً:

وكتيبةٍ لبستُها بكتيبةٍ حتى *** إذا التبستْ نفضتُ لها يدي

 

يقول البوطي [ص 160]:
«ولكن ابن تيمية أنحى باللائمة- على الغزالي بسبب خوضه في تلك المصطلحات والمقاييس (مصطلحات ومقاييس الفلاسفة) واتهمه أكثر من مرة بما كان جديراً به أن يشكره عليه، انطلاقاً من قراره الجازم بأن الاشتغال بعلم الكلام لإحقاق الحق الذي جاء به القرآن والسنة، عمل مبرور لا حرج فيه ولا مانع منه.
ويضع البوطي على طريقته في الإيهام والتلبيس في الحاشية ما يشير إلى أن مضمون ما قاله موجود في صفحة 184 من الجزء التاسع من مجموع فتاوى ابن تيمية.
ولكن - قبل أن نرجع إلى الموضوع المشار إليه -: ما مضمون كلامه؟
إن مضمونه أن ابن تيمية:
1 - أنحى باللائمة على الغزالي بسبب خوضه في مصطلحات ومقاييس الفلاسفة.
2- اتهمه أكثر من مرة بما كان جديراً أن يشكره عليه!
ولكن ما هذا الذي كان يجب على ابن تيمية أن يشكر الغزالي عليه؟! لقد تركه البوطي مبهماً!
3- إن لابن تيمية قراراً جازماً لا مثنوية فيه بأن الاشتغال بعلم الكلام لإحقاق الحق الذي جاء به القرآن والسنة عمل مبرور لا حرج فيه ولا مانع منه.

 

نقول:
أما إن لابن تيمية كلاماً في الغزالي فلا ينكر ذلك أحد، وأما أن يكون هذا الكلام حقاً أو باطلاً في نفسه فهذا متروك للعلماء ليقرروه، وهو مباح لكل ناظر وباحث - لكن بشروط البحث والنظر - لينظر فيه ويبحث عن وجه الحق فيما احتواه. ولكن غير المباح، بل المعيب؟ أن تدعى دعاوى لا دليل عليها لمجرد تشويه السمعة والصد ليس إلا! وإذا كان البوطي غيوراً على من يحب - وهذا حقه- فاللائق به أن يجمع أطراف كلام ابن تيمية في الغزالي، وأن يناقش ذلك مناقشة العلماء، وأن لا يقصقص أطراف الاستشهادات حتى توافق هواه، وتتفق مع ما في نفسه من دخن على ابن تيمية.

 

ولنعد إلى ص 184 من الجزء التاسع من مجموع الفتاوى.
يتكلم ابن تيمية عن عيب نظار المسلمين طريق أهل المنطق، وبيانهم قصورها وعجزها، ورأيهم في المنطق جملة فيقول:
«ومازال نظار المسلمين يعيبون طريق أهل المنطق، ويبينون ما فيها من العي واللكنة، وقصور العقل وعجز النطق؛ ويبينون أنها إلى إفساد المنطق العقلي واللساني أقرب منها إلى تقويم ذلك. ولا يرضون أن يسلكوها في نظرهم ومناظراتهم، لا مع من يوالونه ولا مع من يعادونه. وإنما كثر استعمالها في زمن «أبي حامد»؛ فإنه أدخل مقدمة من المنطق اليوناني في أول كتابه «المستصفى»، وزعم أنه لا يثق بعلمه إلا من عرف هذا المنطق.

 

وصنف فيه «معيار العلم» و«محك النظر»؛ وصنف كتاباً سماه:
«القسطاس المستقيم»، ذكر فيه خمسة موازين: الثلاث الحمليات؛ والشرطي المتصل، والشرطي المنفصل. وغَيّر عباراتها إلى أمثلة أخذها من كلام المسلمين، وذكر أنه خاطب بذلك بعض أهل التعليم، وصنف كتاباً في تهافتهم، وبين كفرهم بسبب مسألة قدم العالم، وإنكار العلم بالجزئيات، وإنكار المعاد وبين في آخر كتبه أن طريقهم فاسدة؛ لا توصل إلى يقين؟ وذمها أكثر مما ذم طريقة المتكلمين. وكان أولاً لا يذكر في كتبه كثيراً من كلامهم: إما بعبارتهم؟ وإما بعبارة أخرى،ثم في آخر أمره بالغ في ذمهم؛ وبين أن طريقهم متضمنة من الجهل والكفر ما يوجب ذمها وفسادها أعظم من طريق المتكلمين؟ ومات وهو مشتغل بالبخاري ومسلم.

 

والمنطق الذي كان يقول فيه ما يقول؟ ما حصل له مقصوده، ولا أزال عنه ما كان فيه من الشك والحيرة؛ ولم يغن عنه المنطق شيئاً.
ولكن بسبب ما وقع منه في أثناء عمره وغير ذلك، صار كثير من النظار يُدْخِلون المنطقَ اليوناني في علومهم، حتى صار من يسلك طريق هؤلاء من المتأخرين يظن أنه لا طريق إلا هذا، وأن ما ادعوه من الحد والبرهان هو أمر صحيح مُسَلّمٌ عند العقلاء، ولا يعلم أنه مازال العقلاء والفضلاء من المسلمين وغيرهم يعيبون ذلك ويطعنون فيه. وقد صنف نظار المسلمين في ذلك مصنفات متعددة، وجمهور المسلمين يعيبونه عيباً مجملاً لما يرونه من آثاره ولوازمه الدالة على ما في أهله مما يناقض العلم والإيمان ويفضي بهم الحال إلى أنواع من الجهل والكفر والضلال». [مجموع الفتاوى 9/184 -185].

 

هذا ما جاء فيه ذكر الغزالي في هذا الموضع، فهل فيه اتهامات؟ فقد قال ابن تيمية: إن نظار المسلمين يعيبون طريق أهل المنطق، وإن هذه الطريق كثر استعمالها منذ زمن الغزالي، وإنه أدخل مقدمة من المنطق اليوناني في أول كتابه «المستصفى»، وزعم - أي الغزالي - أنه لا يوثق بعلم من لا يعرف المنطق،وصنف في المنطق كتباً مثل: «معيار العلم» و«محك النظر»، وصنف أيضاً «القسطاس المستقيم» و«تهافت الفلاسفة»، فهل هذا كذب على الغزالي؟

 

وبين أن الغزالي بيَّن كفر الفلاسفة وأسبابه، وكذلك ادعى على الغزالي أنه حكم بفساد طريق المعرفة على طريق الفلاسفة وادعى ذمه لطريق المتكلمين؛ فهل هذه مجرد دعاوى لا دليل عليها، أم أن أدلتها مبثوثة في كتب الغزالي المعروفة؟
وكذلك ذكره التطور الذي حصل لأبي حامد وأنه مات وهو مشتغل بالبخاري ومسلم، هل هذه دعوى غير صحيحة؟ أم أنها لوم وشيء معيب أن يسند للغزالي؟
هل في قول من قال في عالم من العلماء: إنه قال كذا‎، وفعل كذا وبيان أسباب ذلك ظلم لهذا العالم أو تهمة أو لوم؟
ثم ما معنى قولك:
«بل إن ابن تيمية - رحمه الله - ازداد حماسة في الهجوم على المنطق ومقاييسه واصطلاحاته، حتى لكأن فرط الحماسة أنساه ما قد قرره بشأن علم الكلام، وجواز الاستفادة من اصطلاحات المناطقة وأساليبهم في بيان الحق، فأخذ يقرر بأن ما يعتمده النظار من أهل الكلام من الأدلة العقلية شيء لا حاجة إليه ولا موجب للاشتغال به؛ فإن القرآن جاء بما يغني عنه»، [ص 160].
لماذا تغار على المنطق غيرتك على الغزالي حتى لكأنهما توأمان؟، وهل علم المنطق وعلم الكلام شيء واحد في نظرك؟

 

إن ابن تيمية لم يخرج عن ما قرره،ولم يناقض نفسه -كما يحلو لك أن تثبت، وتقيم ما تسميه أنت أدلة على ذلك - فالموضع الذي تشير إليه على أن ابن تيمية تحدث فيه طويلاً في علم الكلام، وحكم دراسته وممارسته والاحتجاج في مسائل العقائد الإسلامية به؛ وانتهى بحمد الله إلى أن ممارسته ليست بدعة، والاعتماد عليه في الدفاع عن العقائد الإسلامية ليس محرماً، إذا لم يقصد به الاستدلال بالأدلة الفاسدة أو تبني ما قد يكون من المقولات الباطنية!

 

نقول: هذا الفعل منك تحميل لكلام ابن تيمية ما لا يحتمل، وعلى طريقتك في البتر والقصقصة والتشويه تستدل على ما تريده، وتلوي كلام ابن تيمية عن مقصده، متوهماً أنك بهذا البتر والتشويه تصيِّر كلامه ملائماً لهواك.
ولكن هيهات! فأي عاقل يقرأ كلام ابن تيمية في سياقه التام يكتشف استهانة وتلاعباً بالنصوص لا يليقان بطلبة العلم فضلاً عن الذين نصبوا أنفسهم للتدريس والإرشاد.
ولو وضعنا - هنا - الكلام الذي يحيل على شذراته؛ بتمامه؛ لطال الموضوع، ولأمللنا القارئ، فليرجع من يشاء إلى ذلك الموضوع من مجموع الفتاوى 9/293 - 327، وليقرأ كلاماً كانت له روح هناك، فجاء البوطي وانتزع روحه، وجعله عضين، وقدمه على أنه هو الذي يقول به ابن تيمية!
والغريب أنه لا يفطن لهذا التشويه؛ فيبني عليه، أو يستنتج منه آراء شائهة من مثل قوله: «فإن أحداً منهم لم يتبن المضامين الباطلة للفلاسفة والمناطقة اليونانيين» [ص 159].

 

وقوله: «وقد انعكس هذا الاضطراب في كلام ابن تيمية على أذهان كثير ممن يقرءون له بسطحية ودون صبر أو استيعاب» [ص 61]، ففي كلامه هذا أمور:
1- وصف لكلام ابن تيمية بالاضطراب.
2- انعكاس هذا الاضطراب على أذهان كثير ممن يقرءون لابن تيمية بسطحية ودون صبر أو استيعاب، وهذه العبارة ملتوية أشد الالتواء، وبيان ذلك أن وصف كلام ابن تيمية بالاضطراب تركه البوطي معلقاً، حتى إذا قال له قائل: يا شيخ، كثير عليك أن تحكم على كل كلام ابن تيمية بالاضطراب، لربما قال: لا،أنا لا أقصد جميع كلامه؟ وإنما أصف بالاضطراب هذه الفقرة التي نقلتُها من الجزء التاسع ص 225 من مجموع الفتاوى! فيقال له: حتى على هذه النية، أين الاضطراب في هذا الكلام؟ وهل هذه الفقرة وحدها كافية لبلبلة أفكار من يحكم عليهم البوطي هذا الحكم الجائر؟ فإن كان كلام ابن تيمية مضطرباً كله فهو يعني قراءه، وأنت منهم! إلا أن تحصن ذهنك من الاضطراب بالابتعاد عنه، والفرار منه فرارك من مجذوم! وياليتك فعلت هذا؟ إذن لكفيت واستكفيت، ولكن ها أنت من قراء ابن تيمية! لكن أستغفر الله، فقد كدنا ننسى ما قلت، فأنت من القلة القليلة التي أفادها مفهوم كلامك السابق، والتي تقرأ له بعمق وصبر واستيعاب!، فالحمد لله الذي عصمك - عند نفسك - من الاضطراب!

 

مثال من المبالغة والتحدي الفارغ:

قد يظن ظان أن هجوم البوطي على ابن تيمية، واستظهاره بالغزالي آت من دراسة مستفيضة لِعِلْمِ الرجلين وتعمقٍ فيما كتبا، ثم من تبيُّن عادل لما كتبه ابن تيمية حول الغزالي؛ أو حول المسائل العلمية التي تعرض لها، ومن توصل إلى أن وجه الحق في هذه المسائل كان إلى جانب الغزالي...

 

والحق أن كل ذلك لم يكن - وسوف نبرهن على ذلك - وإنما الذي كان أن البوطي سمع من المتعصبين مثله أن ابن تيمية عاب على الغزالي، وهو بنظر هؤلاء (قدس الأقداس) الذي لا يُمس ولا يُنتقد.

 

ومن جهة ثانية يريد البوطي أن يجعل هذه المشكلة - انتقاد ابن تيمية للغزالي- سلاحاً من الأسلحة التي يرمي ابن تيمية بها، لعله يصيب منه مقتلاً بعد أن تيقن أن علمه وآراءه لم تمت، وأنه لا زال حياً على الرغم من قول متعصب شعوبي حاقد من المتأخرين كالكوثري فيه: «وحيث لم يكن له شيخ يرشده في العلوم النظرية أصبح علمه لا يرتكن على شيء وثيق خليطاً كثير التناقض، توزعت مواهبه في أهواء متعبة، ثم أفضى إلى ما عمل وزالت فتنته برد العلماء عليه».

 

ولا شك أن البوطي قد مر بهذه العبارة المظلمة، ولا ندري هل أمَّن عليها؟ أم أشاح عنها وجهه لقبحها وعفونة رائحتها؟! إن كان أمَّن عليها فقد أمَّن على كذب، وإن كان أشاح عنها فمضمون كلامه عن ابن تيمية مخالفة عملية لهذه الإشاحة!

 

وحتى نقيم الدليل على مجازفات البوطي ننقل فقرة من فقر كتابه تدلك على ما حكمنا به عليه من قلة التعمق والتبين التي سببها العجلة أو الهوى أو كلاهما، يقول عن الغزالي:
«... وأما أنه قد انطلى عليه شيء من أوهامهم أو انزلق إلى أي من الباطل الذي ضلوا في أوديته، فهذا ما شهدت الدنيا كلها بنقيضه، بل شهد بنقيض ذلك ابن تيمية نفسه (سبحان الله)، وما عرف تاريخ الفلسفة رجلاً مزق الأوهام الفلسفية بمباضع المقاييس الفلسفية ذاتها (هذه استعارة مكنية!)، وانتصر للحق الذي دل عليه كتاب الله عز وجل، بالاصطلاحات الفلسفية نفسها كالإمام الغزالي»[ص 163].

 

ليس ابن تيمية وحده من ينقض أمثال هذه الفقرة التهويلية التي جادت بها قريحة الشيخ البوطي، بل هو عندما يشير إلى أن الغزالي تأثر بأساليب الفلاسفة ينقل كلام العلماء قبله من جهة، ويعتذر للغزالي من جهة أخرى؛ لأنه لم يتيسر له العلم بالسنة، التي تعصم الإنسان من العدوى بطرق الفلاسفة وأساليبهم، ومعروف أن الغزالي قال: «بضاعتي في الحديث مزجاة»، وكتبه - ومن أشهرها الإحياء- تشهد بذلك (ولا ندري أينكر البوطي ذلك؟!)، وابن تيمية في نقده ينهج المنهج الأقوم، فيبين أوهامه وأسبابها وعذره فيها، ويذكر ما له من محاسن، ويذكر أقوال العلماء فيه فلا يقبل ما جاء به دون نقاش، ولا يرد كل ما جاء به دون دليل،

 

يقول عن الغزالي:
«ولكن كان هو وأمثاله -كما قدمت - مضطربين لا يثبتون على قول ثابت؛ لأن عندهم من الذكاء والطلب ما يتشوفون به إلى طريقة خاصة الخلق، ولم يقدر لهم سلوك طريق خاصة هذه الأمة، الذين ورثوا عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - العلم والإيمان، وهم أهل حقائق الإيمان والقرآن، - كما قدمناه -، وأهل الفهم لكتاب الله والعلم، والفهم لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم – وإتباع هذا العلم بالأحوال والأعمال المناسبة لذلك، كما جاءت به الرسالة.

 

ولهذا كان الشيخ «أبو عمرو بن الصلاح» يقول - فيما رأيته بخطه -:
«أبو حامد كثر القول فيه ومنه، فأما هذه الكتب (يعني المخالفة للحق) فلا يُلْتَفَتُ إليها، وأما الرجل فيُسْكَتُ عنه، ويفوض أمره إلى الله». ومقصوده: أنه لا يُذْكَرُ بسوء، لأن عفو الله عن الناسي والمخطئ وتوبة المذنب تأتي على كل ذنب،وذلك من أقرب الأشياء إلى هذا وأمثاله، ولأن مغفرة الله بالحسنات منه ومن غيره، وتكفيره الذنوب بالمصائب تأتي على محق الذنوب، فلا يقدم الإنسان على انتفاء ذلك في حق معين إلا ببصيرة، لاسيما مع كثرة الإحسان والعلم الصحيح،والعمل الصالح والقصد الحسن. وهو يميل إلى الفلسفة، لكنه أظهرها في قالب التصوف والعبارات الإسلامية.

 

ولهذا: فقد رد عليه علماء المسلمين، حتى أخص أصحابه أبو بكر بن العربي، فإنه قال: «شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منهم فما قَدِرَ». وقد حكي عنه من القول بمذاهب الباطنية ما يوجد تصديق ذلك في كتبه. ورد عليه أبو بكر الطرطوشي، ورد عليه أبو الحسن المرغيناني ورفيقه، رد عليه كلامه في مشكاة الأنوار ونحوه، ورد عليه الشيخ أبو البيان، والشيخ أبو عمرو ابن الصلاح، وحذر من كلامه في ذلك هو وأبو زكريا النواوي وغيرهما، ورد عليه ابن عقيل، وابن الجوزي، وأبو محمد المقدسي وغيرهم». [مجموع الفتاوى 4/65-66].

 

ويقول عن كتابه الإحياء:
«و(الإحياء) فيه فوائد كثيرة؛ لكن فيه مواد مذمومة، فإنه فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد، فإذا ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدواً للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين. وقد أنكر أئمة الدين على «أبي حامد» هذا في كتبه، وقالوا: مرضه (الشفاء) يعني شفاء ابن سينا في الفلسفة.وفيه أحاديث وآثار ضعيفة؛ بل موضوعة كثيرة. وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وترهاتهم. وفيه مع ذلك من كلام المشايخ الصوفية العارفين المستقيمين في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة، ومن غير ذلك من العبادات والأدب ما هو موافق للكتاب والسنة، ما هو أكثر مما يرد منه، فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس وتنازعوا فيه». [مجموع الفتاوى10/551-552].

 

وهكذا يتبين لنا من هاتين الفقرتين السابقتين حقيقة الدعوة العريضة من قول البوطي: «فهذا ما شهدت الدنيا كلها بنقيضه»! ياليته ذكر لنا أسماء من أهل هذه الدنيا! وقوله كذلك: «بل شهد بنقيض ذلك ابن تيمية نفسه»! فهلا ذكر الشيخ أين شهد ابن تيمية بنقيض ذلك؟! وما تبقى من فقرة الشيخ فهو صراخ وحدة وتحدي «قبضايات» لا علماء.

 

على أننا نضع هنا بين يدي البوطي درساً في النقد يعلمناه ابن تيمية لعله الدكتور ينتفع به، فتهدأ نفسه وتعتدل، ويضعه نصب عينيه إذا كتب في المستقبل معلماً ومرشداً وناقداً، إذن، يُكَفّرّ عن تحامله وأخطائه التي يقتحم فيها بدافع العجلة والهوى، ولا ريب عندنا وعند الشيخ أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.

 

يقول ابن تيمية في معرض ذكره شيئاً مما ينتقد على أبي ذر الروي واعتذاره له، ولمن ينتقد عليه شيء من العلماء، وذكره ما هو معروف عنه من العلم والدين والمعرفة بالحديث والسنة، وغير ذلك من المحاسن والفضائل:
«ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساعٍ مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداءً من المعتزلة، وهم فضلاء عقلاء احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك: منهم من يعظمهم؛ لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم، لما وقع في كلامهم من البدع والباطل، وخيار الأمور أوساطها.

 

وهذا ليس مخصوصاً بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات؟ ويتجاوز لهم عن السيئات، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوَانِنَا الَذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ ولا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر 10].

 

ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأخطأ في بعض ذلك فالله يغفر له خطأه، تحقيقاً للدعاء الذي استجابه لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة 286].

 

ومن اتبع ظنه وهواه فأخذ يشنع على من خالفه بما وقع فيه من خطأ ظنه صواباً بعد اجتهاده، وهو من البدع المخالفة للسنة، فإنه يلزمه نظير ذلك أو أعظم أو أصغر فيمن يعظمه هو من أصحابه، فقلّ من يسلم من مثل ذلك في المتأخرين، لكثرة الاشتباه والاضطراب، وبُعْدِ الناس عن نور النبوة وشمس الرسالة الذي به يحصل الهدى والصواب، ويزول به عن القلوب الشك والارتياب، ولهذا تجد كثيراً من المتأخرين من علماء الطوائف يتناقضون في مثل هذه الأصول ولوازمها، فيقولون القول الموافق للسنة، وينفون ما هو من لوازمه، غير ظانين أنه من لوازمه، ويقولون ما ينافيه، غير ظانين أنه ينافيه، ويقولون بملزومات القول المنافي الذي ينافي ما أثبتوه من السنة، وربما كفروا من خالفهم في القول المنافي وملزوماته، فيكون مضمون قولهم: أن يقولوا قولاً ويكفروا من يقوله، وهذا يوجد لكثير منهم في الحال الواحد لعدم تفطنه لتناقض القولين، ويوجد في الحالين،لاختلاف نظره واجتهاده.

 

وسبب ذلك ما أوقعه أهل الإلحاد والضلال من الألفاظ المجملة، التي يظن الظان أنه لا يدخل فيها إلا الحق، وقد دخل فيها الحق والباطل، فمن لم ينقب عنها أو يستفصل المتكلم بها - كما كان السلف والأئمة يفعلون - صار متناقضاً أو مبتدعاً ضالاً من حيث لا يشعر.

 

وكثير ممن تكلم بالألفاظ المجملة المبتدعة، كلفظ الجسم والجوهر والعرض وحلول الحوادث ونحو ذلك، كانوا يظنون أنهم ينصرون الإسلام بهذه الطريقة، وأنهم بذلك يثبتون معرفة الله وتصديق رسوله، فوقع منهم من الخطأ والضلال ما أوجب ذلك، وهذه حال أهل البدع كالخوارج وأمثالهم، فإن البدعة لا تكون حقاً محضاً موافقاً للسنة، إذ لو كانت كذلك لم تَخْفَ على الناس، ولكن تشتمل على حق وباطل، فيكون صاحبها قد لبس الحق بالباطل: إما مخطئاً غالطاً، وإما متعمداً لنفاق فيه وإلحاد. كما قال تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة 47]. فأخبر أن المنافقين لو خرجوا في جيش المسلمين ما زادوهم إلا خبالاً، ولكانوا يسعون بينهم مسرعين، يطلبون لهم الفتنة، وفي المؤمنين من يقبل منهم ويستجيب لهم: إما لظن مخطئ، أو لنوع من الهوى، أو لمجموعهما؛ فإن المؤمن إنما يدخل عليه الشيطان بنوع من الظن واتباع هواه، ولهذا جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات».

 

وقد أمر المؤمنين أن يقولوا في صلاتهم: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة 6-7]، فالمغضوب عليهم عرفوا الحق ولم يعملوا به، والضالون عبدوا الله بلا علم. ولهذا نزه نبيه عن الأمرين بقوله: {وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ومَا غَوَى} [النجم 1-2]، وقال تعالى: {واذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وإسْحَاقَ ويَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي والأَبْصَارِ} [ص 45]. [درء تعارض العقل والعقل 2/102 - 105].

 

أسوأ من تفسيق ابن تيمية:

إنه لشيء مؤسف لي أن أجمع خطوط صورة ابن تيمية كما رسمتها ريشة البوطي الصناع، وأبرزها للقراء؛ حتى يطلعوا على هذا الفن الذي يضطلع به الرجل ويأخذ به نفسه، وبادئ ذي بدء فإني أهـمس في أذن الشيخ البوطي همسة لعلها تفيده في دنياه، وهي أن في هذا العصر - عصر ثقافة التلفاز - قد شاع هذا النوع من الكتاب الذين يكتبون لهذا الجهاز، ويغذون برامجه بإنتاجهم، فيكتبون قصصاً وحكايات يستخدمها ويعتمدها منتجو هذه البرامج والمسلسلات.

 

وقد كشفتُ في تصوير الشيخ لابن تيمية - رحمه الله -، هذه الموهبة النادرة في التصوير الذي يناسب أهـداف أصحاب هذه المسلسلات ومن يقف وراءهم، وبخاصة إذا كانت مادتها تتعلق بشخصيات إسلامية تاريخية لها دور في البناء الاجتماعي والفكري والحضاري للمسلمين، فتراهم ينتقون من الكتابات أكثرها سطحية وتشويهاً، أو يتعاقدون مع «خياطي» الكتابة الذين يكتبون لا عن مبدأ أو عقيدة، خلا عقيدة الارتزاق (والشيخ البوطي ليس من هؤلاء)، فيسطون على الكتب والمراجع، ويقصون منها ما يناسب شروط العقد! ويفصلونه زياً على حسب الطلب، صيفياً أو شتائياً، رجالياً أو نسائياً، طويلاً ضافياً فضفاضاً، أو قصيراً ممسوخاً، كاسياً عارياً، أو منتعلاً حافياً، وهكذا.. وابن تيمية من هذه الشخصيات التي تعتبر موضوعاً غنياً لكتاب المسلسلات هؤلاء، والنفس المستفاد مما صوره به البوطي نفس هؤلاء الكتاب: دعاوى عريضة، وتشويه مقصود، وهوى غلاب والعياذ بالله.

 

فاقرأ قول البوطي بنصه التالي وتأمل:
«والعجب الثاني، أنه - وهو المحذر من سمادير الفلاسفة وأوهامهم – لم يَنْجُ من هذه الأوهام والسمادير، بل أصابه بعض رشاشها، بل أصابه بعض من أخطار رشاشها؟ ومع ذلك فهو لم يتبنها ويعتقد بها من منطلق التثبت العلمي الجازم، ولكن تطوح في شأنها تطوح المضطرب، وناقض نفسه في حديثه عنها مناقضة التائه وقع في مهمه لا يتبين سبيلاً للخلاص منه» [ص 163].

 

وبعد:
فإن هذا الأسلوب الذي يكتب به البوطي ابن تيمية يناقض ما جاء في حاشيته على (وقفته مع ابن تيمية) ص 158 والتي يقول فيها:
«ليس الهدف من عرض ما قد يؤخذ على ابن تيمية هنا، تفسيقه أو تبديعه، كما فعل بعض خصومه، وإنما القصد أن ننبه إلى خطأ ما وقع فيه، ثم إلى التماس العذر له من خلال العثور على نصوص أخرى يناقض فيها نفسه في هذه النقاط التي أُخِذت عليه..».

 

لو أن البوطي فسق أو بدع لكان الخطب أهون والتبعة أخف محملاً على نفسه، إذ لا يعدو بعمله ذاك أن يكون كرر شيئاً قد قيل من قبل، ولم يأت بجديد، ولكن الشيخ البوطي يأبى إلا أن يبذ الأوائل ببدواته وإبداعه، فيسخر ويتشفى، ويتعالى ثم يتواضع، ويقدر ثم يعفو، ويدين المجرم بجرائمه الواضحة، ثم – لفرط إنسانيته وفروسيته - يذهب ويفتش في حيثيات القضية، لعله يعثر على ما يجعله يتجاوز عن إنزال العقوبة الرادعة المستحقة.
هذا ما تدل عليه حاشيته تلك التي تلح علينا بأن يكون لنا معها وقفة أخرى.