مشاهد "حضارية" من لندن وتل الربيع
10 رمضان 1432
أمير سعيد

(1)

همج لندن المتحضرون!

تحول قطاع من أهل لندن إلى الزمن الماضي الأوروبي حيث الهمجية واللصوصية العلنية حينما استبد بهم الغضب وانزاحت عنهم سلطة القانون؛ فإذا هم لصوص همج.. لا يجدي أن يقال بأن العرق الأنجلوساكسوني الأصيل في بريطانيا لم يشارك؛ لأنه في الحقيقة ما زال يمثل النخبة الحاكمة والطبقة المخملية في المجتمع التي لم يطلها حتى الآن سيف الإجراءات التقشفية، وحيثما ستكون في ضيق وشظف ستعود بالتأكيد إلى سابق عهدها..

 

نحن في مصر عندما كنا نعيش أجواء ثورة وغابت تماماً عنا سلطة الأمن لم نشعر بما شعر به سكان بعض الأحياء في عاصمة الضباب من الفزع والرعب... لدينا رصيد حضاري لا يملكونه مهما رسموا وزينوا.. لقد تعمد الأمن البائد لدينا في مصر إطلاق المساجين والإيعاز للبلطجية بالفساد في الأرض، ومع هذا لم يحدث شيء من هذا.. الآن نشاهد أعمدة اللهب في كل مكان ببعض الأحياء اللندنية لمقتل شاب أسود واحد ظلماً، فما رصيد القهر المخبوء إذن في نفوس الأقليات، ولماذا لم تصهرهم لندن في بوتقتها "الحضارية" إن كانت تملكها حقيقة؟...

 

خرجنا لمقتل المئات وطحن الملايين، لم تحدث إلا حوادث متفرقة ومعظمها لأملاك نافذين في السلطة سرقوها من الشعب أصلاً.. وحالتنا ليست فريدة؛ ففي كل الربوع العربية تجد الشيء ذاته حين يغيب الأمن ويعم الظلم.. اليمن، سوريا، ليبيا، تونس.. لمسنا مظاهر حضارية تنم عن أصالة وقيم تحكم الملايين ولو كانوا في أوج غضبهم، وأقسى درجات الإحساس بالظلم والتهميش.. قرون الارتسام الحضاري لم تفلح في إنتاج مشهد حضاري من قلب عاصمة الديمقراطية في العالم، كما لم تنتج دولة القانون ما يعول عليه عندما يتحاكم الناس إلى القيم بعيداً عن سلطة الأمن..  هذا هو الفارق في الحقيقة بين الحضارة الأصيلة والمصنوعة.. بين التبر والتراب.

(2)

مظاهرات تل الربيع (أبيب)

لدينا في مثل هذه الأحداث دلالة واضحة على أن النظام الديمقراطي لا يحقق العدالة الكاملة وإنما يحاول أن يحقق بعضها إذا أحسننا الظن، وهو بنظريته الاقتصادية (الرأسمالية) لا يرضي إلا فئات محدودة من المجتمع.. ربما عند الترف لا يبدو القطاع العريض متضرراً، ولكن عند اشتداد الأزمات تبدو الفوارق واضحة والألم كبيراً..

 

لاحظوا جيداً: معظم الديمقراطيات العالمية التي تجسد "الديمقراطية الحقيقية" هي ديمقراطيات احتلال واستنزاف للشعوب الأخرى؛ فإذا ما نضب المعين وأصيب العالم باختناق ظهرت التناقضات.. لقد ظهر هتلر عبر ديمقراطية حقيقية وغيره من كبار المستبدين لكن إثر أزمة الكساد العالمي.

 

الآن نحن أمام إشكالية سياسية: أليست الديمقراطية هي من تقود إلى حكومة نتنياهو؛ فلماذا لم يحسن "الإسرائيليون" الاختيار؟ ولماذا لا ينتظرون حتى الاستحقاق القادم لانتخاب غير تلك الحكومة؟ أو حتى لماذا لا يتوجهون عبر الكنيست لتغيير السياسة الاقتصادية أو لسحب الثقة عن تلك الحكومة الفاشلة؟ هذا إن كانت الديمقراطية تفرز برلمانات بالفعل تجسد الإرادة الشعبية الحقيقية ولا تمثل إرادة أصحاب النفوذ ورؤوس الأموال.

 

بالطبع لا أدافع عن الدكتاتورية ولا أرفض الديمقراطية كلية كإجراء اختياري، لكن هناك فرق كبير بين القناعة بآلية مناسبة لزمن ما، وبين الإيمان بها كأيديولوجية هي لا تملك مقوماتها.