جنرالات تركيا يخسرون معركة العلمانية أمام أردوغان
4 رمضان 1432
جمال عرفة

الملفت في الاستقالات التي قادمها كل قادة الجيش التركي وعلي راسهم رئيس الاركان لرئيس الدولة التركية في محاولة للي ذراع حكومة حزب العدالة والتنمية ذات التوجه الاسلامي وخلق فراغ أمني .. أنها قلبت المعادلة في تركيا ، فقبل ذلك حيث الجيش في الماضي يضغط على الحكومات لتقديم استقالتها كما فعلوا مع الراحل أربكان عدة مرات .. ولكن الان العملية تسير بالعكس والجنرالات هم الذين يستقيلون ويجري تعيين غيرهم ، وهو دليل واضح على قوة وترشيخ الديمقراطية في تركيا ونجاح حزب العدالة في ترويض أحد أكبر معاقل العلمانية التركية .

 

فقد كان من الواضح أن الاستقالة التي قدمها كل من رئيس الاركان التركي الجنرال اشك كوشنر وقائد القوات البرية الجنرال اردال جيلان اوغلو وقائد القوات الجوية حسن اكساي وقائد القوات البحرية الاميرال اشرف اوغور يغيت ، استقالاتهم من مناصبهم ، احتجاجا علي إصرار الحكومة علي اعتقال 43 جنرال واميرال لتورطهم في محاولة انقلاب ضد حكومة أردوغان ، ورفضها ترقيتهم عسكريا بصفتهم متهمين ، استهدفت الضغط بأقصى درجاته علي الحكومة في وقت تعاني فيه المناطق الكردية من أعمال عنف وقتال ، ودفع الشعب للتخوف علي أمن البلاد ومن ثم مشاركته في الضغط علي حكومة أردوغان .

 

مع الأخذ في الاعتبار أن القضية ليست قضية ترقيات لقادة متهمين بالتأمر علي الحكم المدني وقيادة انقلاب عسكري ، بقدر ما هي حلقة فاصلة من معركة تدور بين التيار الاسلامي التركي الحديث بزعامة حزب العدالة وغلاة العلمانية في الجيش والقضاة والتعليم الذين يرفضون كل تحركات الحكومة لمنع القيود العلمانية علي الحريات ، وضمنها وقف أي دور للجيش في العمل السياسي ونزع ريشه .

 

ولذلك جاءت استقالة رئيس الاركان والقادة الثلاثة دليل واضح على رفض قادة الجيش اوامر المؤسسة المدنية المتمثلة برئيس الجمهورية ورئيس الحكومة رجب طيب اردوغان ، والضغط علي الرئيس التركي عبد الله جول ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان وخلق أزمة سياسية .

 

ولكن ذكاء جول وأردوغان وتحسبهم لمثل هذه الخطوة أجهض هذه الخطوة .. بل واندفع ليهدم مزيدا من القوالب والحواجز التي بناها الجيش حول نفسه والسعي لمزيد من قص ريش العلمانيين المتشددين وجعل الجيش تابعا للحكومة وليس العكس كما كان يجري سابقا .
فقبل أن ينعقد اجتماع (مجلس الشورى العسكري التركي) الأثنين أول أغسطس – وهو الاجتماع الذى أراد له الجنرالات في قيادة الجيش أن يكون اجتماع أزمة - نجحت حكومة أردوغان بحركة سريعة وخاطفة فى أن تنزع فتيل هذه الأزمة بتعيين الجنرال نجدت أوزال قائد قوات الدرك ، الوحيد من القيادات الذى لم يتقدم باستقالته فى منصب قائد القوات البرية ثم رئيس الأركان ليعقد الاجتماع في موعده بصورة عادية !.

 

وخلال الاجتماع ، الذى يستمر 4 أيام برئاسة سيجرى وضع الشكل الجديد لقيادة الجيش التركي تحت قيادة أوزال ، كما ستجرى حركة ترقيات وتنقلات واسعة تستثنى جميع الجنرالات والضباط المعتقلين في قضايا الانقلاب ضد الحكومة .
بل وحرص الرئيس التركي عبد الله جول علي تجاهل ما جري والتقليل من شأن استقالات قادة الجيش ، نافيا وجود أزمة داخل المؤسسة العسكرية وقائلا :" الأمور تسير طبيعيا ولا فوضى داخل الجيش ولا فراغ في سلسلة القيادة".
وأوضح أنه بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة قرر تعيين قائد قوات الدرك الجنرال نجدت أوزال قائدا جديدا للقوات البرية وكلفه برئاسة الأركان وذلك بعد اجتماع عقده مع أردوغان.

 

والحقيقة أن ما فعله "جول" و"اردوغان" ليس فقط ضربة قوية للعلمانيين داخل الجيش الذين كانوا يتدخلون في الحياة السياسية ويوجهون الانذارات لها كي تستقيل أو يتحركون لمنع مظاهر مثل لبس الحجاب أو حتي صلاة كبار المسئولين ، وإنما هو أشبه باختراق كبير للإسلاميين للجيش وتعيين مقربين منهم أو غير متطرفين من غلاة العلمانيين في المناصب الكبرى .

 

فالعرف جرى في تركيا على أن يصبح من يترأس القوات البرية قائدا للقوات المسلحة ، وهو ما فعله جول عندما نقل "أوزال" من قيادة قوات الدرك لمنصب قائد القوات البرية ليصبح لاحقا هو رئيس الاركان القوي ويتم إبعاد قادة الجيش الذين استقالوا باختيارهم ما يعتبر بداية اختراق أنصار حزب العدالة والتنمية الحاكم للجيش الذي كان المؤسسة الأقوى التي تحمي العلمانية وأن أردوغان يسيطر على الأمور تماما خصوصا بعد فوزه بأغلبية مقاعد البرلمان للمرة الثالثة علي التوالي في تركيا .

 


معارك أردغان مع العلمانيين

والحقيقة أنه لا يمكن النظر لما جري علي انه شيء منفصل عن المعارك التي يديرها حزب العدالة والتنمية مع القوي العلمانية المتحجرة في تركيا ممثلة في الجيش والمؤسسة القضائية والمؤسسة التعليمية وحتي الشرطة .
فأردوغان بنى خطته من البداية لنهضة تركيا وإعادتها لحضارتها الاسلامية علي اسس تنموية متطورة تنفض عنها غبار التخلف وتجعلها من القوى العشرة الكبرى الاقتصادية علي القيام بتعديلات دستورية تدريجية وفي هذه المؤسسات واستغل في هذا فكرة الإصلاحات التي تهدف الى زيادة فرص تركيا للانضمام الى عضوية الاتحاد الأوروبي .

 

وقد ساهم فوزه ثلاث مرات بالأغلبية في الانتخابات فيما يشبه التفويض الشعبي علي تثبيت أقدامه وربما هذا هو ما أعطاه مزيدا من الثقة في صراعه الأخير مع الجيش وتحدي المعسكر العلماني أكثر وأكثر .

 

فقد نجح في ضبط بعض التجاوزات العلمانية الفجة عبر تعديلات دستورية متلاحقة ، ونجح بعد هذا في قص ريش غلاة العلمانيين في هذه الاجهزة وأعاد ترتيب أجهزة الأمن وأجنحة من القضاء ومجلس التعليم العالي وفقا لهذه المعادلة ، وها هو في طريقة لاستكمال عملية تقليم أظافر الجيش الذي كان الحصن الأخير الأقوى للعلمانيين في تركيا وأملهم في وقف تقدم الاسلاميين المعتدلين من أنصار العدالة والتنمية في السيطرة علي تركيا مستفيدين من رفعهم مستوي معيشة الاتراك اقتصاديا وجعل بلادهم محورا إقليميا قويا ودولة ذات نفوذ وهيبة .

 


تراجع نفوذ جنرالات الجيش

فمنذ توليه السلطة عام 2002 ظلت العلاقة بين أردوغان والجيش متوترة بسبب نظرة الجيش للحزب علي أنه حزب اسلامي يهدد علمانية تركيا ويهدد الاتاتوركية التي يتعهد الجيش بحمايتها ، وزاد من توترها سعي أردوغان لإنهاء سيطرة الجيش على الحكم عبر سلسلة من التعديلات الدستورية .

 

ويمكن القول أن أردوغان بدا يجني ثمار هذه السياسية المتأنية المتدرجة ويقلص نفوذ جنرالات الجيش التركي بشكل واضح في عام 2007 عندما خسر الجيش والعلمانيون معركة رئاسة الجمهورية لصالح مرشح حزب العدالة والتنمية عبد الله جول ، وما أعقبها من الكشف عن قضية منظمة (أرجناكون) الإرهابية المتهمة بالتخطيط للانقلاب على الحكومة واغتيال رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان والتي اتهم فيها العشرات من جنرالات الجيش .

 

وظل الجيش يتراجع أمام أردوغان عام 2010 عقب الكشف عن مؤامرة أخرى باسم " المطرقة " ، وهى مخطط عسكري وضع فى عام 2003 للإطاحة بحكومة أردوغان وتم في إطار القضيتين اعتقال نحو 250 شخصية عسكرية من بينهم 173 ضابطا كانوا في الخدمة و77 متقاعدون .

 


تعديل 100 مادة من 170 في الدستور

ومن المتوقع أن تأتي الضربة القاضية لغلاة علمانية الجيش قريبا في صورة تعديل الدستور ، ووضع آخر بدلا من هذا الذي وضعه الجيش نفسه عام 1982 ، وهو ما يسعي له أردوغان برغم أنه لم يحقق أغلبية ثلثي أعضاء البرلمان في الانتخابات البرلمانية الأخيرة 12 يونيو الماضي بما يتيح لحزبه تغيير الدستور التركي بلا مشاكل أو محاولة اللجوء للاستفتاء .

 

حيث أعلن مرارا أن ثوب الدستور أصبح ضيقا جدا على تركيا ، وأن الدستور الحالي أقره الجيش عام 1982 بعد انقلابه على الحكومة المدنية في عام 1980 ، ولم يعد يناسب طموحاته في أن تلعب بلاده دورا إقليميا وعالميا أكبر ، ولذلك يسعي بالتوافق مع أحزاب أخرى في البرلمان لوضع دستور جديد بعد أن نجح في تعديل حوالي 100 من أصل 170 مادة في الدستور الحالي منذ وصوله للسلطة في عام 2002 .

 

وإذا ما تحقق هذا التغيير وتم وضع دستور جديد فستكون تركيا حسمت طريقها بعيدا عن غلاة العلمانيين في الجيش والقضاء والمؤسسة التعليمية ، والأهم أنها ستجرم وتمنع أي انقلاب عسكري مستقبلي ، يقضي علي الديمقراطية ، وهو الوباء الذي عانت منه تركيا عدة مرات عبر انقلابات متتالية ضد حكومات مدنية أو ذات توجه اسلامي ، وكان أخطره انقلاب 12 سبتمبر 1980 ، بقيادة الجنرال كنعان إيفرين الذي لم يكتف وقتها بإلغاء الحياة السياسية واعتقال وحل الاحزاب الاسلامية ولا سجن اربكان واردوغان نفسه واخرين ، وإنما أعدم مئات الناشطين السياسيين وحظر الأحزاب !.

 

خطة أردوغان تسير بالتالي بتدرج وهدوء وحنكة وشجاعة نحو بناء دولة تركية حديثة متقدمة لا تخجل من الاستفادة من إرثها الاسلامي وتعاليم دينها ، متسلحا بمبرر منطقي لا يقبل الطعن عليه ، وهو تلبية متطلبات الإصلاح وانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي .
وإذا كان قد نجح في تحقيق اختراقات داخل مؤسسات المعسكر العلماني في الجيش والقضاء والجامعات فالمعركة الكبرى الأهم المقبلة التي أشار لها عقب قبول استقالة الجنرالات العلمانيين وتفادي كمين إحداث أزمة في البلاد ، هي معركة تعديل الدستور نفسه وحينما لم يتوقف أحد أمام انطلاق الامبراطورية العثمانية بثوبها الاسلامي المعتدل القوي الجديد متسلحة باقتصاد قوي واعتزاز بدينها ، ربما ليقود العالم الاسلامي صلاح الدين آخر تركي هذه المرة.