هل غير الاسلاميون خطابهم السياسى ما بعد 25 يناير؟!
3 جمادى الأول 1432
طلعت رميح

اخص بالذكر الاسلاميين، وان كانت الحالة عامة. لم نفهم بعد ما الذي يجب ان نكون عليه في ممارسة الخلاف بحرية بعد 25 يناير، اذ ما زلنا نعيش ونمارس افعالنا السياسية، كما لو ان الثورة لم تحدث بعد او كأن المجتمع مازال يعيش حالة صراع وفق ذات التقاليد القديمة. القول يتردد كثيرا بان مصر بعد يناير ليست كمصر قبل 25 يناير، غير أن القول شيء والفهم وممارسة أنماط جديدة من السلوك شيء آخر. القول كثير حول التغيير الذي جري، حتي يمكن القول بأننا نعيش واقعاً جديداً شاملاً، وان بلادنا صارت مصر جديدة، لكن الوقائع تقول ان مصر الجديدة لم يعمها حتي الان فهم وسلوك جديد. وهنا أخص بالذكر الإسلاميين.

 


الملاحظات تتكاثر في التشديد علي التغيير الحقيقي الشامل. والتغيير لا يظهر ولايجري فقط بعدم وجود مبارك ولا نظامه ولا أمن الدولة ولا. ولا.، بل التغيير يسمي تغييرا اذا تغير الفهم والادراك والسلوك الاجتماعي والسياسي. وواقع الحال ان جانبا من التغيير قد تحقق. الآن صارت هناك رمزيات جديدة لاشياء قديمة. ميدان التحرير تغيرت رمزيته فانتقلت من التحرير ومن الاستعمار والاحتلال الخارجي التي التغيير الداخلي نحو الحرية. والان يطغي شعور نفسي جماهيري بالقدرة علي التغيير وصناعته الي درجة الشطط، ولذا لاتزال المظاهرات والاضطرابات متواصلة، إذ ليست المظالم وحدها ما يدفع للتظاهر ـ فهي ذاتها كانت قائمة من قبل ولم يكن الجمهور العام يتحرك علي هذا النحو ـ بل تنامي الشعور النفسي بالقدرة علي التغيير هو الامر الفاعل وليس فقط الادراك برفع القيود التي كانت تكبل أو تخيف الناس. وهناك دوران عجلة بطريقة الاعتماد علي صوت المواطن الحر في صناديق التصويت كما جري في الاستفتاء، بطريقة لم تكن مقررة ولا متوقعة في ظل ما كان قائما قبل 25 يناير.
لكن الحياة في حالة وضع جديد متغير عن الوضع السابق شيء وإدراك وفهم التغيير والقواعد الجديد التي صار مطلوبا العمل بها أو علي اساسها، شيء آخر!

 


بلغة أخري، فإن الناس تعيش الآن في حرية، ولكن الحرية لها قواعد جديدة تختلف عن القواعد والفهم والسلوك الذي كان معتمدا او معمولا به او كنا مدفوعين له قبل هذا التغيير. الواقع الذي تغير شيء والسلوك الجديد شيء أخر!
وبلغة اخري ايضا، فان التغيير في السلطة شيء والتصرف وفق قواعد جديدة بين القوي السياسية وكل مكونات المجتمع في ظل سلطة لا تقمع ولا تضطهد، شيء اخر.

 


في الحروب يقال دوماً أن كل حرب جديدة، تبدأ بتطبيق القواعد القديمة التي جري اختبارها في آخر الحروب. وهذا أمر طبيعي، إذ ما يعرفه الانسان في التطبيق العملي هو ما سبق أن جربه واختبره وثبتت صحته، فما بالنا إذا كان الأمر يتعلق بأمر الحرب التي تقرر مصير الأوطان والجيوش وحياة الانسان. يكون الانسان حذراً جدا جداً، ولا يخاطر إلا بتطبيق ما يعرفه، ( وما جري التخطيط له).

 


ومن بعد يتغير الانسان رويدا رويدا باكتساب خبرات ومعارف جديدة، بما يحقق تغييرا في قواعد ادارة المعارك، ليصبح هذا الجديد قديما مرة اخري حين البدء بحرب جديدة لها تحدياتها وظروفها الجديدة. وتلك قاعدة عامة في الحياة، فالانسان حين ينتقل للحياة من مجتمع تربي وعاش فيه، إلي مجتمع أخر جديد، ويظل يتعامل بتلك العادات والمفاهيم والسلوكيات القديمة ـ التي اكتسبها في مجتمعه القديم ـ في هذا المجتمع الجديد، إلي حين تدخل عليه هو نفسه تغييرات تؤثر في عاداته ومفاهيمه وسلوكه ليصبح جزءا من المجتمع الجديد.

 


لكن ثمة جانبا اخر من الحقيقة، لايقل اهمية عن تطبيق القواعد القديمة، هو أنه لاحرب واحدة يجري خوضها دون اسلحة جديدة، ودون الوضع في الاعتبار الطبيعة الخاصة لكل عدو جديد وطبيعة تقديرات قوته وطبيعة تسليحه الجديد. وتلك هي اهمية مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية التي تستشرف المستقبل وتسهل عملية التغيير والتطوير المستقبلي، بما يجعل خوض كل حرب هو تجربة جديدة تنتج قواعد وخلاصات جديدة. وكذا حال المجتمعات حين الانتقال من وضع قديم الي اخر جديد، فاذا كانت القوي السياسية ذات رؤي مستقبلية عبر مراكز دراساتها، فهي تدخل عملية التغيير بأفق جديد يجعلها قادرة علي ادارة الواقع الجديد والتحرك خلاله بأدوات جديدة ووفق سلوكيات جديدة تتطلب خطابا جديدا مختلفا.

 


والحاصل أن مصر بعد 25 يناير تغيرت علي كثير من الصعد والمجالات. الكل يؤكد ذلك، لكن مفاهيم وعادات وسلوكيات وخطاب القوي السياسية، ظلت كما هي في مصر السابقة، او هي ظلت تتعامل مع مصر الجديدة، بنفس الطرق التي كانت تتعامل بها في مصر القديمة.

 


والحق يقال، أن الحركة الليبرالية كانت الأكثر إدراكا، بما تغير وأكثر تكيفاً مع هذا التغيير، وأوسع ابتكارا لمفاهيم وسلوكيات وطرق التعامل مع التغيير الجديد واكثر قدرة علي تجديد خطابها، علي خلاف ما حدث علي الطرف الآخر، اذ يمكن القول، بأن الحركة الاسلامية كانت بالمقابل الأقل إدراكاً بما تغير والأقل قدرة علي التكيف معه، والأقل أبتكارا لمفاهيم وسلوكيات التعامل مع التغيير الجديد، وفي ذلك يمكن التشديد علي انها لم تجدد خطابها حتي يمكن القول بأن ما يقال قديما حول "خطر الحركة الإسلامية علي الحياة المدنية واستخدامها فزاعة في المجتمع، قد تحقق الآن"، وأصبح واقعا في اذهان الناس ولم يعد مجرد فزاعة، وذلك اخطر ما هو حادث الان في مصر ما بعد 25 يناير.

 


البادي أن الحركة الإسلامية قد تعاملت مع التغيير الجاري بطريقة تدفق المياه بعد سقوط وانهيار السد، ولم يكن لديها ادراك مستقبلي بان اطلاق المياه وسيرها ما بعد سقوط السد المانعة، لايجب ان يجري وفق ذات حالة البقاء خلف السد في سنين الظلم، علي صعيد الفهم والسلوك والخطاب.

 


لقد شعرت الحركة الاسلامية فجأة بأن خصمها الذي كان يقمعها قد سقط، فاندفعت للتحرك في المجتمع، بطريقة انجراف المياه التي كانت متحجرة خلف السد. وفي ذلك يمكن القول بأن تلك الحركة التي كانت محتجزة إلي درجة "التعود" علي نمط الحركة خلف السد ـ بحكم بقائها لفترة طويلة ـ وحين خرجت إلي عالم "الحرية" الجديد تحركت بنفس الطريقة التي كانت تعتمدها خلال حالة ومرحلة الاحتجاز خلف السد. الحركة الاسلامية ما بعد 25 يناير صارت تطرح نفس "مفاهيمها القديمة ـ التي كانت تتناسب مع ظروفها السابقة ـ دون ان تدرك أن الصراع "مع قوي سياسية" رافقتها في ثورة ميدان التحرير لا تنطبق عليه قواعد "الصراع مع سلطة سياسية قمعية".

 


الكثيرون لم يدركوا أبعاد الحالة المصرية الجديدة، فصاروا يطرحون ما كانوا يطرحون من قبل، فبدوا وكأنهم لايزالون متحصنين بنفس التحصينات القديمة، حين كان كل قول من النظام ضدهم لايصدق جماهيريا بإعتبارهم معارضيه، وحين كانت كل اقوالهم هم عن النظام محل تصديق باعتباره ظالما للجميع. المعني هنا ان تلك الحركة لم تدرك أن الصراع ضد السلطة السياسية الحاكمة بظلم يختلف عن الصراع ضد القوي السياسية الموجودة في عالم الحرية، اذ الطرفان يعيشان في ذات حالة الحرية، التي لاتوجد جمهورا متعاطفا مع الحركة الاسلامية جراء ظلم النظام السابق يصدق علي ما تقوله الحركة وترفض ما يقوله النظام عنها حتي لو كان صحيحا.

 


ان من يراجع سلوك الحركة الاسلامية خلال اعمال الدعاية والشرح وتحديد المواقف ما قبل الاستفتاء علي المواد الدستورية المعدلة وما بعد ظهور النتائج، يدرك ما نقول. لقد اندفع الكثير من الشخصيات وبعض مجموعات من الحركة الإسلامية، ليشنوا حالة تخويف مباشرة "بإسم الدين" في قضية سياسية اجرائية، بهدف اقناع أو اخافة المصريين من التصويت بلا، كما جري استخدام خطاب يشدد علي الزهو بالقوة في المواجهة ما بعد انتهاء التصويت (باستخدام تعبيرات حربية)، بينما بلاد الحرية تستخدم تعبيرات تنم عن المباراة السياسية الديموقراطية، ويلتقي فيها من يكسب ويخسر ليهنيء احدهم الاخر. لقد لاحظ المتابعون لمجريات ما قبل الاستفتاء، أن الافراج عن عبود وطارق الزمر، قد ارتبط بظهور إعلامي مكثف، وجري خلاله شرح وطرح رؤي وأفكار، جاءت كلها وفق نمط الخطاب القديم ما قبل سقوط السد. وأن حركة الاخوان وان اختلفت في أطروحاتها وفي نمط الاندفاع، الا انها مارست هي الاخري نمطا من الممارسات "التخويفية" وصلت حد اتهام الأخرين من رواد وثوار ميدان التحرير باتهامات، جري استخدامها لترويع المجتمع من سيطرة الحركة الاسلامية علي الحكم.

 


تلك الحالة التي ظهر عليها "الإسلاميون"، كانت بمثابة حالة اندفاع عفوي لمياه كانت محتجزة خلف السد (تعددت أسبابها)، ولم تكن فعلا مرتبطة بفهم ورؤي جديدة لظروف جديدة في المجتمع تتطلب سلوكا وخطابا وفهما جديدا. لم يجر ادراك الفارق بين خطاب في مواجهة نظام (يعرف الجميع أنه قمعي) وخطاب في أوضاع الحرية، في مواجهة تيارات هي بطبيعتها ليبرالية، وشابة وجديدة مليئة بالحيوية، فكان أن تحولت "الفزاعة" من الإسلاميين إلي واقع عملي، إذ "المحايد والموضوعي من بين المواطنين"، لا ينظر لتلك التيارات الليبرالية، علي أنها تيارات سلطوية قمعية كما كانت نظرته للنظام السابق، ولذا صار ينظر بقلق من الحركات الاسلامية التي استخدمت خطابا لايجوز استخدامه الا في مواجهة سلطة ونظام شمولي قمعي.
كسبت الحركة الإسلامية "الاستفتاء" وخسرت أولي معاركها السياسية مع التيارات الليبرالية او كسبت القرار لكنها خسرت السمعة والمكانة السياسية او هي كسبت القرار وخسرت قطاعا من الجمهور العام.

 


لكن اللافت ايضا، ان خطابات اقصائية صارت تنمو علي نطاق واسع في دوائر سياسية واخري تنفيذية، حتي صرنا نعيش نمطا متصاعدا من الصراع الاقصائي تجاه حركة الجمهور العام وبين القوي السياسية بعضها البعض، بما يشير الي ان الرؤي والسلوك السياسي ما بعد 25 يناير لم تتغير طبيعتها وان ما طرح من شعارات الحرية والديمقراطية يواجه مخاطر حقيقية.