كيان ثقافي إقليمي*
14 صفر 1432
ربيع الحافظ

لو لم يبلّغ العربُ رسالة الإسلام إلى الترك. لو لم يوحد التركُ بلاد العُرب خمسة قرون. لو لم يضع العربُ حجر الزاوية في حملات فتح درة الأناضول استانبول ممثلاً بقبر الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري (رض). لو لم يكن التركُ السلاجقةُ ثم العثمانيون الرافعةَ التي انتشلت الدولة العربية الإسلامية من فم الردى، لو لم يكونوا سدنة الدين والعرض منذ هدم عاصمة الخلافة بغداد.

 

لو أن شيئاً من هذه الكيمياء التاريخية لم يكن، وما كان هو أن العرب والترك كانوا أمتان متجاورتين، واحدة تشكو ضنكاً، والأخرى تعيش انتعاشاً وإعادة اكتشاف ذات، توحد بينهما المخاطر المشتركة، وتشكل الثروات الطبيعية والأسواق والصناعات والأيدي العاملة صورة تكامل اقتصادي نادر، فإن عصر العولمة والتكتلات يحتم على الأمتين الدخول في سباق مع الزمن لتحديد قواسم مشتركة والولوج في تكتل في عالم لا ينجو فيه القاصي.

 

 حقيقة أخرى تقود إلى الحتمية ذاتها، وهو أن هاتين الأمتين دخلتا القرن الواحد والعشرين على غير الشاكلة التي دخلتا بها القرن العشرين، وأن اندمال الجراح، وهدأة النفوس، وأوبة الثقة، واستشعار الخطر المشترك هي خريطة معطيات جديدة تقتضي فكراً جديداً يديم هذه المعطيات ولا يُسْلمها للعواطف التي تهيج وتخبو.

 

هذه كلام صائب وواقعي في أوساط، وصائب لكنه غير واقعي في أوساط أخرى، ما يستدعي استثماره في الوسط الذي يصادق على صوابه وواقعيته في آن واحد لينمو وتتمدد واقعيته. كما أنه يستدعي مقومات غير خاضعة للتقلبات السياسية، إنه بحاجة إلى وسط المجتمع المدني.

نحن لسنا أمام معادلة غير قابلة للحل، ولكن إذا أراد أهل بيت ألفة إثر جفوة راحوا ينبشون أرشيف العائلة بحثاً عن ذكريات حلوة مشتركة ينعشون بها الأمل ويتخذونها أساساً لصفحة جديدة، كذلك الأمم، فإن لم تجد راحت تلوي أعناق التاريخ لتوجد  مساحة مشتركة لها. هذا هو حال أوربا الاتحادية اليوم التي لا زالت تعجز عن تأليف كتاب لمادة التاريخ لمرحلة الابتدائية تقرأه لندن وباريس وبودابسيت فعوضت العجز برؤى أخرى.

 

أرشيفنا نحن ـ شعوب هذه المنطقة ـ فيه 120 مليون ذكرى مشتركة، وهو ثالث أكبر أرشيف في تاريخ الأمم، ثلثاه عن المنطقة العربية، وكون أنه شاهد على القرون الخمسة الأخيرة من تاريخها وأنماط تعايش شعوبها وسلوكها فهو خريطة وراثية لشخصيتها الاجتماعية الإقليمية.

رغم المعطيات الجديدة وهذا الرصيد الاجتماعي الهائل، فلا نزال أمام معضلة وضع تعريف لهويتنا الإقليمية ورتق نسيجها الذي يتسع خرقه على الراقع. الأوربيون بذلوا جهوداً جبارة لا في رتق نسيج اجتماعي، لأنهم لم يكن لهم نسيج موحد في يوم من الأيام، وإنما في حياكة نسيج إقليمي بخيوط صناعية وبصبر فاق صبر حائك السجاد الإيراني، وبرعوا في آلية تقاسم أدوار ما هو صواب وواقعي وما هو صواب لكنه ليس واقعياً.

 

قسم أكبر من "منجمنا الاجتماعي" هذا لم تطله أيادي الباحثين، وقسم آخر في حالة خامات تمحص لتزين بها الأطروحات الأكاديمية وأرفف المكتبات، كالماس الذي يتخذ حلية ولا تصنع منه الآلات التي تفتت الصخور القاسية كونه أشد المعادن صلابة على الإطلاق. في هذا الأرشيف حقائق تصوب أخطاءً وتقيل أوهاماً صبغت أفهامنا المعاصرة، فيه خبر الأوسمة التي تبادلها العرب والترك كوسام "الأمة النجيبة"، الأسم الذي أطلقه الترك على أمة العرب التي أنجبت سيد ولد آدم وهو أرفع وسام يمنح لأمة، فيه علوم بناء المجتمعات المتعددة الثقافات التي اقتبسها الأوربيون وأقاموا عليها مجتمعهم المعاصر، وأعني بذلك الأرشيف العثماني.

 

 ثمةَ أوجهُ تشابه بين المجتمع العثماني السالف والمجتمع التركي الحاضر، وهو شبه على علاقة بالشخصية الاجتماعية، وهو أن كلا منهما مجتمع غير دعائي، أي أنها مجتمعات بلا عناوين تروج للظواهرها الاجتماعية، والتي هي حرفة عند الأمم الأخرى.

في القرن 17 شرّع النظام الاجتماعي العثماني سياسة شجعت أقلية الغجر الرحل على الاستيطان، ووفرت التعليم المجاني لأطفالهم، واعتبرت أماكن وجودهم وحدات إدارية، وحددت الحد الأدنى لأجورهم فلا يُبخسون، ومنحتهم حق الشكوى ضد الدولة، والمقصد هو تطوير أحوال أقلية ودمجها في المجتمع.

 

أن تحنو على الأقلية فذاك طبع الأغلبية، الذي حينما تدركه الأقلية تطلبه فيتكوّن المجتمع المتعدد الأعراق والثقافات. بهذه الهندسة الاجتماعية استمر المجتمع العثماني حقبة 6 قرون، وهي ليست حقبة سلالة وإنما حقبة نظم اجتماعية، فكما يقال: الأدب الأموي، والشعر العباسي، يقال: النظام الاجتماعي العثماني. ملف الغجر هذا لا زالت أوربا لم تجد حلاً له، وهم بين إهمال وتهديد بالطرد.

 

هذه نفائس حضارية، لكنها مادة إرشيفية يُرجع إليها لا لاستنقاذ حقائق ضائعة أو استنباط أحكام حضارية تدرج في مناهج التعليم، وإنما لتعضيد ملفات عارضة. السؤال: كم ساهم احتجاب الحقائق هذه في تفشي داء الضآلة الحضارية عند المسلمين أمام الأمم الأخرى؟ وكم من المنكبين على وضع تعريفات جديدة للمواطنة والمجتمع يرضى عنها الغرب يدركون أن قوانين حماية الأقليات في الغرب إنما هي صيغة معدلة لـ "نظام مللي" الذي أنتجته الهندسة الاجتماعية العثمانية كأول نظام حماية لحقوق الأقليات في تاريخ الدول؟ العارفون ندرة والنتيجة أزمة ثقة إقليمية.
 

 

منطقتنا بحاجة إلى لافتات حضارية جديدة تدمغ العصر بدمغتها كما دمغه الآخرون بلافتاتهم، فكما يقال: إن ميثاق حقوق الإنسان ولد على لسان عمر بن الخطاب (رض) "متى استعبتدم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"، ويقال: الإغريق آباء الديمقراطية، كذلك ينبغي أن يقال: "المسلمون آباء قوانين حماية الأقليات".

 

هذه اللافتات موجودة ولكن في مكان آخر؛ هامدة لا ترفرف، لا حياة فيها. من يزر دائرة حماية حقوق الأقليات في برلمان السويد يقال له: هذا نظام جلبه من استانبول الملك تشارلز الثاني عشر التي عاش فيها منفياً بين 1709- 1714، وتبعتها فينلندا في 1919، والدانمراك في 1955، والنرويج في 1963، فمعظم المجتمعات الديمقراطية خارج أوربا. هذه هي نظمنا، مشكلتها أنها صامتة، والأعظم هو أن حيثيات نشوئها مجهولة، وهذه الحيثيات هي الوعاء الآيديولوجي لمجتمعنا وهو وعاء مكسور اليوم.

 

في المجتمع التركي الحاضر مشاهد تعزز صمت الأمس. فمن كان يدري ـ لولا أزمة عرضية ـ أن في استانبول 100 ألف أرمني يقيمون بطريقة غير قانونية، يعملون ويزاحمون المواطن التركي في عيشه، ويرسلون عملة صعبة إلى بلدهم في خضم الأزمة الاقتصادية العالمية، كيف تسكت الدولة؟ كيف يتسامح المجتمع؟ هذه حقائق صامتة، المسموع وسط هذا الصمت هو الصخب الأرمني الخارج من البوق الصهيوني، ولو أن الحقائق جهرت لتلاشى الصخب.

 

 
في منطقتنا أزمات تبعث تساؤلات لا تجد إجابات: الطائفية، تراجع الدولة، تفكك المجتمع. وفي منطقتنا ـ في موضع آخر منها ـ ظواهر صحية تبعث تساؤلات لا تجد هي الأخرى إجابات، الإجابة عليها ترسم خطوطاً عريضة لمفاهيم استراتيجية وتومئ إلى معالم أنموذج اجتماعي تبحث المنطقة عنه بيأس.

 

 هذا الموضع هو الكيان الاجتماعي التركي، والتساؤلات كبيرة: لماذا لا تنبت الطائفية في هذا الكيان؟ لماذا بقي الدين هنا يسراً ولم تتعقد مفاهيمه؟ لماذا لم تنشأ له دهاليز توازي وتعرقل الحياة المدنية؟ لماذا يعتبر هذا الكيان تاريخه امتداداً للتاريخ العربي الإسلامي؟ لماذا لم تدخل قوميته في تفاعل كيميائي مع الدين فيشكلا مركّباً جديداً يتخذ مفاخر ما قبل الإسلام مرتكزات له، أو يشق أخاديد كراهية مع جواره العربي كما يفعل غيره؟ لماذا كان بيتاً زجاجياً لملل ونحل أوشكت على الهلاك في مواطنها الأصلية؟ كيف نما فيه المجتمع المدني وتعايش مع الدولة، وكيف تجاوز حقب الاستبداد؟ لماذا كان رحماً لأول نظام لحقوق الأقليات؟

 

هذه التساؤلات هي مواجع المنطقة اليوم، والإجابة عليها بلسمها، وهي اللغة الإقليمية الذهبية التي تستطيع تركيا التحدث بها من دون تلعثم أو رطانة، وهي أنفس ما تملكه لمحيط مأزوم، حينها يصبح المشهد التركي وسيلة إيضاح ميدانية تقترن فيها الفكرة بالصورة وهي أعلى مراتب التثقيف الجماهيري، حينها يرى المحيط في اللغة الجديدة مخلّصاً تصغي لها شرائحه كافة، العربية والتركية، المسلمة وغير المسلمة، الشابة والهرمة، فالكل مأزوم ووجل وهذا هو العمق الاستراتيجي الحقيقي لتركيا الذي يفهمه الإنسان في المحيط العادي ويأبه به.

 

في المقابل فإن بقاء الظواهر الاجتماعية الصحية لهذا الكيان الاجتماعي صامتة ومجردة من عناوين فكرية يخلي المنطقة من مدرسة اجتماعية، ويشرع أبوابها أمام مدارس اجتماعية هدامة تستبيحها وتقوض مجتمعاتها وهو ما يحدث اليوم، حينها لا يجدي إصلاح سياسي أو انتعاش اقتصادي.

 

جوار تركيا يرصد مشهدها الاجتماعي، منبهر به، لكنه عاجز عن تفسيره، لا يدرك إلى أي مدرسة إجتماعية يعود هذا المشهد، ولا يفهم ـ وهو العربي وليس التركي والبعيد عن الحقبة الإسلامية ـ كيف يمكن أن يكون مشهد غير عربي أنموذجاً لوسط عربي.

ستبقى ظواهر هذا الكيان الاجتماعي القُطري المنفصل عن الكيان الاجتماعي الإقليمي السالف ستبقى دون تفسير ما بقي المفهوم الذي أتت منه من دون تفسير، مطموساً في مهده، مثخن الجراح في محيطه، إثر المعركة الثقافية التي صاحبت التفكك الإقليمي.

 

إنه إذا ما أريد أن يكون لمنطقتنا الممزقة اجتماعياً رمقٌ إقليميٌ في عصر التكتلات، فلابد لهذا المفهوم أن يصقل، وأن يغلف لا كمنتج تركي حصرياً وإنما كمنتج إقليمي كما هو في حقيقة أمره، فيتولد إحساس بملكية شعوب المنطقة له، وتتراجع أزمتها المعنوية، فالتباهي بنظم الأندلس وبغداد ودمشق يقع خارج الإطار الزمني ولا يفي بغرض بناء ثقة معاصرة، وإذا ما فتحت أبواب "منجم الأرشيف الإقليمي" وتسربت وثائقه وفُكّت رموزها فستنقلب قناعات إقليمية رأساً على عقب ويتفعّل طور من النبض الفكري الذي يسبق التغيير، وإذا كان أول الغيث قطرة فإن أول النهوض فكرة.

 

إننا أمام مهمة استدراك مفهوم إقليمي، ووضع قاموس ثقافي، وإيجاد وعاء فكري تعزى إليه نتاجاتنا، كما أننا أمام مهمة إيجاد آلية يسري بواسطتها المفهوم الإقليمي في مجتمعاتنا سريان التيار في الدائرة الكهربائية.

 

إن في كل رقعة جيوسياسية في عالم اليوم دولة إقليمية لا تخطئها العين تضعها على الحلبة الدولية: ألمانيا في أوربا، الصين في جنوب شرق آسيا والهند الصينية، اليابان في شمال شرق آسيا، الهند في شبه القارة الهندية، البرازيل في أمريكا اللاتينية، روسيا في وسط وشمال آسيا والقوقاز، إلا منطقتنا والثمن باهض.

 

من خصائص هذه الدولة التي تجعل علاقتها مع محيطها لوناً من الشراكة لا الهيمنة هي أنها دولة قانون ومؤسسات فهي أنموذج إصلاح لها، واشتراكها معه بوشائج التاريخ والدين والطباع فهي مستأمنة عليه، والتقاؤها على مصالح اقتصادية وقواسم استراتيجية فهي ليست متطفلة، وسجل احترام لسيادته الوطنية.

 

المثبت في أرشيفنا هو أن القرون الخمسة الأخيرة التي شهدت انتقال الإدارة السياسية من المنطقة العربية إثر تدمير بغداد إلى الأناضول، كانت حقبة تكامل إقليمي، وأن مجتمع الأناضول الذي غدا دولة تركيا الحديثة إثر حرب الانفصال (الحرب العالمية الأولى) وتقوض الكيان الإقليمي ظل امتداداً لخصائص التعايش الاجتماعي الإقليمي السالف كحال الولايات العربية التي أصبحت دولاً.

 

هذا هو عنوان مشهدنا الإقليمي، هذه معطياته، بقيت الآليات والعمل.
شيء واحد لم يتبقَ هو الوقت.

ـــــــــــــ

*  ورقة ألقيت في مؤتمر العلاقات العربية ـ التركية، الكويت يناير 2011