
لم تعد اللعبة السياسية بقواعدها المعروفة حاليا هي التي تحرك المشهد العراقي المضطرب برغم من أن كل السياسيين يدعون ظاهرا أنهم خاضعون لمنطقها ومؤمنون بها أكثر من أي شيء أخر؟
ويكاد يجزم أي مراقب للشأن العراقي بأن هناك حالة من التشرذم والتناحر والتباين في الآراء والتوجهات الآنية والمستقبلية بين القوى السياسية البارزة على الساحة العراقية !
وأسباب ذلك تتجاوز حدود المرجعيات الفكرية والسياسية التي تغذي هذا الاختلاف من أساسه ولكنها ضلت تعبر في مضامينها عن نزعات قديمة و عقد مستحكمة يصعب على السياسي تجاوزها أو القفز فوقها ،ولعل أعظم كسب حققه اغلب الساسة العراقيين اليوم هو نجاحهم في تحقيق شعبية واضحة من خلال استثارة العواطف واستغلال العوامل الدينية والمذهبية والعرقية وتسخيرها بأساليب شتى من اجل أن تضمن لهم البقاء في السلطة أو قريبا منها على الأقل.
لقد قّدر على العراقيين أن تتأسس جمهوريتهم الرابعة مطلع القرن الواحد العشرين برعاية الأمريكان الذين عكست سياساتهم ومنذ اليوم الأول للغزو عقما كبيرا في التفكير والتخطيط والإدارة وتخبطا واضحا في استيعاب ما هم مقدمون عليه وهم يستبيحون أراضي الشعوب ومقدراتها ويجعلون أهلها رهائن قراراتهم العبثية التي تصنعها أقطاب السياسة عندهم.
تلك الأقطاب التي درجوا على تسميتها حينها بالصقور والنوارس والتي تتصارع فيما بينها ،والرئيس خاضع بطبيعة الحال لإملاءات الطرف الأقوى منها والأقرب لهلوسات العقل الأمريكي المشتت بين نزعات المسيحية الإنجيلية وخرافاتها وترهاتها وإسقاطات التفكير العولمي المؤمرك في زمن القطبية الواحدة ؟
وبطبيعة الحال لا يمكن تحميل الأمريكان وحدهم تبعة ماجرى منذ سبع سنوات إذ إن الجهد السياسي الذي أداروه كان أساسه في ما بعد أقطاب المعارضة العراقية من الأكراد والشيعة وبعض الواجهات السنية التي كانت تعمل في الخفاء والذين شكلوا واقعا مفروضا لم يستطع الأمريكان تجاهله أو تجاوزه برغم اعتراضات بعضهم لاسيما الحاكم المدني سيء الصيت بريمر ومن يقف ورائه والذي لم يصدق في شي إلا في حكمه على أكثرهم كما ذكر في مذكراته المنشورة؟
إن هناك اعتبارات متعددة اضطرت الأمريكان للتعامل معهم تتصل بالمصالح الولاءات ومراعات البعد الإقليمي إضافة الى حسابات السياسة غير المعلنة و التي تجري في الغرف المغلقة والتي تخطط وتضع القرارات بغض النظر عن ماهية هذه القرارات ومدى جديتها وعلاقتها بأصحاب الشأن؟
وعلى ارض الواقع كانت التخندقات العرقية والطائفية والمذهبية والقومية و الاثنية تنمو وتترعرع مع وجود البيئة الخصبة والرعاة المخلصين وبنسق موجه ومقصود يقف خلفه الكثير من الساسة الجدد الذين كانوا مظهرا من مظاهر الشارع المحتقن والمشوش والمضطرب وانعكاسا لعقلية العوام بدل أن يكونوا مترفعين عنهم وساسة لهم كما يقتضيه المنطق!
هذه المظاهر كانت في حقيقتها أكثر من مجرد اصطفافات تخدم واقع العملية السياسية الجديدة التي ولدت ولادة متعسرة برعاية الأمريكان ولكنها وفق تفكير بعض الساسة وقتئذ كانت وسيلة لغاية اكبر وجسرا يعبرون منه إلى ضفاف أحلامهم وتطلعاتهم التي تخطى بعضها كل حد وتجاوز حتى حدود الوطن الذي غدا ماضيه وحاضره رهينة بيدهم وبيد من أتوا بهم؟
لقد مضي أكثر من سبعة أشهر على انتخابات كان يراد منها أن تعكس وجها جديدا للتجربة العراقية وقد كان المغرقون بالتفاؤل يتحدثون بمعزل عن الواقع وهم يقارنون تجارب غربية قطعت شوطا بعيدا في هذا المجال بالتجربة العراقية الناشئة بكل تداعياتها وإفرازاتها ويحاولون تسويقها للمحيط العربي والإقليمي على إنها النموذج الأمثل لنظام الحكم والذي كان الأمريكان لاسيما في عهد الجمهوريين ورئيسهم السابق بوش يلحون لفرضه على وفق ما كان يعرف حينها بمشروع الشرق الأوسط الكبير
غير إن الواقع على الأرض كانت تحكم به عوامل أخرى اكبر من تلك المسميات الفضفاضة والعناوين العريضة حتى تلك التي كان ينادي بها أكثر الساسة العراقيين منذ العام 2003م ويكررها الأمريكان معهم بكل سماجة!
فلقد أصبح الوضع العراقي بعد هذه الانتخابات غاية التعقيد رغم كل ما يشاع عكس ذلك، فاليوم أصبح صوت المذهب والملة والعرق أقوى من أي صوت آخر ،أقوى حتى من الدستور الذي يدعي الساسة تقديسه والذي غدا هو الآخر رهينة أمزجة وخواطر وتطلعات ورؤى تتلاعب بحروفه وكلماته فضلا عن نصوصه وهو الذي وضع ليكون تعبيرا حيا عن واقع العراق ؟
إن أكثر ساسة العراق الجديد لا يدركون جيدا كيف ينظر العالم لهم ولتجربتهم الجديدة التي أريد لها أن تسوق كأنموذج يراد تعميمه !
ومن جهة أخرى يبدو إن العراق أصبح كذلك رهينة تطلعات المحيط المجاور ،وإذا تجاوزنا المحيط العربي – وهذا ليس تعصبا- لا لأن دور العرب كان يحمل في طياته بعده المتحفظ أو المحايد والدبلوماسي الذي يتخوف من الواقع الجديد وإفرازاته بل لأنه كان ولا يزال بالفعل دورا ضعيفا وهزيلا للغاية؟
و إذا تجاوزنا أيضا الدور التركي المحكوم بالقضية الكردية والاعتبارات الاقتصادية يبقى هناك الدور الإيراني وهو الأكبر والأخطر و الاشمل
لأنه محكوم بعوامل التاريخ وعوامل والأرض والعامل المذهبي الذي افرز نخبة سياسية محسوبة بأغلبيتها عليها إلى الحد الذي أصبحت لهم الكلمة الفصل في الشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي الثقافي أيضا
وعلى سبيل التأكيد يلحظ السائر في شوارع بغداد اليوم أفواج الزوار الإيرانيين وهم يملئون الطرق وبأعداد كبيرة و وكذلك البضائع الإيرانية قد أغرقت الأسواق من ابر الخياطة إلى السيارات التي غزت الشوارع بألوانها الصفراء الفاقعة وكأنها علامات إنذار تقول نحن هنا ؟
و وكذلك آلاف المطبوعات والكتب والتي غصت بها المكتبات والشوارع الثقافية العراقية وبلا رقيب ولعل سبب انتشارها و مقبوليتها ليس فقط لوجود توجه سياسي يغض الطرف أو لأنها تشكل حدثا يحمل دلالات ايجابية كونها مظهرا من مظاهر التنوع الثقافي العابر للحدود بل هو تجسيد حي عن الواقع الجديد الذي لعبت فيه الطائفية والمذهبية دور الجسر أو الطريق المعبد الذي أرادت منه إيران أن تدق ناقوس التحذير للعراق ولجيرانه العرب فما أخفقت فيه سنوات الحرب ألثمان في القرن المنصرم والتي دفع العرب ثمنها نقدا نجحت فيه السياسة اليوم وأمام مرأى ومسمع الأمريكان الذين لا يملكون غير كلمات التعريض الإدانة والتصريحات الباهتة فيما عسس النظام الإيراني وجنده اخذوا مواقعهم حيث تركها الأمريكان جهارا نهارا؟
هذا إذا استبعدنا فرضية الاتفاق غير المعلن بينها كما يعلن البعض
ولعل ما يشير إلى ذلك هو اتفاقهم على دعم المالكي كرشح لرئاسة ثانية ولهذا الاتفاق دلالاته مع إن الواقع لا يشير إلى إن بعض الساسة العراقيين مجبورون على الإذعان له أو الأخذ به بالكلية ولكنهم لم ولن يبرهنوا على إنهم يملكون زمام أمورهم أو إنهم قادرون على الوثوق يبعضهم وتغليب مصلحة البلد العليا والتخلي عن تلك النزعات والعقد المستحكمة المعششة في العقول والقلوب والضمائر و المترسخة في السلوكيات و الأفعال والتي نزلو بها إلى الشارع المضطرب أصلا بفعل ماجرى ويجري عليه كل يوم
إن القضية العراقية اكبر من مسالة نزاع على مناصب وكتل فائزة وخاسرة إنها كما أسلفنا لعبة تاريخ وأمزجة وأهواء ونزعات وعقد وتطلعات وخطوط حمراء يدرك بعض الساسة العراقيين إن تجاوزها سيجعلهم في عداد قائمة الضحايا المفتوحة العدد ؟
إن شظايا التجربة العراقية ببعدها المذهبي والطائفي قد تناثرت وراء الحدود وها هي الأخبار تطالعنا في محيطنا العربي بما لا يسر في لبنان ومصر البحرين واليمن والسعودية وأخيرا الكويت لذا فالحاجة ملحة وماسة لاحتواء مظاهرها وتجفيف منابعها وإبطال مبرراتها لأنها إن تركت تعشعش في مجتمعاتنا سيكون لها آثار مدمرة يصعب التخلص منها بين ليلة وضحاها لأن هذه المظاهر بالنسبة إلى أصحابها ومن يروجون لها وكما نراها اليوم ليست إلا معركة إثبات وجود وتأكيد هوية وترسيخ واقع جديد وتحقيق تطلعات تتجاوز حدود الأوطان ويبدو إن بيئتنا العربية مهيأة مع الأسف لخوض هكذا صراعات
إن أزمة الحكم في العراق ستنتهي بفصلها السياسي المتعلق بتشكيل الحكومة وتوزيع المناصب ولكن تأثير التجربة العراقي بأبعادها السلبية سيكون واضح على عموم المنطقة مع بقاء احتمالات الانفلات الأمني والسياسي والانقلابات العسكرية في المستقبل قائمة ويبدوا أن نائب الرئيس الأمريكي بايدن المح في أخر تصريحاته إليها التي هي إما أن تكون تحذيرا مبطنا للساسة العراقيين أو إنها كانت قراءة واقعية لتاريخ العراق المعاصر ولكنها مع الأسف قراءة متأخرة ومتأخرة جدا ولكنها تبقى قائمة طالما الوضع بهذه الصورة سواء كان ذلك بوجود الأمريكان ودعمهم أو بسواهم وان غدا لناظره قريب ؟