خوش "آمديد" ..صناعة نجم
9 ذو القعدة 1431
طلعت رميح

كانت زيارة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد للبنان حالة خاصة من زيارات رؤساء الدول إلى دول أخرى بسبب تعقيدات العلاقات بين إيران والجماعات السياسية اللبنانية، ولطبيعة الظروف الخاصة التى يعيشها البلدان على صعيد الأوضاع الداخلية في كليهما والظروف بالغة الدقة لعلاقات البلدين في الإقليم وعلى الصعيد الدولي، حتى يمكن القول بأننا أمام حدث في ظرف معقد وأن التطورات اللاحقة لاشك ستتاثر جديا بما جرى في الزيارة وما نتج عنها من تأثيرات في أوضاع لبنان والإقليم.

 

جاءت الزيارة والاوضاع الداخلية في إيران ما تزال على حالها من التعقيد الحادث منذ انتخابات الرئاسة الأخيرة التى رفضت فيها المعارضة فوز نجاد، وهو ما دفع البعض للقول بأن ما لم يجده أحمدي نجاد من ترحيب شعبي في بلده، حدث له من قبل "حزب الله" وحركة أمل في لبنان، مستندين في ذلك القول، إلى أن المعارضة الإيرانية وقفت وما تزال ضد ما يتبناه نجاد من تدخلات في دول الإقليم.

 

وعلى صعيد إيراني آخر، جاءت الزيارة في ظل تصاعد أجواء وملامح وقواعد وإجراءات الحصار على إيران، بما ألقى بظلاله على رؤية البعض لأهدافها، إذ نظر إليها كمحاولة إيرانية لتوسيع العلاقات في الإقليم لمواجهة الضغط والحصار الدولي، وأن تعميق العلاقات مع لبنان لا يستهدف كما هو متصور أهل لبنان في الداخل فقط،  بل أهل لبنان في الخارج أي في المهاجر وعددهم أكبر من أهل لبنان في الداخل، إذ ثمة مشروع إيراني لدعم اللبنانيين المهاجرين والتواصل معهم في نشاطات تجارية واعلامية تحقق اختراقا إيرانياً للحصار وإنفاذاً لاستراتيجية التوسع الإيراني عبر مواطني شعب آخر.

 

وعلى الصعيد الإقليمي نظر الكثيرين للزيارة باعتبارها حالة من حالات الصراع في الإقليم بتعميق الاختراق الإيراني للأمن القومي العربي، وتطويرا لما تحقق من قبل في العراق ولبنان إلى آفاق أبعد، وأن الزيارة تأتي ضمن سياق الاستراتيجية الإيرانية الجارية منذ سنوات والتى نتج عنها توتير للعلاقات الأهلية في كل دول الخليج وتهديد البحرين بالغزو والضم وإنهاك العراق واحتلاله.

 

وقد بدا مما قيل توقعا بشأن مجرياتها قبل أن تبدأ أنها ستشهد لقاء رباعيا يضم قادة إيران ولبنان وسوريا وتركيا، وأن مثل هذا الاجتماع يأتي كمحاولة لوضع لبنان في داخل بوتقة إقليمية جديدة، أو أن نجاد قد أراد -هو ومن معه في لبنان -تدشين نمط جديد من العلاقات بين إيران لبنان بحضور كل من الرئيسين السوري بشار الأسد ورئيس الوزراء التركي يتخطى الإيراني السابق في لبنان والسعي إلى اعتراف إقليمي بهذا الدور، لكن حسابات الطرفين السوري والتركي ومصالحهما، منعت اتمام الحدث الإيراني في لبنان، إذ ليس لسوريا مصلحة أن تسيطر إيران على لبنان، كما ليس لتركيا مصلحة أن تكون شاهدا وداعما لتلك السيطرة وهى الطامحة لدور إقليمي قد تجد نفسها في بعض مناطقه في صراع مع إيران.

 

وبدا مما قيل قبل الزيارة أن الرئيس الإيراني جاء إلى لبنان حاملا معه مشروعا للمصالحة الداخلية، بما يعنى أنها محاولة لتثبيت دور إيراني مباشر في ادارة الحدث الداخلي في لبنان بموافقة الأطراف الداخلية، وأن إيران تحاول الخطو للانتقال من راعى الطائفة إلى المسيطر والمرجع والراعي للمفاوضات والخلافات بين كل الطوائف، وأن إيران صارت واجدة نفسها بغير حاجة الآن إلى من يلعب هذا الدور بديلا عنها -وهو ما تجسد في خطابات تصالحية تجاه الكل في الداخل اللبناني -غير أن رؤية جماعة 14 آزار وتصريحاتها والأجواء الملتهبة التى سبقت الزيارة وكثير من تحركات الدول الإقليمية الأخرى، جعلت نجاد يغلب العلاقات البرتوكولية خلال الزيارة على العلاقات السياسية التي أرادها ولم يجد لها فرصة للتحقق الآن، خاصة وأن العروض التى حملها لإقناع الدولة اللبنانية وبقية الأطراف، بمحاسن الانكفاء في داخل بوتقة الحظوة الإيرانية، لم تُسِل اللعاب كما كان متصورا.

 

وفي ذلك يمكن القول بأن الحضور الإقليمي للدول الرافضة للتغول الإيراني في الإقليم قد لعبت دورا هاما في تحجيم أهداف الزيارة وإضعاف الطموح الإيراني عمليا. وكان البعض تصور قبل الزيارة أن أمين عام "حزب الله" قد يرى في الزيارة فرصة لكى يخرج علنا ويتخلى عن الاحتياطيات الأمنية، لكن التقديرات مالت إلى أن فعلا كهذا في لحظة داخلية وإقليمية معقدة قد يظهر الرجل على أرض بلده واقعا ضمن الحماية الرئاسية الإيرانية بما يجسد الأقوال السارية عن البعض في لبنان من أن "حزب الله" ليس إلا مشروعا إيرانيا في لبنان -وأن في ذلك خطرا على الزعامة الحالية للأمين العام لـ"حزب الله" فلم يظهر الأمين العام علنا وإنما تحدث عبر الشاشة وجلس نجاد يستمع ويشاهد مثله مثل الجمهور العام الحاضر للقاء نجاد في الضاحية الجنوبية في بيروت .وإن كان بعض الخبثاء من المحللين ذهبوا إلى أن حزب الله أراد أيضا أن يكسب نقطة لصالح زعامة نصر الله على حساب زعامة نجاد !.

 

وقيل إن نجاد جاء إلى لبنان وفي نيته استخدام التعبير الرمزى لتعويض العملى الفعلى اذ قيل إنه سيذهب إلى الجنوب ويضرب بالحجارة في اتجاه فلسطين كبديل رمزي لعدم التحام إيران و"إسرائيل" في معركة عسكرية مباشرة أو لتعويض تلك الحالة فكان أن جرت تحركات من اتجاهات متعددة جعلت صاحب القرار الإيراني يعدل عن الفكرة حتى لا يبدو قرار "المقاومة" إيرانيا، ولكى لا تحدث تطورات قد تقلب الزيارة في اتجاهات أخرى.
وقيل إن الزيارة للبنان قد تشكل ردا على القائلين بأن من يرد معرفة إيران وطموحاتها فليذهب إلى العراق، إذ هناك تبدو إيران على حقيقتها، فحاول نجاد أن يبدو معاديا لـ"إسرائيل" وأمريكا، لتقليل آثار تلك المقولة التى ترددت عقب زيارة نجاد للعراق المحتل تحت الحراسة الأمريكية المشددة.

 

 وهناك من تناول الزيارة من زاوية الرغبة الإيرانية في إرباك أعقد للمفاوضات الفلسطينية المرتبكة والمبعثرة،  وأنها قول من إيران أن لا حلول في المنطقة إلا بتفاوض أو مساومة معها. لكن هناك من وجد في الزيارة أوجهاً أخرى، تبدأ من دعم "المقاومة" ولا تنتهي إلا عند مساعدة الشعب اللبناني في كل المجالات، وأن نجاد حضر ليقدم عروضا سخية للبنان تمكنه من الصمود.

 

خطابات الزيارة
 هكذا تعددت زوايا ووجهات النظر للزيارة وأهدافها قبل بدئها والتوقعات بشأنها بما انعكس على الزيارة وأجواءها وأجواء لبنان وجعل الشائعات طاغية على وقائع الزيارة التي تشاهدها الأعين.
شهدت الزيارة عدة خطابات ألقاها نجاد، وخطابا لأمين عام "حزب الله" وآخر لرئيس البرلمان نبيه برى كما تحدث رئيس الجمهورية .
كان خطاب نصر الله قصيرا ومركزا على نفي فكرة أن "حزب الله" مشروع إيراني من خلال الدمج الشامل بين أهداف إيران في المنطقة وأهداف وطموحات الشعوب العربية، لقد شدد نصر الله على أن إيران ليس لها مشروع خاص بها، وأن لا مطامع لديها كدولة، وأن أهدافها هي تحقيق طموحات وأهداف الشعوب، ليكون الاستنتاج هو أن "حزب الله" ليس مشروعا إيرانيا، غير أن الرجل تحدث عن ولاية الفقيه والولاء للخامنئي في إيران، فشطب ما قال، أو كأنه قال إن الشعوب في رعاية المرجع الشيعي الأعلى في إيران إذ هو من يحدد السياسة هناك.

 

ويبقى الأهم هو ما ورد في خطابات وتصريحات نجاد التى لاحظ كل المراقبين أنها جاءت بالإجمال على عكس كل التوقعات أو لنقل التخوفات.
لقد تعمد نجاد ومن أعدوا خطاباته أن تكون اللغة الواردة فيها غالب عليها النغمة التصالحية والتهدئة ومراعاة الوضع الطائفي والتعقيدات الداخلية التي تشهد تفجرا حول موضوع المحكمة ذات الطابع الدولي لمحاكمة قتلة رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريرى.
حاول نجاد أن يبدو رئيس دولة في زيارة دولة دون تدخل مباشر في الأوضاع الداخلية اللبنانية. ووجد المتابعون لخطابات نجاد أنه حاول تسييد مناخ تهدئة في علاقات الإقليم، كان بدأها خلال اتصالات تليفونية مع قادة دول في المنطقة قبل الزيارة بساعات، وتوسع في سعيه لها في خطاباته فلم يأت من قريب أو بعيد إلى ذكر الأمور الخلافية المتفجرة.

 

 

باختصار فإن من لم يستمع للخطابات ويتابع كلماتها قد يجد أن لا جديد في المواقف أو الخلافات إلا رغبة في تهدئة الجو وسعيا لإبراز وجه تصالحي لمواقف إيران تجاه العرب، ومحاولة للنأي بإيران عن الخلافات الجارية في لبنان، وربما للبعد عن الظهور كطرف مباشر فيما سيجرى في لبنان لاحقا، إذ أرادت إيران القول، من خلال خطابات نجاد، نحن لا علاقة لنا بالأحداث المروعة التى قد يشهدها لبنان عقب صدور قرار اتهام عناصر "حزب الله" بقتل رفيق الحريري.
وهنا يبدو السؤال المهم هو: هل نحن أمام رسائل تهدئة، أم نحن أم ظروف فرضتها الزيارة وحسب. وفي ذلك لا يمكن القطع، فهناك عوامل تشير إلى أن التهدئة قد تكون خيارا إيرانيا في الإقليم لمواجهة العقوبات الدولية المتصاعدة، كما هناك عوامل تشير إلى الاتجاه المضاد على رأسها أن إيران تجد أمامها فراغا عربيا ودوليا في الإقليم وتجد أنه المساحة التى تمسك بها الأوراق في الصراع الإقليمي والدولي وأعمال المساومة والمقايضة لتحقيق مصالحها وأنها لا شك في وضع يحقق مصالحها الاندفاع والتصعيد في الإقليم، غير أن التصعيد يجب أن يجرى دون الوجود على أراضٍ عربية لرئيس من إيران.

 

صناعة نجم
وبعيدا عن الخطابات والحسابات، فإن الأمر الذي يمكن الإمساك به كحقيقة واقعة ومؤكدة هى أن لبنان شهد عملية مخططة احترافية لصناعة نجم سياسي في المنطقة، إذ كانت عملية الاستقبال والمؤتمرات والشعارات والهتافات والتغطيات الإعلامية، كانت ذات هدف أساسي هو الترويج الإعلامي والسياسي لشخص الرئيس نجاد، ضمن وضعية نسج محسوبة بدقة لعلاقة بين العرب وإيران.

 

كم كان لافتا أن يستخدم الأمين العام لـ"حزب الله" بعض العبارات الفارسية في ختام خطابه الموجه لأهل الضاحية وبيروت ولبنان والعرب والمسلمين، وكم كان الاحتفال والشوارع في حالة ترحاب باستخدام عبارة أهلا وسهلا بالفارسية "خوش امديد" إلى جانب العربية.
وفي ذلك بدا للمتابع أننا عشنا مع أهل بيروت ولبنان عملية مخططة جيدا على الصعيد الإعلامي لصناعة نجم في عالم السياسة، ولم نكن فقط أمام كرم في الحفاوة والترحاب.
خوش امديد، كانت إحدى أوجه تلك الصناعة، إذ جرى اختيارها من قبل المخططين لحملة الاستقبال، لربط المستقبل لها بالنجم الذى يجرى استقباله. هى نمط من أنماط الجملة أو العبارة النافذة إلى العقل سهلة الحفظ والتحزين ومحبب الاحتفاظ بها، بذات طريقة الإعلانات التجارية التى يجرى اختيار مفرداتها لتكون قصيرة ومحببة للمشاهد ويسهل حفظها وترديدها.

 

في الصور والملصقات جرى الأمر بعناية، إذ اختيرت صور ذات كفاءة فنية عالية في اللقطة لنجاد وكأنه الزعيم الذى يتوجه ويطل على الأمة، أما الاستقبال الشعبي، فكان حجر الزاوية في صناعة النجم، إذ أعاد استقبال الجهور لنجاد في الشوارع والطرق من المطار للقصر-بعبدا-زمن القادة السياسيين المنتصرين، وكأن من يخطط أراد القول إن نجاد يحتفل به كقائد لنصر عام 2006.
عشنا صناعة نجم بشكل احترافي مهني على أعلى مستوى .لقد جرى تصوير نجاد على أنه الزعيم الأوحد في المنطقة، وربما قام الأمر على تقدير بأن الجماهير العربية في حاجة لوجود من تلتف حوله، وأن نمط الجمهور العربي هو نمط يبحث ويفتش دوما عن القائد والزعيم، وأن فراغا في المنطقة يحاول آخرون ملئه، وأن الظروف تسهل تحويل نجاد زعيما لغياب كثيرين آخرين أو لأنه هناك من لا يسعون إلى هذا النمط .

 

ويرى البعض أن لهذا الأمر خلفية تتعلق بالخطاب الذى ألقاه نجاد في الأمم المتحدة وفي محاولة إيران جعل اللقاء في لبنان رباعيا لإحضار الرئيس السوري والقائد التركي. في خطاب نجاد في الأمم المتحدة ركز نجاد خطابه على بن لادن رغم أنه لم يأت باسمه على لسانه.
ركز نجاد على ان أحداث 11 سبتمبر 2001، صناعة أمريكية، في محاولة لسحب البساط الجماهيرى من الجهة التى تبنت القيام بتلك الأحداث، فإذا كان الحدث أمريكيا، اذن لم يحب الناس بن لادن من بعد ؟ وفي محاولة ان يكون اللقاء رباعيا، كان الامر سيبدو غريبا وغريبا جدا.

 

ففي حين وصل نجاد قبل الاخرين وحظى باستقبال شعبى وخوش امديد بالعربى والفارسى وسيارة مكشوفة وتلويح للجماهير، فالامر نفسه لن يحدث مع الرئيس السورى –وهو لم يحدث بالفعل حين حضوره من قبل-وبطبيعة الحال، لن يحدث مع رجب طيب اردوغان .كانت محاولة مرتبة بعناية لسرقة الاضواء والقول بان إيران هى من في لبنان.وليبدو نجاد الزعيم الاوحد في المنطقة.