العثمانيون الجدد
24 شوال 1431
د. محمد مورو

عندما تم إعلان نتيجة الاستفتاء على التعديلات الدستورية في تركيا وتبين أن 58 % من الأتراك وافقوا على تلك التعديلات فإننا في الحقيقة أمام جمهورية جديدة في تركيا ، ذلك أن تلك التعديلات استهدفت من ناحية المزيد من تقليص سلطة العسكر وتغيير تركيبة المؤسسة القضائية لصالح البرلمان ومن ثم رئيس الوزراء واستهدفت من ناحية أخرى إطلاق المزيد من الحريات لصالح الشعب التركي ، كما أنها أكدت من جديد تصاعد شعبية حزب العدالة والتنمية التركي برئاسة رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ، وقد وعد رجب طيب أردوغان بإرساء دستور جديد للبلاد في أقرب وقت ممكن .

 

 

نحن إذن أمام جمهورية جديدة في تركيا ، أو قل نحن بصدد نهاية الجمهورية الاتاتوركية العلمانية التي أرساها كمال اتاتورك منذ عشرينات القرن الماضي ، واعتمدت على مؤسسة حزبية كمالية وجيش يتدخل في السلطة ومجلس أمن قومي تركي هو صاحب القرار الحقيقي في رسم السياسة العليا لتركيا ويتركب أساساً من جنرالات وقضاة بالإضافة إلى رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ، وكانت أغلبية من الكماليين العلمانيين الذين لم يسمحوا قط بأي اتجاه نحو إرساء القيم الإسلامية من جديد والقطيعة مع الماضي العثماني ، بل إن الأمر كان يصل أحياناً إلى إحداث انقلاب عسكري إذا قام رئيس الوزراء مثلاً بالسماح بإذاعة الآذان باللغة العربية ، أو ظهرت لديه أي ميول نحو الانفتاح على العالم الإسلامي أو إعادة بعث القيم الإسلامية .

 

 

كانت جمهورية اتاتوركية علمانية أصولية ، بكل ما للكلمة من معنى ، وتسببت في محاولة قطع صلات تركيا بالإسلام باعتباره تراثاً رجعياً وقمع كل من يحاول أن يفعل عكس ذلك بلا هوادة ، ولكن الجمهور التركي كان له رأي آخر فظل متمسكاً سراً وعلناً بقيمه الإسلامية وحنينه إلى الرابطة الحقيقية بشعوب العالم الإسلامي ، وبرغم كل القيود الدستورية والتوازانات الدولية والمحلية المعقدة ، كان الشعب التركي يعبر كلما سنحت الظروف عن ذلك .

 

 

وهكذا فإن حزب الرفاه الإسلامي ، ثم حزب السعادة ، ثم غيرها من الأحزاب ذات التوجه الإسلامي ، كانت تعبيراً عن حالة الشعب التركي الحقيقية إلى أن وصلنا إلى حزب العدالة والتنمية الذي استطاع أن يفوز بالانتخابات ويشكل حكومة من ذوي الميول الإسلامية ، وكان الدستور التركي والقضاء التركي ومجلس الأمن التركي يمنع إعلان ذلك ولا يزال ، ومن يعلن عن شيء من هذا يتعرض للحل أو السجن ، فقد تمت حل أحزاب وسجن شخصيات مثل أردوغان ذاته ، ولكن المارد الذي خرج من القمقم ما كان له أن يعود إلى القمقم أبداً .

وفي الحقيقة فإن حزب العدالة والتنمية ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان استعملا تكتيكاً بالغ الذكاء في مواجهة المؤسسة العلمانية القوية ، وفي مواجهة تحالف عسكري بين الجيش التركي وإسرائيل وفي مواجهة التزامات تركيا بعضوية حلف الأطلنطي .

كان على حزب العدالة والتنمية أن يخفي إسلاميته ، وأن يقسم يمين الولاء لاتاتورك والعلمانية ، وأن يحاول تفكيك تلك المنظومة المعقدة شيئاً فشيئاً ، وبديهي أن أردوغان ورجاله تمتعوا بقدر هائل من الذكاء والقدرة على المناورة ، وكذا كان معهم من الطهارة والنظافة وحسن الأداء الاقتصادي ، الذي نهض بتركيا اقتصادياً فحصلا على ثقة الشعب التركي في مقابل فساد ورشوة وإهمال ضربوا كل الأحزاب التركية العلمانية ، ومن ناحية أخرى فإن رغبة الأتراك في دخول البيت الأوروبي كانت فرصة لأردوغان ورجاله لاستخدام الشروط الأوروبية في إطلاق المزيد من الحريات وتقليص دور المؤسسة العسكرية ، ولم تكن عين أردوغان ورجاله على دخول البيت الأوروبي بقدر ما كانت عيونهم على تغيير الظروف الموضوعية والدستورية في تركيا لصالح المزيد من الحريات والحد من ديكتاتورية العسكر والعلمانيين .

 

 

أضف إلى ذلك كله ما يمكن أن نسميه بركة أردوغان أو توفيق الله سبحانه وتعالى له ، لأنه بذل كل الجهد وكل الفكر واعتمد على الله تعالى .

لم تكن المسألة سهلة بالطبع ، بل إن حزب العدالة والتنمية تعرض للحل أكثر من مرة ، وتمت إحالة أوراقه إلى القضاء التركي العلماني ، الذي كان من الممكن جداً أن يصدر قراراً بحل الحزب في أزمة الحجاب المعروفة ، ولكن الخوف من تدهور تركيا ، بل وتفككها كانا حائلين دون ذلك ، لأن الغرب وأمريكا أدركا أن غياب حزب العدالة والتنمية يعني إلغاء المكتسبات الاقتصادية في تركيا ، ويمكن أن يؤدي إلى تفكك تركيا ، ومن ثم زيادة المناخ المواتي للإرهاب ، وهكذا استغل أردوغان ورجاله خوف أمريكا من الإرهاب في الاحتفاظ بالسلطة ، وعدم السماح للقضاء التركي بحل الحزب .

بل لعل تلك النقظة ذاتها التي أدركها أردوغان مبكراً ، كانت هي القاعدة التي ارتكز عليها أردوغان في الهجوم على إسرائيل ، والاستمرار في قضم صلاحيات العسكر ومجلس الأمن القومي التركي وتغيير التركيبة الداخلية لتركيا لصالحه .

وفي الحقيقة فإن تجربة أردوغان ورجاله هي تجربة تستحق الدراسة لكل الأحزاب السياسية عامة والأحزاب الإسلامية خاصة ، ومما لا شك فيه أن الظروف التي تواجهها الأحزاب الإسلامية في معظم البلاد الإسلامية أقل صعوبة وتعقيداً من الظروف التي واجهها حزب العدالة والتنمية .

 

 

على مستوى آخر فإن أردوغان الذي وبخ بيريز بشدة في المنتدى العالمي وانسحب من الاجتماع ، عندما هاجم بيريز الفلسطينيين وهو ما لم يفعله أي زعيم عربي ، ولا حتى الأمين العام للجامعة العربية ، وكذلك المساعدات التركية السخية لشعب غزة ، ثم تسيير قافلة سفن الحرية ، وما حدث فيها من استشهاد تسعة من الأتراك أعطى الرجل فرصة للضغط على إسرائيل من ناحية ، مستنداً إلى الشعور القومي التركي وتقليص مساحة التعاون العسكري معها وهو أمر لم يكن يقدر عليه لولا التصرف الإسرائيلي الأحمق حيث أنه كان من ركائز وتقاليد المؤسسة العسكرية التركية ، ومن ناحية أخرى فإن الرجل حقق لنفسه ولحزبه ولتركيا سمعة عالمية في الشارع الإسلامي ، باعتباره الزعيم الوحيد الذي يدافع عن الفلسطينيين في حين انبطح معظم الزعماء العرب أو تراخوا أو تواطؤا مع إسرائيل وأمريكا ، وقد رحب الشارع الإسلامي بأردوغان بشدة لأن تركيا سنية وليست شيعية مثل إيران ومعروف أن 90 % من المسلمين هم من السنة ، ومن المعروف أيضاً أن الكثيرين من السنة يرتابون في الممارسات الإيرانية باعتبارها نوعاً من المشروع الشيعي على حساب السنة حتى لو كانت ممارسات ظاهرها الصحة وباطنها استقواء الشيعة .

هذه الفرصة التاريخية لم تأت لأردوغان إلا لأنه يستحقها ، فالفرص لا تأتي إلا لمن يستحقها .

 

 

بعد تعديل الدستور وظهور ملامح جمهورية تركية جديدة ونهاية الجمهورية الكمالية العلمانية ، ظهر الحديث بالطبع عن العلمانيون الجدد ، وهو مصطلح استخدمه الكتاب الأتراك أولاً ثم انتشر في تحليلات عربية وأوروبية وأمريكية سواء على مستوى الإعلام أو مراكز التحليل ، بل إن البعض استعاد الحلم التاريخي للمسلمين في استعادة الخلافة من جديد ، وبالطبع فإن هذا الحلم مشروع ولكنه لا يزال غير واقعي حتى الآن وإلى مستقبل معين ، ولكن القدر المتحقق حتى الآن من أن تركيا تملأ الفراغ ، وتقود عملية التعبير عن مظالم المسلمين في العالم ، وأن ذلك أمر مرحب به من المسلمين لأسباب ذكرناها من قبل ونكررها وهي غياب الدور العربي ، والخوف من الدور الإيراني الشيعي ، وأن تركيا تعيد التوجه وبناء العلاقات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية بالعالم الإسلامي ، وهو أمر له ما بعده بالطبع .