
قبل أيام أعادت بعض الصحف المصرية خبرًا يقول أن الشرطة قد ألقت القبض على ثلاثة عشر شابًا من "المسيحيين" المنتمين إلى المذهب الإنجيلي قد ألقي القبض عليهم في مخيم صيفي في غرب الإسكندرية وهم يستعدون ويجهزون للقيام بنشاطات "تبشيرية" وقد بررت السلطات هذا القبض على هؤلاء الشباب كما ذكرت الصحف بذريعة أن البلد تعاني من حالات قلق وهي ليست في حاجه إلى مزيد من الاضطراب مما قد تسببه عمليات "التبشير" هذه.
وإلى هنا فإن هذا الخبر الذي نشرته الصحف قد يكون دالاً على أن السلطات المصرية بدأت تشعر بالفعل بالقلق من جراء انتشار عمليات ونشاطات التنصير "المسيحي" التي أصبحت الآن لا تقتصر فقط على برامج بعض القنوات الفضائية التي تسيرها الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بل وإنما تنتشر على نطاق واسع في المجتمع وتقوم بها على وجه التحديد تلك الكنيسة من خلال فروعها وجمعياتها وهيئاتها المختلفة بل ويقوم بها شباب ورجال من هذه الكنيسة مدربون على القيام بعمليات التنصير وعلى استغلال الحاجات المادية والمعنوية التي يمر بها قطاع معين من المجتمع المصري سواء كان قطاع الشباب أو قطاع الفقراء لكي ينشروا الدعوة "المسيحية" بينهم، وهي دعوة إلى المذهب الأرثوذكسي، وعلى هذا فإن إلقاء القبض على هؤلاء الشباب قد يكون مؤشرًا على بدء حملة ضد هذه الاتجاهات التنصيرية، وهي نشاطات طال إجراؤها في بحبوحة وفي أمن وسلام دون التعرض لأية مضايقات مما تعرضوا لها عادة دعاة الإسلام وشبابه حتى أكثرهم بعدًا عن السياسة وبعدًا عن أي اهتمام أو متابعة أو حديث في مجالات السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع.
إلا أن الخبر في حد ذاته يثير الدهشة والتساؤل في أكثر من جانب، فهذا الخبر الذي نشرته الصحف حينها خلا من تحديد شيء مهم جدًا ألا وهو الجهة التي يحدث "التبشير" بينها، فمن الطبيعي أن ينصرف الذهن عند الحديث عن "التبشير" أو التنصير إلى المسلمين باعتبارهم هم الجهة المستهدفة حاليًا، وعلى مستوى العالم كله تقريبًا بتلك النشاطات التنصيرية، ولكن هناك جانب مهم مخفي عن الأنظار ألا وهو أن "تبشير" إذا قامت به الكنيسة الإنجيلية في مصر، وهي كنيسة تتبعها أقلية من مسيحيي مصر على عكس الكنيسة الأرثوذكسية إنما ينصرف هذا التبشير في حالة وقوعه ليس إلى المسلمين وإنما إلى الأقباط الأرثوذكس باعتبار أنهم مهيؤون ومجهزون أكثر للانحياز إلى المذهب الإنجيلي لا سيما على ضوء التعقيدات العقائدية والتشريعية التي يتسم بها مذهب الكنيسة القبطية وتؤدي إلى حالة نفور بين قطاعات واسعة من الأقباط منه، واللجوء إلى المذهب المسيحي الآخر الميسر ألا وهو المذهب الإنجيلي، وليس هذا بالسر فقد تحدثت كثير من التقارير الصحفية على مدى العامين الأخيرين عن اعتناق أعداد متزايدة وكبيرة من الأقباط الأرثوذكس للمذهب الإنجيلي باعتباره أكثر سهولة ومرونة وقربًا للحياة المسيحية المعاشة من تعقيدات المذهب الأرثوذكسي لا سيما في قضايا الأحوال الشخصية وأيضًا في بعض القضايا العقائدية أضف إلى ذلك سلوك العديد من قساوسة الكنيسة الأرثوذكسية مما يتسم بالتعالي أو بالغطرسة أو بالتنفير أو بعدم القدرة على اجتذاب الشباب والقطاعات الأرقى في النخبة القبطية إلى ما تقدمه الكنيسة من تعاليم.
وإذا وضعنا هذه الحقيقة في الاعتبار لانعكس مدلول الخبر تمامًا ولانعكست مؤشراته، فالذي يحدث هنا ليس حملة من السلطات على عملية التبشير أو التنصير المسيحي بين المسلمين في حد ذاتها وإنما هو في الحقيقة حملة على عملية تقوم بها الكنيسة الإنجيلية للاستجابة إلى الرغبات المتصاعدة والمتزايدة بين أبناء الطائفة الأرثوذكسية القبطية لترك مذهبهم ولاعتناق المذهب الإنجيلي، فنحن هنا لسنا في الواقع أمام عملية حماية لعقيدة المجتمع المصري في غالبيته ألا وهي الإسلام من نشاطات تبشيرية أو تنصيرية بين صفوفه وإنما في الواقع نحن أمام عملية حماية واضحه للكنيسة القبطية الأرثوذكسية لإبعاد إغراءات الكنيسة الإنجيلية ولتمكين هذه الكنيسة الأرثوذكسية من إحكام السيطرة على أتباعها وإبعادهم عن التوجه لأي مذهب آخر يرتاحون إليه ويجدون فيه بعدًا عن تعقيدات الكنيسة الأرثوذكسية وفشلها العقائدي والتشريعي.
إذن نجد في هذا الخبر عملية خطيرة تقوم بها السلطات بمحاولة تلبية شكاوى ومطالب الكنيسة الأرثوذكسية بإبعاد شبح التحول عن مذهبها إلى مذاهب مسيحية أخرى وعلى رأسها المذهب الإنجيلي وفي هذا الأمر استجابة من السلطات ليس فقط للمطالب والشكاوي الكنسية وإنما أيضًا إلى عملية تنسيق تلوح في الأفق منذ أشهر طويلة مضت بين رئاسة هذه الكنيسة القبطية وبين دوائر في الحزب الوطني الحاكم على خلفية الانتخابات المتوالية التي تشهدها البلاد في هذه الفترة سواء انتخابات مجلس الشورى أو مجلس الشعب أو الانتخابات الرئاسية، وهذا التنسيق في الواقع قد تعرض للانتقاد من جانب الجميع، بل حتى من جانب رموز قبطية أرثوذكسية لأنه يجعل من الكنيسة الأرثوذكسية حزبًا سياسيًا يجري التنسيق معه في إطار عملية الانتخابات وذلك في وقت تحارب فيه الدولة وفق قوانينها قيام أحزاب على أساس ديني، وتطبق هذا التحريم بصرامة بل وبإسراف على شتى التجمعات الإسلامية حتى ما هو مجرد جمعيات أهلية أو تجمعات ثقافية وفكرية منها.
وإذا كانت الدولة حسب الدستور هي دولة إسلامية، وإذا كانت الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع فمن المستغرب وفي ظل قوانين أخرى تدعو إلى فصل الدين عن السياسة أن تقوم السلطة الحاكمة في مصر بحماية مذهب مسيحي ضد مذهب آخر، رغم أن المفروض أن لا تتدخل الدولة في الشأن الديني المسيحي بالذات لما في هذا الأمر من حساسية، ولكن ما يحدث الآن يدل على أن هناك توجهًا لحماية الكنيسة الأرثوذكسية من المذاهب المخالفة لها والتي أخذت تجتذب الكثير من أتباعها ولعل هذه الحماية تكون في مقابل أشياء وتنازلات أو مساومات تقوم بها الكنيسة القبطية لدعم سياسات الحزب الوطني الحاكم في مجالات متعددة وليس فقط في مجال الانتخاب.