
لعل البعض يعتقد أن انفصال الجنوب عن الشمال فى السودان، هو خطر يهدد مصالح الشمال وحده، أو حتى يهدد مصالح الشمال أكثر من الجنوب، والحقيقة التى تطرحها السيناريوهات المتوقعة لتطور الأوضاع فى الشمال والجنوب فى حالة الانفصال "لا قدر الله"، هى أن كلا القسمين سوف يسير فى مسار كارثى، والأكثر إحتمالا أن كارثية المسار ستكون أنكى فى القسم الجنوبى من السودان عنها فى شماله.
فعلى مستوى جهاز الدولة..
يمكن رصد تقدما كبيرا فى قدرة وتواجد جهاز الدولة فى الشمال، بل أن بعض المراقبين يقول بأن ما تحقق من تواجد وفاعلية لجهاز الدولة السودانية فى السنوات الأخيرة، لم يسبق لأى حكم سابق تحقيقه، وأن حالة الدولة الحاكمة للعاصمة التى سادت فى كل العصور السابقة فى السودان، قد تم تخطيها فى السنوات القليلة الماضية، وأصبح من السهل للمراقب لمس التواجد اليومى الواسع للدولة فى كل مناطق الشمال السودانى.. كما إستطاعت الدولة السودانية عبر العديد من الإجراءات السياسية والإقتصادية، إنجاز طفرة فى مستوى معيشة المواطن السودانى، وفى إنعاش الاقتصاد السودانى بشقيه الخاص والعام، وعلى صعيد البنية التحتية فإن التقارير تفيد بحالة من التكثيف غير المسبوق سواء فى العاصمة أو مناطق السودان الأخرى بما فيها الجنوب السودانى، كما أنجزت الدولة مهمة بناء الجيش وأجهزة الأمن بصورة أكثر تقدما وحرفية من أى وقت مضى، الأمر الذى يعطى لهذه الدولة مساحة زمنية أكبر للصمود أمام مخططات التفكيك المعدة لهذا البلد شماله وجنوبه على السواء، وهذه الإنجازات نفسها هى التى أعطت للحكم السودانى القدرة على الصمود أمام الضغوط الشديدة التى مارستها عليه كل الأطراف الداخلية والخارجية طوال فترة إدارة أزمة الجنوب السابقة، وحالت دون إنهياره أمام كل المؤامرات التى حيكت ضده.
بينما الدولة المتوقعة فى الجنوب هى تجميع لشتات حركات قبلية متناحرة، ولا تمتلك من الأجهزة سوى ميليشياتها التى تربت ودربت فى ظروف حرب أهلية، سواء بين الجنوب والجنوب، أو بين الجنوب والشمال، وكلاهما كان فى إطار إرتباطات وحسابات لقوى خارجية، وهى لا تعرف أى نوع من الولاء سوى الولاء للقبيلة، كما أن الإرتباطات الإقليمية للقبائل المكونة لهذه التجميعة وميليشياتها سوف تفجر العديد من المشكلات مع دول الجوار.. إنها دولة غير قابلة للسير بكل جزئياتها فى نفس الإتجاه، هى دولة مرشحة للتفكك والانفجار من تلقاء ذاتها، ولعل هذا هو ما يدفع بالأمريكيين للتخطيط والدعم لدولة الانفصال وصولا إلى تفكيك السودان كله إلى عناصره الأولية، ضمن الخطة الإستراتيجية لتفيك دول العالم الإسلامى.
نحن إذن فى حالة الانفصال أمام دولتين الأولى فى الشمال مرشحة للحصار العنيف من القوى العالمية التى تدير الأزمة الآن، مع إستخدام كل الأوراق الممكنة للدولة الناشئة فى الجنوب لإرباك دولة الشمال، خاصة المشاكل الحدودية المتعلقة بمناطق النفط والثروات المعدنية، ولا تستبعد قضايا التعويضات عن فترة الحرب بين الشمال ومتمردى الجنوب، وغيرها.
ودولة ناشئة فى الجنوب لا تمتلك من مقومات الدولة شيئا، يمتلك السلطة فيها بشكل أساسى ميليشيات الحركة الشعبية، بلا جهاز دولة، فى مواجهة مع ميليشيات القبائل والحركات الأخرى والتى إقتتلت بالفعل خلال العام المنصرم، نتيجة للتصرفات الإقصائية للحركة الشعبية، وخلفت آلاف الضحايا، وفى تجمع عرقى وقبلى متناحر، ويمتلك أوراق التأثير فيه قوى إقليمية ودولية متعددة المنطلقات والأهداف، بل ومتعارضة إلى حد الإقتتال، وهو ما سبق وأن حدث حتى فى ظروف المواجهات المسلحة بين الشمال والجنوب.. وهذه الدولة مفتوحة الحدود مع العديد من الدول المحيطة، والتى تمثل إمتدادا طبيعيا لقبائل الجنوب.. أو يمكننا القول بأن هذه الدولة التى لا حدود لها هى دولة مرشحة للإنفجار بأسرع مما يعتقد حتى المخططين لإيجادها.
وعلى المستوى الشعبى..
لا يشك المتابع للحالة السودانية فى أن الشعب السودانى فى الشمال كما فى الجنوب، يفضل كل الخيارات وأى الخيارات، على خيار العودة إلى حالة الإقتتال التى وصلت بالمواطن السودانى عموما إلى حافة المجاعة، وما لا يدركه بعض أهل السودان ـ بعيدا عن المتورطين والعاملين لصالح المخطط الغربى ـ هو أن خيار السلام الحقيقى بين الشمال والجنوب هو خيار الوحدة " تحت أى من الصيغ" الفيدرالية، أو الكونفدرالية، أو الولايات المتحدة السودانية، أو السودان الواحد، وأن أى خيار آخر هو إعداد لحرب طويلة مرشح لها أطراف متعددة متعاقبة ومتبادلة، سواء بين الشمال والجنوب، أو بين الجنوب والجنوب، أو بين الشمال والشرق، أو بين الجنوب والشرق، أو بين أطراف من هذا أو ذاك ودول الجوار، فإذا لم تكن الحرب بين الشمال والجنوب، فسوف تكون فوضى الميليشيات وتفكك الدولة وهى أشر وأضل سبيلا، ولعل ما حدث بعد إنهيار الدولة فى العراق يقدم مثالا ـ مصغرا ـ لما يمكن أن يحدث للسودان.
والمؤسف فى الحالة السودانية أن بعض الأطراف، وبدون سوء نية وبدون وعى، يسعون لتدعيم خيار الانفصال، يحدث هذا فى الشمال، كما يحدث فى الجنوب، ربما للشعور بالإعياء بعد طول مجاهده، وربما للخوف من الدخول فى تحديات جديدة قد تفرضها القوى الدولية على دولة الوحدة السودانية، غير مدركين أن إنقسام السودان إلى دولتى الشمال والجنوب، هو المقدمة الضرورية لتفكيك السودان كل السودان، جنوبه قبل شماله، وأن هذا سوف يحدث عبر معاناة طويلة وفوضى مكلفة للمجتمع السودانى، فيها من الدماء نزيف يفوق نزيف المصالح، وأن الكلفة تتزايد كلما قلت درجة نضج الجهاز الحاكم وترابط الدولة فى المنطقة المعينة.. أى أن أهل الجنوب سيتحملون الكلفة الأكبر للتفكك والفوضى.
السودان المعبر الإسلامى للقارة السمراء
ما قلناه عن المخطط الأمريكى لتفكيك الدول فى الأمة الإسلامية، يطرح نفسه بقوة فى الحالة السودانية.. أولا .. لنوعية السلطة التى تولت الأمر مع ثورة الإنقاذ.. وثانيا.. لأن السودان بلد ذو أهمية إستراتيجية من الناحية الجغرافية فى الصراع العقدى القائم بين العالم الغربى المادى والأمة الإسلامية، وقد مثل السودان تاريخيا المعبر الطبيعى للدعوة الإسلامية التى إنتشرت فى وسط إفريقيا عبر حركة التجارة.. وثالثا.. لأن السودان بما يمتلكه من هبات إلاهية وثروات طبيعية، يمثل تهديدا حقيقيا للنفوذ الغربى الإستعمارى، خاصة مع توجهه الإسلامى فى الناحية العقيدية، وإنفتاحه الإقتصادى على أسواق ورؤوس أموال خارج منظومة التحكم العالمى خاصة فى الإستثمارات البترولية والمعدنية، بل والزراعية.
إن السودان الذى يقف على أعتاب خيار مصيرى اليوم، لا يفعل هذا عن نفسه فقط، بل ربما يفعله أيضا فيما يخص مصالح إستراتيجية للأمة الإسلامية كلها.. فإما فتح باب الفوضى "بخيار الانفصال" بكل ما تحمله من مخاطر على شعوب المنطقة، وإما تدعيم متاريس الصمود والدفاع عن مصالح أبناء كل السودان فى الجنوب والشمال، والحفاظ على جسر الإسلام إلى القارة السمراء، وهو جسر إستراتيجى.. ولا شك، فى معركة الأمة القادمة.. ولا شك.