البعث الشيعي في سوريا (1919–2007)ـ (3-3)
17 رجب 1431
د. عبد الرزاق عيد

إلغاء الأحزاب: دعوة صريحة لإحياء الطائفية

إن كتاب البعث الشيعي في سوريا 1919- 2007 يقدّم مادة ثرية ليس عن حركية التشيع في مرحلة الأسد الأب، والتشييع في مرحلة الأسد الابن مما غدا خطراً حقيقياً على خصائص الهوية الثقافية الوطنية السورية إذ تُخترق إيرانياً كما ألمحنا في الحلقات السابقة، بل إنه -وهو الأهم- يقدّم مادة أولية تساعد الباحث على الوقوف على مداخل حيوية هامة، فيما لو أراد سبر العنصر (الطائفي) المضمر في سياسات (الأب والإبن).. حيث سيكون هذا العنصر الطائفي (السياسي وليس بالضرورة الديني)، أساس العصبية التي شكلت ملاط قوة النظام الأسدي وسر استمراريته وبقائه الوراثي.. ونقول الطائفية السياسية بوصفها عصبية قوة واستقواء، وليس الطائفية الدينية العقدية بمعناها الفقهي، وذلك لأن الطائفة العلوية هي الأقل اهتماماً بالشأن الطائفي بمعناه وبعده الديني.

 

حيث يمكن للباحثين الشباب المهتمين بالتاريخ السياسي الحديث والمعاصر أن يستفيدوا من هذا الكتاب(البعث الشيعي)، كمنطلق مرجعي يشير إلى مراجع عدة في مجاله، وذلك فيما لو أراد الباحث أن يتقصى تمظهرات حضور العصبية في كل سياسات آل الأسد الأب والابن: الداخلية منها والخارجية.. إذ أن هذه الأطروحة تقول: إن كل مواقف وآراء وتوجهات السياسة الخارجية والداخلية السورية كانت تضمر هذه العصبية منذ انقلاب 8 آذار 1963، لكن هذه العصبية كانت يحكمها -في الآن ذاته- سيرورة تاريخية سياسية حكمت علاقتها بالبعث في صيغة: ثنائية الانتماء إلى: (الأمة والملة)، حيث الصيغتان تحكمهما إشكالية الهوية المنقسمة على ذاتها بين الوعي القومي البعثي والوعي الطائفي (كعصبية وليس بالضرورة كطائفية الدينية)، لكنهما تتوحدان -موضوعياً وكمآل- حول وظيفة إلغاء (المواطنة) المتعينة في (وطن –دولة) لكونها تتجاهل واقع الانتماء إلى كيان وطني حسي وضعي ملموس محدد بجغرافية سوريا وتاريخها السياسي والثقافي والاجتماعي، وذلك لصالح الانتماء إلى فكرة ترفرف في برزخ عالم الغيب الوحدوي وسديمه القومي.. ولذلك فإن الدستور السوري لا يعترف بسوريا كوطن بل معبر إلى (الوطن العربي)، هذه الحقيقة تسقط كل التحليلات والتأويلات التي تعزو للأسد الأب ترسيخ الكيان السوري، حيث أن أي ترسخ يتراءى لنا بوصفه كياناً، إنما هو ناتج عن الارتباط الغريزي للأسد ببقائه كحاكم إلى الأبد من خلال تحويل الكيان السوري إلى مملكة وراثية على قدر حجم أوراكه السلطانية العائلية والوراثية.. وبالتالي فقد كانت سيرورة نصف القرن الماضي في سوريا، هو صراع هويات بين الانتماء إلى عروبة يوتوبية سديمية ماضوية تستند الى القومية (العصبية) وليس للقومية الحديثة التي ولدت في السوق الرأسمالية في صيغة الثورة القومية الديموقراطية أوروبياً..............................................

 

أما العصبية الثانية فهي القائمة على العصبية العمودية – الدموية (الطائفية: الملل والنحل) كهوية انتماء داخلية تتوحد ضد الآخر في الوطن الواحد، إن لم نقل أنها تؤسس عصبيتها الأقلوية من خلال التوحد على كراهية الآخر وهذا ما يفسر قولنا: إن النظام الأمني في قمعه لمجتمعه السوري لا يمارس قمعه بآلية أدواتية تكنوقراطية كما تفعل أجهزة الدولة عموماً، بل بإحساس عال بالمسؤولية الأمنية الطائفية المخلصة والمتحمسة في تنفيذ قرارات قيادتها حين تتماهى معها في كره شعبها.. حيث ضمن هذا الانشداد إلى عصبيتين (قومية وطائفية) سيغدو الوطن -ككيان حقوقي وسياسي ملموس- ضائعاً ومغيباً بين (العصبيتين: القومية ما بعد الوطن، والطائفية ما قبل الوطن).

 

والوطن بهذا المعنى كان عليه أن يتقوض بوصفه تمثيلاً للدولة الوطنية الحديثة التي تشكلت منذ 1919 – ككيان دولة دستورية ديموقراطية برلمانية محكومة مجتمعياً بمبدأ المواطنة، الأمر الذي من شأنه أن ينتج مواطنة حقوقية وقانونية حديثة...................................

 

كان الأسد الأب يعيش حركة (المد والجزر) بين الهويتين، بين هويته القومية والبعثية من جهة، وهويته الطائفية (العلو- شيعية) من جهة أخرى، وذلك بعد أن ساهم من خلال حركة انقلاب 8 آذار 1963 أن يقوض الدولة الوطنية الحديثة ومشروعها الديموقراطي كدولة قانون تستكمل تكوينها السوسيولوجي الأفقي (المواطنوي)، وحياتها السياسية الحزبية والبرلمانية وفق الشرعية الدستورية عبر تقويضها فيما سمي بالشرعية الثورية البعثية الانقلابية العسكرية الريفية.

 

ففي الستينات كان تسعير الصراع القومي (العصبوي)، وليس الديموقراطي ضد الخارج العالمي كعدو امبريالي عبر الاستثمار(الصوتي والخطابي) في القضية الفلسطينية، وذلك على حساب بناء الدولة القانونية الحديثة ذات الشرعية الدستورية وطنياً، وكان يواكب هذا التسعير الخارجي تسعيراً داخلياً وشحناً طائفياً باسم الصراع الطبقي (الريف ضد المدينة، العسكري ضد السياسي - العسكري الريفي (الأقلوي) ضد العسكري المديني)، الذي ما أن وصل الأسد إلى السلطة في انقلابه مع ما سماه الحركة التصحيحية إلا وكان الجيش قد (تطيّف – تعلوّن)..................................

 

هذه الهوية العربية كان يستند فيها الأسد الأب إلى حزب البعث (القومي والمفترض أنه علماني)، وهي الهوية التي تتيح له الانفتاح على المحيط العربي القومي، والذي من خلاله سيدخل حرب تشرين بالمشاركة مع مصر، إذ ستغدو الهوية القومية- بهذا المعنى- وفق المفردات (الكلامية: من علم الكلام) ما يعادل ايديولوجيا (الظاهر) القومي التي من خلالها سيبدأ تأسيس مبدأ التخوين القومي للآخر العربي، وستستمر حتى اليوم بوصفه مزية للخطاب القومي، بما فيه تخوين الفلسطينيين على أساس أن حافظ أسد كان حريصاً على أرض فلسطين أكثر من ياسر عرفات.....................................

 

أما البعد العلوي فهو عنصر العصبية الداخلية التي تتيح له عملية دمج (سلطوي) تقيه الصراعات الداخلية التي تحكم-عادة- عقل العسكر، لكن هذا الدمج (الطائفي) سيحلّ محل (الدمج الوطني) وعلى حسابه، بل وسيغدو في مواجهته وبالتعارض معه، بما كان مآله انفجار أواخر السبعينات وبداية الثمانينات مع الفتنة الدموية الطائفية المرعبة بين الأسد والأخوان المسلمين... فيما يؤكد قاعدة أنه بمقدار ما يتعمق الدمج الطائفي الداخلي-لا الوطني- بمقدار ما يتعمق التفكك الداخلي التناذر والتناثر والتذرر الفئوي والانكفاء الأقلوي والتكور على الذات ثقافياً وجماعاتياً، فيما يعمق ويعزز وينتج ما يسمى (كلامياً) أيديولوجيا الباطن الطائفي التي سترافق خطاب وممارسات ومواقف الأسد الكبير والصغير وتباطنه موجهة له، حيث لن يكون هناك موقف سياسي خارجي أو داخلي لا تباطنه العصبية الداخلية الباطنية.

 

فإذا كانت مرحلة الستينات هي مرحلة بعث العصبية: الهوية القومية سياسياً-بعثياً، والهوية المللية عسكرياً- طائفياً، فإنها في السبعينات ستبحث عن شرعية الاعتراف بهذا المزيج الوشائجي: البعثي- الطائفي شعبياً ومجتمعياً وعربياً.

إذ يشير هنا الكتاب (البعث الشيعي) إلى الفتوى الشهيرة للزعيم الشيعي الإمام موسى الصدر الذي أصدر للأسد فتوى تموز 1973، التي تعلن بأن العلويين مسلمون، وهم من طائفة الشيعة، وذلك قبل شهرين من دخول حرب تشرين مع مصر.

 

لقد كان على حافظ أسد أن يفتعل مشكلة دستورية مع المجتمع من خلال حذف شرط أن يكون "رئيس الجمهورية مسلماً"، لكي يتراجع ويعلن شرعيته الإسلامية من خلال اعتبار العلويين طائفة من الشيعة، حيث كان بإمكانه أن يحافظ على صيغة الدستور القديمة-التي عاد فأقرها- بهدوء دون إحداث هذه التداعيات المثيرة، حيث لأول مرة في تاريخ سوريا يدور الحديث مذهبياً ويتداول الحقل السياسي علناً مفردات طائفية، إذ أن مصطلح "الشيعي" برز لأول مرة في المجال السياسي السوري وطرق أسماع السوريين، وذلك عند هذه الفتوى. ص 34

 

لقد بدا حافظ أسد في ظاهر المشهد أنه بعثي عربي قومي علماني يريد أن يعلمن الدستور السوري من خلال حذف هذه المادة، ولكن التراجع السريع أمام ردود فعل طبقة رجال الدين كشفت حقيقة دوافعه المضمرة، وهي حقيقة رغبته بـ(شرعنة) هويته العصبية الطائفية وطموحها في الغلبة بقوة الشوكة، حيث سيضرب عصفورين بحجر: العصفور الأول: انتزاع الشرعية الطائفية للعلويين من خلال فتوى تشييعها من جهة، وإعطاء حضور شرعي للشيعة في سوريا كأقلية نادرة من جهة أخرى، كنا قد ذكرنا في حينها أن نسبتهم بالنسبة للسكان لا يصل إلا إلى أقل من النصف في الألف الذي تريد إيران-من خلاله البرهنة على أصول سوريا الشيعية – ومن ثم القيام -بدعم الأسد الإبن- أن تشيع المجتمع السوري، بعد تشييع الطائفة العلوية التي تتجاوز 10%.

 

لقد تمكن الأسد من خلال هذه اللعبة المشهدية أن ينقل مركز الثقل في الشرعية السياسية: من الشرعية الدستورية المدنية المؤسسة للدولة الوطنية الحديثة إلى الشرعية المذهبية الطائفية التي توقظ الهويات العتيقة للمجتمع الأهلي على أنقاض الانتماءات السوسيولوجية (المواطنية) الحديثة للمجتمع المدني الذي عرفته الخمسينات.

 

لقد ناور حافظ أسد دستورياً على قوى المجتمع المدني (العلماني)، بعد أن كان قد وضع هذا المجتمع في جعبته عبر ما سمي (الجبهة الوطنية التقدمية)، وذلك عبر الإيحاء بعلمنة الدستور، وناور من جهة ثانية على المجتمع الأهلي لاسترضائه من خلال العودة إلى شرعياته التقليدية المحافظة، عبر افتعال معركة سرعان ما انهزم فيها الأسد مسلّماً بالنفوذ الثقافي لممثلي الأغلبية الطائفية (السنية) للمجتمع، وذلك لكي يؤسس لشرعية ميزان قوى جديدة: عماده العصبية الطائفية وليس الانتماء المدني، إذ لم تمر 3 سنوات على حرب تشرين حتى أسست أول حوزة للتعليم الديني العالي للشيعة في سوريا التي أسست عام 1976 في مقام السيدة زينب الذي سيصبح أشهر مقامات الشيعة فيما يعادل النجف وكربلاء، ويجعل منه "قم" سوريا... طبعاً قبل أن تتناسل الحوزات والحسينيات و تتمأسس كأمر واقع في زمن الابن الذي لم تخترق الهوية الوطنية الثقافية في تاريخ سوريا كما يحدث اليوم، وسيأتي حديث ذلك....

 

إن المنطق الطبيعي العقلاني والتاريخاني يفترض نزوع الأقليات للاندماج (الوطني) مدنياً وعلمانياً، لأنه ليس لها مصلحة في مجتمع منضد على أساس الطوائف، ولا أن تكون فيه نسبة الأكثرية والأقلية على أساس طائفي.

 

هذا هو المنطق المدني العقلاني الحديث للدولة الوطنية الحديثة التي تستند فيه الى الشرعية البرلمانية وصندوق الاقتراع، ومن ثم المنافسة على الأكثرية والأقلية السياسية –وليس الطائفية- وفق آليات المنافسة الحزبية في إطار التعددية السياسية والفكرية.

 

لكن حافظ أسد كان قد حسم أمره ضد فكرة استعادة سوريا كدولة وطنية حديثة تستند الى الشرعية الدستورية والقانونية، ومن ثم قياس الأكثرية والأقلية على أساس المنافسة الحزبية، وذلك عندما حشد الأحزاب خلفه ودفعها إلى الإقرار المهين والذليل بموتها بإرادتها الذاتية، وذلك عندما قبلت أن لا تعمل في أوساط الشباب من الطلاب والجيش... وكأنها بادلت مستقبلها في الوطن ومستقبل الأجيال اللاحقة بمناصب وامتيازات صغيرة لم يبق لهم من أحزابهم سواها، إن عملية قتل الحياة الحزبية ليس إلا إحياء مبرمجاً لمجتمع الطوائف، والذي من خلال آليته يتيح للأسد أن يستولي على الدولة والمجتمع عبر إنتاج طائفة مسلحة تتفرد بمصائر مجتمع أعزل...!

 

إذ بدأ الأسد منذ هذه اللحظة بانتزاع اعتراف كل (الأحزاب التقدمية) بدولة الفساد التي أراد الأسد أن يؤسس لها ويمؤسسها من خلال قبولهم بمغانم ومكاسب (مرسيدسات)، لا تدخل إلا في إطار الاستيلاء على المال العام تحت عيونهم وصمتهم وبموافقتهم، بعد عملية الاستيلاء الكلي على المجال العام السياسي والوطني والعسكري...

 

إن إلغاء الحياة السياسية من خلال إلغاء الأحزاب السياسية، ولاحقاً النقابات والجمعيات والمنتديات هي دعوة صريحة وبرنامجية لإقامة الدولة الطائفية التي يحل فيها ميزان القوى الطائفي محل ميزان القوى السياسي، وبالتالي –يمكن القول- إن الطائفية السياسية التي يعيشها العراق اليوم ما بعد الاحتلال –مثلاً- ليست نتاج الاحتلال وقيام الأحزاب الطائفية، بل هي نتاج النظام الشمولي البعثي الصدامي في العراق الذي ألغى الحياة السياسية والأحزاب السياسية ولم يترك للمجتمع أن يعبر عن مجتمعيته وميله الطبيعي للاجتماع البشري والوطني إلا عبر قنوات الطائفة والعشيرة.. وكذلك هو واقع التأقطب الطائفي والشحن المذهبي الراهن في سوريا ليس إلا نتاج لإستراتيجية أسدية في الماضي حتى اليوم عبر استمراريتها في النظام الوراثي العائلي الأكثر توغلاً في إلحاقها التبعي اللاوطني بإيران من خلال الإبن الوريث الصغير...

 

هذه المسألة غدت على درجة من الوضوح يبلغ حد الفضيحة المعلنة التي يغدو معها كل أولئك الذين يرطنون بالشعارات العروبو-اسلاموية في المؤتمرات القومية والاسلامية، وهم يهتفون بحياة آل الأسد الوارثة لشعارات آل صدام ولربما لمصيره.... ليسوا إلا شهود زور ودجالون مراؤون ويمنعون الماعون عن شعوبهم وأوطانهم بتضليلها، وأن بضاعتهم التي يتداولونها ويسوقونها باسم الصراع مع إسرائيل وضدها، هي البضاعة الإستراتيجية الإسرائيلية بامتياز، إنها الإستراتيجية القائمة على هزيمة الوعي العربي المدني النهضوي الديموقراطي الدستوري، بوصف هذه الخصائص والسمات التي تمثل قيم حداثية كونية إنما هي مميزات وامتيازات للعقل الإسرائيلي الحداثي، وعلى هذا فهي يحق لها وحدها أن تتفرد بهذه المميزات دون العرب الذين تتركهم بأيدي مجموعة من الطغم المستولية على مجتمعاتها ومن النصابين الايديولوجيين الذين يقنعون العرب أن عظمتهم تكمن في تخلفهم، وأن وخصوصيتهم تحضر في استبدادهم، وأن الديمقراطية بضاعة امبريالية صهيونية... وأن مستقبل الأمة العربية في الصمود والتصدي والممانعة يكمن في قيادة آل الأسد لسوريا والعرب على طريق المستقبل العراقي النموذج... إذ أن إلغاء الحياة السياسية هي دعوة علنية للحياة الطائفية والتي هي بدورها وصفة مضمونة للحرب الأهلية، حيث الطغيان بوابة لضياع الأوطان.

 

إذا لم يستيقظ الضمير العالمي لسوقهم إلى المحكمة الدولية فإن كارثة الحرب الأهلية التي يقودون-بطائفيتهم وفسادهم وميليشياويتهم الأمنية والعائلية – الشعب السوري إليها، قادمة وذلك وفق التفاؤل الإسرائيلي بمستقبل الحرب الأهلية لسوريا..!